نبيل سليمان - أفضل بدوي عرفته المدينة وأفضل حضري عرفته الصحراء

ربما كان أصدق وأوفى تعبير يقال في عبد السلام العجيلي أنه مسكون بالرقة منذ كانت بلدة منسية ومرمية بين فضاء البادية وسيف نهر الفرات. ولئن كانت الرقة ـ بلدة وفضاء ونهراً ـ قد جبلت العجيلي إنساناً كما جبلها إبداعاً، فلعل ذلك الركن المجهول منها (أوضة العجيلي) هو ما رمى في تكوينه بالبذور التي ستسفر سريعاً وعالياً عن طبيب وسياسي وقاصّ ومحاضر وروائي و.. وحكواتي.
كانت (أوضة العجيلي) في (حي العجيلي) بمثابة مضافة تجمع الجيران والأهل في الأفراح وفي المآتم، وتصخب بفض النزاعات واللهو والسمر والأخبار والغناء والسخرية... بينما يسرى نسغها في ذلك الشاب الذي ستغدو عيادته بمثابة مضافة، لكأنها ورثت (الأوضة)، وإن يكن الزمن قد تبدل من عشرينيات القرن العشرين إلى منتصفه وما سيتلو منه حتى نهايته، إذ باتت (العيادة ـ المضافة ـ الأوضة) تجمع المرضى الفقراء من الرقة ومن ريفها، على الرغم من تواتر العيادات الحديثة والمختصة، وليس فقط لأن الطبيب لا يهمه أجر، بل لأنه عبد السلام العجيلي الذي تصخب عيادته بقصص مرضاه وأحاديث زواره، يتمثلها مثلما يتمثلون حكاية منه أو روايةً لشعر أو خبراً عن سفر أو رأياً في قضية.
في عام 1948 ـ على الأرجح ـ ولد هذا الرجل في الرقة لمزارع وملاّك ووجيه هو ويس العجيلي. وقد شارك عمّه وهبي العجيلي في حكومة الرقة إبان انسحاب الأتراك من سورية. ويروي الكاتب أن أسرته تنتمي إلى فرع من عشيرة البوبدران العراقية القاطنة في بادية الموصل، والتي تنتشر فروعها اليوم في بادية دير الزور. كما يروي الكاتب أن جده (الشافعي المذهب) قد نزح في مطلع القرن التاسع عشر من الموطن العراقي، وأن أسرته لم تزل تتواصل مع أقربائها في الموصل والرها (التركية)، وأن مشايخ البوبدران في الموصل يحتفظون بشجرة النسب التي تثبت أنهم (أسياد) من سلالة الحسين بن علي.
تربى عبد السلام العجيلي على يد جده الصارم تربية اسبارطية كما يذكر. ولعل في ذلك سر قوله بأن أبناءه هو أصدقاء لأمهم وليس له. وقد تلقى تعليمه الابتدائي في الرقة، وحمل الشهادة الابتدائية عام 1929، ثم مضى إلى تجهيز (ثانوية) حلب، لكن المرض أعاده إلى الرقة ليقضي أربع سنوات في قراءة كتب التاريخ والدين والقصص الشعبي ودواوين التراث الشعري. وفي هذه الفترة، حين كان في الرابعة أو الخامسة عشرة، قدم شباب الرقة مسرحية، وشارك الفتى عبد السلام العجيلي في الحفل بقصيدة طالباً إغفال اسمه. لكن المقدم قدمه باسمه، مما جعل ذويه يلحون على والده بإرساله إلى حلب لمتابعة الدراسة، بينما كان الوالد يريده أن يكون من سيدير أملاكه وأعماله الزراعية.
في تجهيز حلب بدا ميل الطالب عبد السلام إلى الرياضيات. وقد فاز بالمرتبة الأولى على مستوى سورية في البكالوريا الأولى التي حازها عام 1937 وفي البكالوريا الثانية التي حازها في السنة التالية. وبينما كان والده يريده أن يدرس الحقوق، كان وكده هو في دراسة العلوم في الغرب، لأن مثل هذه الدراسة لم يكن ممكناً في الجامعة السورية (جامعة دمشق لاحقاً). وهكذا انتهى المطاف به إلى دراسة الطب، ليعود إثر تخرجه إلى الرقة، ويشرع باب عيادته منذ ذلك الحين حتى نيّف على الثمانين، إلا أن يكون في واحدة من رحلاته الكثيرة، دون أن ننسى الفترتين اللتين كان فيهما نائباً ووزيراً في دمشق.
لأمر ما تأخر زواج العجيلي حتى عام 1958، حين اقترن بسيدة دمشقية بعد معرفة سريعة. ولئن كان قد أنجب أربعة أولاد، فقد فجع ببكره بعدما بلغ الشباب. وبعيد ذلك كان طلاق العجيلي من زوجته، وهو الذي عدّ الزواج أهم حدث في حياته قائلاً: "فيه عرفت أني رجل من غمار الناس، مهما تصورت أن لي فرديتي واستقلالي". وهنا يُلاحَظ بقوة أن العجيلي يتحوط على حياته الشخصية، كما يتحوط على حياته السياسية، فلا يبقى للمرء إلا ما يقدر من انسراب سيرته في بعض كتاباته. ولا يخرج عن ذلك إلا النزر الذي ضمّه كتاب (أشياء شخصية ـ 1968) حيث يجلو نشأته في بيت متدين، ومواظبته على الصلاة والصوم، وقراءته لقصص المغامرات، وأحلام يقظته بمغامرات يكون هو بطلها. وفي تلك السن المبكرة كتب تمثيلية عن قصة تاريخية وقعت في ضواحي الرقة، كما بدأ بكتابة قصة بوليسية مدفوعاً بولعه بهذا اللون من القصص، وبدأ بكتابة مذكرات شخصية بتأثير من قراءته لـ (آلام فرتر)، وبكتابة قصائد مقفاة يغنيها على ألحان بعض القصائد الدينية مما يحفظ، كي يستقيم وزنها.
لقد ظلت الكتابة واحداً من أسرار العجيلي حتى حمل البكالوريا. ففي عام 1936 نشر قصته الأولى (نومان) بتوقيع (ع. ع.) في مجلة (الرسالة) المصرية المرموقة. كما نشر بأسماء مستعارة قصصاً وقصائد وتعليقات في مجلة (المكشوف) اللبنانية وفي سواها من الدوريات الدمشقية إلى أن فضح السر سعيد الجزائري. ويبدو أن حياة العجيلي الدمشقية، طالباً ومن بعد نائباً، قد كانت بالغة الثراء. ففي عام 1943 فازت قصته (حفنة من دماء) بجائزة مسابقة القصة التي نظمتها مجلة الصباح. وفي عام 1945 شارك في رحلة إلى مصر، وحضر حفلة أم كلثوم السنوية حيث التقى بالشاعر أحمد رامي. كما أنجز في تلك السنة نفسها مجموعته القصصية الأولى (بنت الساحرة) والتي سيتأخر صدورها إلى عام 1948. وفي هذا العام نظم مع عدد من الظرفاء والكتاب (عصبة الساخرين) من بينهم سعيد الجزائري وعبد الغني العطري، وكان العجيلي من اقترح للعصبة اسمها. ومما يرويه من عام 1949 أن رئيس المجلس النيابي فارس الخوري كان يبدو غير آبه بالنواب الشبان التسعة، وبينهم العجيلي، فاتفقوا على الخروج على المألوف من الموافقة الآلية على ميزانية المجلس، وكان العجيلي أول المعترضين على تخصيص 2500 ل. س. كنفقات لسيارة رئيس المجلس، بينما نفقات رئيس الوزراء الذي يجوب البلاد هي 1500 ل. س. وانتهى اعتراض المعترضين بإعادة فارس الخوري للميزانية إلى لجنتها، وقد أدرك ما حاكوه كي لا يؤْثر عليهم أقرانه من المسنين والمخضرمين. ولسوف يجلو ما سيلي هذا الملمح الخاص من شخصية وكتابة العجيلي: ملمح السخرية.

***

على إيقاع نكبة فلسطين (الأولى) وقيام اسرائيل عام 1948، تطوع نائب شاب في البرلمان السوري في جيش الإنقاذ: إنه الدكتور عبد السلام العجيلي الذي كان في التاسعة والعشرين، وقد تخرج قبل ثلاث سنوات من المعهد الطبي العربي في دمشق ـ كلية الطب في جامعة دمشق لاحقاً ـ ودخل البرلمان منذ سنة نائباً عن المحافظة التي ينتمي إليها: الرقة.
مع أكرم الحوراني وغالب العياش من أعضاء البرلمان، ومع آخرين من خارجه ـ من بينهم مصطفى السباعي ـ مضى ذلك الشاب إلى فلسطين. وقد وشمت روح العجيلي تلك الشهور القليلة التي قضاها في فوج اليرموك الثاني تحت قيادة أديب الشيشكلي. فمن تلك التجربة حمل الرجل خيبة مريرة ودائمة. ومنها متح جملة من أفضل ما كتب من القصة القصيرة، ومنها قصة (كفن حمود) من مجموعته القصصية (الحب والنفس ـ 1959).
كان للعجيلي ابن عم هو حمود، استشهد في فلسطين في حرب 1948. وقد رسم الكاتب حسرات وآهات أم حمود وهي تهيء كفن ابنها، وذلك في مقاطع صغيرة مؤثرة وعفوية. وكان الكاتب قد كتب قصة (بنادق في لواء الجليل) في مجموعة (قناديل إشبيلية ـ 1956)، فرسم المتاجرة بسلاح المجاهدين في السوق السوداء. أما في قصة (بريد معاد) فقد وصل الكاتب بين معركة قلعة جدين (20/ 1 /1948) في فلسطين، وبين مآل المجاهد عبد الحليم الذي كان طالباً في كلية الحقوق في جامعة دمشق، وبات بعد حين من الهزيمة رجل أعمال مرموق ديدنه المال.
لعل للمرء أن يؤكد أن نداء فلسطين كان يدوّم في دخيلة عبد السلام العجيلي منذ تعالت أصداء ثورة 1936. آنئذٍ، سافر لأول مرة إلى دمشق دون علم أهله، وهو الطالب الذي نال لتوّه الشهادة الثانوية (البكالوريا) معتقداً أنه استوفى العلم. أما غاية السفر فقد كانت التطوع في صفوف الثوار. ومن أجل ذلك سعى إلى مكتب المحامي شفيق سليمان الذي كان يساهم في إرسال المجاهدين إلى فلسطين، فخاطب الرجل هذا الشاب: "يا بني ارجعْ إلى بلدك وتعلّمْ. الثورة الفلسطينية بحاجة إلى رصاص وخرطوش أكثر من حاجتها إلى رجال". ومنذ ذلك الحين لم يغادر نداء فلسطين عبد السلام العجيلي. فعلى إيقاع هزيمة 1967 كتب قصة (نبوءات الشيخ سلمان) من مجموعة (فارس مدينة القنطرة ـ 1971) عائداً إلى تجربته في حرب 1948، ليرسم وصول متطوعين في جيش الإنقاذ إلى قرية بيت جن، حيث يجافيهم أهلها إلى أن يأتي مستشار الحملة فيبدد جفاءهم. وقد صاغ الكاتب هذه القصة على لسان زبون دائم لخمارة (الشاب الظريف) هو الأستاذ سالم الذي يستعيد ذكرياته في حرب 1948. ومن تلك الذكريات نزوله في ضيافة الشيخ سلمان، وما سمعه من نبوءات الشيخ، وأولها هو موت الطيبين من المتطوعين "أما أنت فستعود إلى أهلك سالماً، لأنك لست طيباً". هكذا يجبه الشيخ الأستاذ، ويتابع أن الأستاذ وأمثاله سيسكبون فشلهم في الحرب قوة، وسيكون لهم سلطان، ولأنهم غير طيبين ولا خبثاء ـ في آن ـ فسيموتون في بلادهم في سبيل فلسطين. ثم تتوالى نبوءات الشيخ سلمان كأنها تخاطب الزمن العربي الذي تلا هزيمة 1948: "جماعات إثر جماعات تتعاقب ثم تنقرض على هذا السبيل. يجيء الطيبون في البدء ويذهبون، ثم الأقل طيبة، ثم يأتي الخبثاء. نعم. إن الخبثاء لابد قادمون. أولئك الذين يبيعون أرضهم وملّتهم، ويتظاهرون أنهم يضحون في سبيل الأرض والله، ويأتي بعد ذلك الخونة الكاذبون، ثم خونة صادقون، لا يبيعون الأرض، بل يتنصلون منها. كل هؤلاء سيأتي بدوره. من ينفض يده من فلسطين، لأنها وقعت في حفرة أعمق من أن تلحقها يده المنقذة، ومن يبيع آلآمها وأطفالها بفلس أو بضحكة امرأة. ويأتي من دمك ولحمك من يتنصل من فلسطين لأنها تنغص نومه أو تفقر جيبه. وبعد كل هؤلاء يأتي الآخرون. إذا كان من قبلهم قد قبض الثمن الذي باعه من تراب الأرض المقدسة، أو من دم أهلها، فإن هؤلاء سيدفعون فوق الأرض ثمناً لخلاصهم منها ومن أهلها. حينذاك، حينذاك فقط، بعد أن يموت الناس ويحترق التراب، ويحكم الفاشل، ثم العاجز، ثم الخائن، ثم الفاجر، ثم تهتز جنبات الأرض، وتحبل الأمة بألم لتلد المنقذ المطهر. هل فهمت ما أقول؟".
إذا كان إيقاع حربي 1948 و 1967 متعنوناً بفلسطين، يصدح في هذه القصة، فسوف يصدحان أيضاً في قصة (فارس مدينة القنطرة) من المجموعة التي حملت هذا العنوان. لكن الإيقاع إياه يحفر في التاريخ هذه المرة ليبلغ الأندلس وهو يطوي الأزمنة ما بين الماضي البعيد والقريب، وما بين الحاضر والمستقبل.
يروي الكاتب في مقدمة القصة أنه قد حصل على صفحاتها الأولى خلال رحلة إلى إسبانيا، حيث تعرف على أسرة إسبانية أهدته مجلداً عربياً قديماً، لم يستطع أن يخرج منه بشيء، فاستعان بصديق له يحضّر الدكتوراه في علم المخطوطات، وانتظر أربعة عشر عاماً إلى أن استلم من صديقه رسالة تتضمن مقتطفات من المخطوطة، انتقى العجيلي بعضها، ونسّقها وسد ثغراتها، فكانت قصة (فارس مدينة القنطرة). وإثر لعبة التقديم هذه ـ والتي يداولها الكاتب كسواه في هيئات شتى ـ تأتي قصة الشاعر المؤرخ الفارس أبو وائل النعمان في هيئة يوميات تبلغ شهراً وواحداً وعشرين يوماً، إثر سقوط غرناطة وإشبيلية في يد الإسبان. والراوي النعمان هو ابن مدينة القنطرة التي سقطت بفعل خيانة ابن ساعر المتحالف مع العدو. فقد أعلن ابن ساعر سقوط مدينة القنطرة قبل وقوعه، لكأن القصة تشير إلى سقوط مدينة القنيطرة في حرب 1967، حيث تتصادى الأسباب عبر القرون، في الجاسوسية والخديعة والخيانة، وبدرجة أدنى كما تعبر القصة، في الفرقة والشقاق، وكل ذلك فيما يبدو هو نفثة مقهورة يكتبها المؤرخ النعمان قبل قرون كما يكتبها بعد قرون عبد السلام العجيلي.
عقب حرب 1948، ومع بدء مسلسل الانقلابات العسكرية في سورية، خرج عبد السلام العجيلي من الحلبة السياسية. وقد قال في ذلك في لقاء مع ياسين رفاعية (النهار 17 /10 / 1965 ـ بيروت): "ومن سوء الحظ كذلك أن سير أمورنا القومية منذ عام 1948 حتى اليوم، جاء مؤيداً لتقديراتي السيئة عن وضعنا وإمكانياتنا، تلك التقديرات التي وضعتها لنفسي في ذلك الحين... هجرت السياسة، كممارسة فعلية، بعد تلك الفترة، وأنا سيء الظن بمقدار ما يمكن للمرء الصالح أن يجنيه منها للنفع العام، وإن كنت لم أهجرها كمراقب ومتتبع ومفكر وكاتب". كما عبرت عن هذه الخيبة ذكرياته السياسية التي نشرها في جزأين.
بيد أن العجيلي نقض هجرانه للسياسة حين تولى لستة أشهر من عام 1962 وزارة الثقافة، ثم جمع إليها وزارتي الإعلام والخارجية في عهد الانفصال الذي أعقب عهد الوحدة السورية المصرية 1958 ـ 1961. ويبدو أن هذا العهد قد أضاف للسياسة في كتابة العجيلي عنواناً جديداً إلى جانب عنوان فلسطين، هو الاستبداد، وسيكون للسياسة عنوان آخر في كتابة العجيلي هو حرب تشرين الأول ـ أكتوبر 1973، فعنوان رابع هو الفساد. وبالطبع ستشتبك هذه العنوانات أو بعضها، كما سنرى في روايات الكاتب بخاصة.
لقد تقدم العجيلي للانتخابات النيابية في دورة 1943، قبل أن يتخرج طبيباً. ومن أجل ذلك أنجز معاملة تعديل سنة ولادته فصارت (1912) حتى يوافق سنّ المرشح. لكن الحظ لم يواف العجيلي في تلك الدورة. ويبدو أن الدافع إليها وإلى تاليتها قد كان أساساً في موقعه من أسرته وفي موقع أسرته من مدينته التي تعلّق بها أيمّا تعلق، حتى صحّ القول أنه ما إن تذكر الرقة حتى يُذكر عبد السلام العجيلي، كما العكس.

***

طالما ردد عبد السلام العجيلي أن الأدب بالنسبة له متعه وهواية، بالكاد يبقى لها من وقته القليل الذي يفضل عما تقتضيه مهنة الطب والرحلات والأسرة وإدارة إرث أبيه منذ توفي عام 1963، وكذلك ما تقتضيه السياسة والشأن العام الاجتماعي. وها هو يقول: "إني لا أنظر إلى الكتابة الأدبية كعمل بل كنوع من أنواع السلوك". وهو لا يعني بذلك أي انتقاص من الاحتراف. غير أن العجيلي، بعد ذلك كله، كتب وبغزارة القصة القصيرة والمقالة والرواية، وهو الذي كتب في بداياته الشعر والمقامة والمسرحية، كما كان لأدب الرحلات وللمحاضرات منه نصيب كبير.
أما في الشعر فليس للعجيلي إلا ديوان واحد هو (الليالي والنجوم ـ 1951). وقد جاء في مقدمته: "إنني منذ نظمت الشعر كنت أحسّ بأن هذا الذي أنظمه همسات بين نفسي ونفسي، أخجل حيناً، وآنف حيناً من أن تتطرق إلى أسماع الأنفس الأخرى". وربما كان ذلك يفسّر إصرار الكاتب على تقديم الشعر على الأجناس الأدبية الأخرى، وإن يكن لم ينشر إلا ديواناً واحداً ضمّ ثمان وعشرين قصيدة ونشيداً، يتمحور نصفها حول المرأة وربعها حول الطبيعة التي تتلامح أيضاً في سائر القصائد، وتتركّز حيث نشأ صاحبها وترعرع، كما ينصّ في مقدمة الديوان: "وليست بيئة الليالي والنجوم إلا زاوية من الأرض قامت فيها بلدة كانت قرية على شاطئ نهر عريض، وعلى سيف بادية بعيدة الآفاق". ففي ذلك الزمن البعيد من مطلع القرن العشرين، كانت للعجيلي مع أسرته رحلة الربيع والصيف إلى البادية، أما النهر (الفرات) فهو ملازم للمقام في كل الفصول.
وقد يكون هنا ما هو أبعد من الطرافة أن يُشار إلى أن جريدة الكفاح الدمشقية قد نظمت مسابقة موضوعها ترجمة شعرية لقصيدة ألفريد دوموسيه (ليلة أيار)، فكان أن فازت القصيدة التي تحمل توقيع (أوس)، أي طالب الطب عبد السلام العجيلي.

***

إلى جانب الشعر كتب هذا الطالب المقامة. وقد ذكر في كتابه الوحيد من هذا الفن ـ وهو كتاب (المقامات) ـ أنه بدأ كتابة المقامة ألهيةً على مقاعد الدرس في تجهيز حلب، ولم يكن يعلم من فن المقامة إلا قليلاً. لكن الأمر راق له فعاد إليه حين صار طالباً جامعياً في دمشق. وقد كانت فاتحة ذلك (المقامة الطبية الأولى) التي نشرتها عام 1942 مجلة الصباح الدمشقية في عدد خاص أصدرته الرابطة الثقافية في المعهد الطبي العربي. وقد حملت المقامة توقيع (بديع الزمان) ونبضت كسواها من سائر مقامات العجيلي بالسخرية. وهي تبدأ بالبداية المعهودة في فن المقامة (حدثنا عبد السلام بن محب: قال:). وسوف يروي هذا المحدث المقامة الطبية الثانية والمقامة البرازيلية، بينما يروي (الأريب النجيب المحب بن حبيب) المقامة الحقوقية، ويروي (هيُّ بن بيّ) المقامة الصحفية، ويروي (الكسّاب الوهاب الدكتور والبة بن الحباب) المقامة القنصلية. أما مقامة (صديقي ثريا ذو الأنف) والمقامة البرلمانية والمقامة الباريسية فقد خرجت على السنن وجاءت بلا رواة. وقد تابع العجيلي في مقاماته سنن إنهاء المقامة و / أو تضمينها أبياتاً من نظمه. ومن ذلك ما ختم به المقامة الحقوقية (1942 أيضاً) التي تسخر من أساتذة معهد الحقوق (كلية الحقوق):

أخنى الزمان على أهلي وأرهاطي ولفّهم دهريَ القاسي بأقماطِ
واستبدل الناس منهم كلَّ طاغيةٍ وكلَّ علج لهم أسماء قرباط
يا طالب العلم منه أنت في شططٍ ذا العلم كذب وأغلاط بأغلاط

وفي المقامة الطبية الثانية (1943) يحدثنا عبد السلام بن محب عن غفوته وهو يحتضن عظماً، ويحلم بالموت والحساب ودخول الجنة ولقائه بفاتنة، ويقول: "وبينما كنت أنهل من رضابها وأغبُّ، غريقاً في لجة الوجد والهوى، إذ سقط الكتاب من حجري وهوى، فانتبهت من حلمي مرعوباً، فوجدتني محتضناً من العظم ظنبوبا ، وقد أهويت على قنزعته بفمي، حتى سال من شفتي دمي، فرفست عندها العظام بعيداً، وصغت حسراتي قصيداً"
في السنة التالية (1944) كتب العجيلي المقامة البرازيلية ـ نسبة إلى مقهى البرازيل الذي كان مهوى المثقفين والساسة والصحفيين ـ ساخراً من أدعياء الثقافة والأدب. وقد ضمّن الكاتب كتابه (المقامات)، المقامة النهدية التي أرسلها نزار قباني من أنقرة ـ حيث كان يعمل في السفارة السورية ـ إلى العجيلي الذي ردّ بالمقامة القنصلية (1949)، وفيها يسمي نزار قباني (صريع الغواني أبي النهد الأشقراني)، ومنها ما ينظمه العجيلي على لسان قباني معرّضاً بديوانه الأول (قالت لي السمراء):

قالت لي السمراء إنك باردُ فأجبتها بل أنت مني أبردُ
ترمين بالنعل العتيقة عاشقاً يروي حكايات الغرام وينشدُ

وقد جاءت المقامة الباريسية (1952) في هيئة رسالة أيضاً أرسلها العجيلي من الرقة إلى صحبه في باريس، ومنهم عبد الرحمن بدوي ويونس بحري وأديب مروة... وبهذه المقامة ودّع العجيلي هذا اللون / الألهية من الكتابة، دون أن يتخلى عن السخرية والإخوانيات.

***

على نحوٍ مماثل لهذه التجربة المبكرة في المقامة؛ والشعر، جاءت تجربة العجيلي في الكتابة المسرحية، ومنها ما أورده ابراهيم الجرادي الذي حرر كتاب (دراسات في أدب عبد السلام العجيلي ـ مجموعة من المؤلفين ـ 1984). حيث ذكر المحرر أن العجيلي كتب لفرقة الفنون الشعبية في الرقة عدداً من الأعمال، مغفلاً اسمه ـ كالعادة ـ ومنها (برج عليا) و(صيد الحباري). وفي هذا الكتاب يذكر وليد إخلاصي أن شهود عيان رووا له أن العجيلي كتب أعمالاً كوميدية لمسارح الهواة في الرقة. ومما يؤكد أن شأن العجيلي مع المسرح شبيه بشأنه مع الشعر، من حيث المحاولة فيه في بداياته، ثم العكوف عنه، هو أن مجلة (الحديث) الحلبية المرموقة نشرت عام 1937 مسرحية (أبو العلاء المعري) في ست عشرة صفحة، وقد حملت هذه المسرحية التي فازت بمسابقة المجلة، توقيع (المقنع)، أي عبد السلام العجيلي، طالب البكالوريا. وتتألف المسرحية من فصلين لكل منهما مناظر، ويدور الحوار فيها بين أبي العلاء المعري وأبو هدرش الشخصية الخرافية القادمة من (رسالة الغفران)، والذي يمثل ضمير أبي العلاء ونقيضه في الفترة التي حاصر فيها أمير حلب صالح بن مرداس مدينة المعرة، وتهددها بالخراب، فنادى أهلوها أبا العلاء ليشفع لهم لدى الطاغية، فنشب الصراع في دخيلة الشاعر بين ذلك النداء وبين ما عاهد نفسه عليه من الاعتزال.
هكذا يبدو أن شخصية العجيلي كانت تمور في فتوته وشبابه موراناً، فتراه يكتب الشعر والمقامة والمسرحية التي ستترك أثراً في حوار ومشهديات بعض قصصه وحكاياته ورواياته. لكن الشعر والمسرح سيوليان من كتابته مثل المقامة، مع عهد الشباب، لتصير الصدارة إلى ما كان يمور في ذلك العهد أيضاً من كتابة القصة، وهذا ما سيظل يمور في حياة العجيلي.

***

أول ما يلفت في القصة العجيلية في المجموعة الأولى (بنت الساحرة)، هو القصة العلمية الطبية، إذ لم تخرج عن هذا التصنيف سوى القصة التي حملت المجموعة عنوانها، ومضت ـ كما يؤشر العنوان ـ إلى عالم آخر هو عالم السحر الذي تنهض به ساحرة غجرية كما سينهض ساحر غجري بالسحر في قصة (العراف) وفي قصة (الظهيرة).. أما قصص (بنت الساحرة) العشر الأخرى فتتأثث بالأمراض والأدوية والأطباء والمرضى، ومنها قصته (قطرات دم) التي فازت في مسابقة مجلة الصباح كما ذكرنا، وكان عنوانها (حفنة من دماء). فالطبيب الداخلي في مستشفى المعهد الطبي، في هذه القصة، كان يعتقد أن دفاتره وكتبه قد حوت حقائق الوجود، وأن القول الفصل هو لـ "شبا أقلام فطاحل من العلماء". لكن هذا الاعتقاد سيتزعزع منذ استقبل جريحة، وعالجها وتبرع لها من دمه، وأقنعها بمزاحه بأن الدم الذي نقله إليها من عروقه سيحدث تغييراً قوياً لأنه دم نبيل عريق لم يتهجن. وقد صدقت الجريحة مزحته، فعاهدته على أن تحافظ على نقاء دمه، وهي الجميلة التي حاول ذووها تزويجها من شيخ ثري، ففرت إلى الزواج من ضابط أجنبي من غير دينها. وبعد عام ونصف غادرها الزوج بلا أثر. ولم يلبث أن صادفها أخوها خارجة من السينما وسافرة، فانهال عليها طعناً حتى حسبها ماتت. لكن الطبيب أنقذ المرأة، والمرأة نأت عن حياتها المترفة، وأخذت مزحة الطبيب تنقلب جداً، فهمّ بمصارحتها: "هذا الدم الذي أثار هواجسها ليس إلا حفنة من ماء مزيج بآثار المعادن والدسم والزلال" وقد بلغ الأمر بالمرأة أن انتحرت أخيراً، مما حيّر المحققين. لكن السرّ تجلوه الرسالة التي كتبتها للطبيب: "لقد جاهدت طويلاً في صيانة وديعتك من الأذى"، ولكي ترتاح من جهادها وتكلله، انتحرت.
من عنوانات القصص الأخرى (الكمأة والكينين ـ الكأس والتخدير ـ انتقام محلول الكينا ـ حمّى ـ النوبة القاتلة..." يتبدى الأثر القوي المبكر للطب في القصة العجيلية، وهو ما سيعود في بعض ما تلا مجموعة (بنت الساحرة) من قصة أو رواية أو حكاية أو مقالة، حيث يرفد الكاتب اللغة القصصية بمفردات وعبارات علمية، يأخذها عليه نقاد بينما يراها آخرون إضافة وامتيازاً، مثلما سيأخذ نقاد على الكاتب انتصار هذا اللون من إبداعه للغيبي أو القدري او الماورائيات على العلم والعقل والمنطق. أما الكاتب الذي يرى أن هذا اللون من إبداعه هو أهم ما كتبه، فيقول في حوار له مع صديقي اسماعيل (مجلة الموقف الأدبي، آب ـ أيلول 1973): "كنت شديد الالتزام لفكرة علمية معينة، أو إنها كانت فكرة ضد العلم إذ أردنا الدقة في التعبير. هذه الفكرة تقول بعجز العقل الإنساني، وعجز معطياته من العلوم السكولاستيكية، عن الإحاطة بمجاهيل النفس البشرية، فكان جهدي في قصصي تلك أن أبيّن ضعف العقل وسليلة العلم في إدراك خفايا النفس، أو أبين فشلهما أمام مشاكل الإنسان الروحية والميتافيزيكية".
على أية حال، تؤكد هذه الفئة من قصص الكاتب أن خطابها الروحي القدري الغيبي... قد جعل التخييل فيها ينسج عرى أخرى بين الحلم والواقع، وبين الأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، لتتعدد الألوان في القصة العجيلية. ففي قصة (سال الدم) من مجموعة (ساعة الملازم) نرى أهل القرية يذبحون ذبيحة كلما ركبّوا بكرة على الفرات لسحب مياهه إلى ريّ الأرض، ولم يخرج منهم على ذلك إلا الحاج صالح الذي جاء بمحرك بدل البكرة. لكن العامل أخفق في إدارة المحرك، حتى إذا عبث به حميد ابن الحاج صالح ووحيده، قتله المحرك، لكأنه استوفى الذبيحة ـ النذر ـ القربان قبل أن يدور.
وفي قصة (الخيل والنساء) التي عنونت مجموعة أخرى، يتجسد تعالق الإنسان والطبيعة فيما يلتبس بين وحدة الوجود وبين الخرافة أو المعتقد الشعبي أو المعجزة. ففي الفضاء البدوي الأثير لدى عبد السلام العجيلي تزفّ نجود بنت الساري إلى عثمان مع هدية أبيها: الفرس الكحلاء. وسرعان ما تقوم التجاذبات أو التناظرات، إن لم نقل: سرعان ما تعلن وحدة الوجود عن نفسها. فنجود تنجب، ومن تنجب يموت، والكحلاء تنجب، ومن تنجب يباع، حتى إذا سلم لنجود واحد (عز الدين)، لم يُبَعْ كرمى له مهر الكحلاء. لكن عز الدين يسقط يوم الطراد عن المهر ويموت، فَيُعَاقَبُ المهر بالإبعاد. وكما تمرض الأم تمرض الكحلاء، كلٌّ على وليدها.
للكثير من قصص العجيلي صلة عميقة بحياته، كأنها شطر من سيرته، وليست فقط من بنات خياله. تلك هي قصة (الحب والأبعاد) من مجموعة (ساعة الملازم) التي يرى راويتها بعين واحدة، فعينه الأخرى زجاجية، كما هو حال عبد السلام العجيلي. ولأن الأمر كذلك، ليس العالم بالنسبة للراوي ذا ثلاثة أبعاد، فالبعد الثالث (السماكة) لا يدركه إلا بعد جهد، لكنه يستعيض عنه بـ (العمق) الذي لا يدركه سليم العينين. وها هو يقول: "ليت لي أن أدخلك في عالمي كي ترى المرئيات والوجود بعيني، إذن لوجدت أنه من البساطة بمكان يمكن أن تحيا الصورة، فتنظر إليك وتبتسم". ولقد رأى الراوي على جدار صورة فتاة هندية، فعايشها شهوراً ثم سافر طويلاً. وحين عاد قضى في مزرعة ابن عمه أياماً حيث رأى عاملة هندية مثل صاحبة الصورة، فعشقها، لكن الهندية ترحل إلى شرقها لتزف إلى ابن عمها، لاويةً عن العاشق الحضري وندائه إلى المدينة.
وتلك هي واحدة من بدائع ما كتب عبد السلام العجيلي من القصة القصيرة: إنها قصة (سالي) التي يرمح فيها الفضاء بين باريس وستوكهولم ومضرب العشيرة في البادية، فتُشرع بذلك الكوة على شاغل آخر من شواغل كتابة العجيلي، يتعنون بـ (الشرق والغرب). فالراوي (البطل) لقصة (سالي) شاب سوري وابن شيخ عشيرة بدوية، يدرس الحقوق في باريس ويستجم في استوكهولم، فيقيم لدى عجوز سيتبين أنها رافقت بعثة أثرية إلى حيث عشيرته، ويرى لديها كتاباً عن بلدته. وفي استوكهولم يلتقي مصادفة بسالي ويتبادلان الإعجاب: هي الحذرة الرصينة وهو الذي يتشهى وقتاً ماتعاً معها. لكن سالي تذكره بأخلاق أهل البادية وتطلب منه ألا يقرب سريرها، حين جمعهما فندق في مدينة أبسالا السويدية، فينصاع مكرهاً ويقرر مفارقة المرأة لاعناً الهوى العذري الذي سيجعله سخرية أقرانه في باريس. وحين يعود الرجل إلى أهله وقد أخفق في دراسته، يروي لأقرانه قصة سالي، فإذا بالخادم المسنّ دحام يدعي معرفتها، ويروي قصة امرأة قدمت في شبابها مع أبيها وخطيبها للتنقيب عن الآثار في البادية، وكان بينها وبين دحام هوى عذري على الرغم من حاجز اللغة. إنها عجوز استوكهولم التي أقام عندها بطل القصة، لكن دحام يعتقد أن سالي هي عينها تلك العجوز. وتوالي سالي مراسلة الراوي الذي يقنع والده بالموافقة على سفره إلى السويد، كي يحضر الوثائق المحفوظة لدى العجوز التي يتحدث عنها دحام، مما سيؤكد ملكية أسرته لمنطقة بئر الأكحل. وبالطبع، فما يضمره الراوي هو لقاء سالي. وبينما تتعذر عليه الوثائق المأمولة بسبب اختفاء العجوز، يعود بسالي زوجة له، لتنجز القصة إشارتها إلى لقاء الشرق والغرب. ولسوف تشغل هذه الإشارة قصة (رصيف العذراء السوداء) أيضاً.
مثل بطل رواية (سالي) هو عباس الطالب العراقي الفاشل المترف، بطل (رصيف العذراء السوداء). ولئن كانت القصتان تعريان الذكر الشرقي الطالب للعلم في الغرب، والمهجوس بالجنس، فالقصة الثانية تبدو كأنها تتبنى مقولة رينان الشهيرة: الشرق شرق والغرب غرب، ولا لقاء بينهما، على العكس من القصة الأولى. فها هي الشقراء ماريا لينا تخاطب عباس: "طريقانا مختلفتان يا عباس، بل لعلهما متعاكستان. أنت سرت من المعرفة نحو المحبة، وأنا بدأت من المحبة لأنتهي إلى المعرفة. في هاتين الطريقين المتعاكستين لا يمكن أن نلتقي إلا مرة واحدة.. ويبدو أننا التقينا تلك المرة. تقاطعت طريقانا مرة واحدة، والتقينا". فماريا لينا ذات النزوع التصوفي المسيحي، والتي تتأثر بالتعبيرية الحسية للرقص الشرقي، تقبل ممارسة الجنس مع عباس ثم تختفي شهوراً، يندم خلالها ويبحث عن المرأة التي صار عاشقاً لها ومتقبلاً لفكرتها (الله محبة). لكن المرأة يصدمها تبدل عباس حين تعود، وترفض حبه.
لقد استأثر الفضاء البدوي بالكثير من قصص العجيلي. كما في قصص (الطراد ـ مصرع محمد بن أحمد الحنطي ـ النفق ـ على فم البئر ـ الجدب والطوفان..). وتنبغي الإشارة هنا بخاصة إلى قصة (النهر سلطان) من مجموعة (الخائن). التي رسمت بعمق الصراع بين الإنسان والطبيعة عبر علاقة العجوز مبروك مع النهر الذي اختطف ابنه منذ ثلاثين سنة، فقيّض للوالد المفجوع أخيراً أن يعمل حارساً للفرقة الهندسية التي تقوم بالدراسات الهندسية الماهدة لبناء سد الفرات، أي تلامح للعجوز أخيراً الأمل بالقصاص من النهر.
في مثل هذه القصص ينبض (الإنساني) بحرارة مثلما تنبض المحلية أو البيئية، ومثلما ينبض فضاء الآخر الغربي في قصص أخرى، سواء اشتبك هذا الفضاء بالفضاء البدوي أو الحضري العربي الإسلامي. ومهما يكن ما تنبض به قصص العجيلي نوعاً ودرجة، فقد تلونت جمالياتها حتى قرنها النقاد مرة إلى إدجار ألان بو، ومرة إلى ستندال، ومرة إلى بلزاك، ومرة إلى تشيخوف، ومرة إلى التراث السردي العربي. وهنا ينبغي التنويه بلعبة تفريع القصة وتفتيق السرد ـ وهو ما ينعت أحياناً بالاستطراد الجاحظي ـ في بعض قصص العجيلي، مثل (بنادق لواء الجليل) و (القفاز) و(الجدب والطوفان). وبالطبع، لا يعدم الإنجاز القصصي للعجيلي العورات، كاعتماد المصادفة أو إبهاظ القصة بالتعليقات، (قصة الحب والنفس: مثلاً) التي تجمع المصادفة بطلها في إيطاليا بألمانية، فيعشقها وتعشقه، وتنهض إزاء قصة حبهما قصة آمور وبسيثه لتبدأ تعليقات البطل على فن رودان وآراؤه في النحت والفن، بإبهاظ القصة. وإلى ذلك تنتأ النكتة والطرافة في بعض القصص (قصة هارب من الموت: مثلاً) أو ينتأ البناء المنطقي المحكم في قصص أخرى، ومثله الخطاب الأيديولوجي سواء ما تعنون منه بالسياسي أو ما تعنون بالقدري والغيبي. إلا أن كل ذلك لا ينال من الصرح الفني الذي شيده عبد السلام العجيلي قاصاً.

***

وكما تنسرب الحكاية إلى ما كتب العجيلي من القصة، وتتلبس بها، هو الأمر أيضاً فيما كتب من أدب الرحلات ومن المقالة. والأمر هو كذلك فيما كتب العجيلي من الرواية. ولعل جماع ذلك يؤكد للعجيلي لقب الحكواتي إضافة إلى ألقاب (الروائي) و(القاص) و(المحاضر) و(الرحالة) و(المثقف)، دون أن ننسى لقبي (الطبيب) و(السياسي).
لقد نافت كتب المقالة في إنتاج العجيلي ـ متلبسة بما ذكرت ـ على اثني عشر كتاباً. لكن امتياز وإنجاز الحكواتي يتبدى فيما كتب العجيلي من أدب الرحلات. ولعل هذه السطور من رسالته إلى أحمد الجندي أن تجلو أسّ ذلك: "إن أقوى الرحلات التي رحلتها أثراً في نفسي رحلة لم أقصّ أمرها عليك من قبل. كانت تلك الرحلة في زمن لم أكن قد تجاوزت السادسة من العمر فيه. وكان الفصل ربيعاً، وأعمامي في تلك الأيام ينزلون البادية في بيوت من الشعر في كل ربيع. ففي ذات يوم رحلنا أنا وَلِدَاتي من أبناء أعمامي من البلدة إلى حيث ينزل أهلنا، ومطايانا لا سيارة ولا طيارة، بل أرجلنا وبعض الحمير".
استوحى العجيلي من قصيدة لبودلير عنوان كتابه (دعوة إلى السفر). ومن حكايات هذا الكتاب حسبي الإشارة إلى هاتين الحكايتين اللتين تتصلان بما تقدم من قصص اللقاء بالآخر (الغرب) في موطنه. أما الحكاية الأولى فهي (فتاة من زوريخ) التي يشتبه فيها حب عبد الكريم بالشفقة بعد ما اكتشف أن المحبوبة مارغوت مشلولة اليد. والحكاية الثانية تخاطب قصة (رصيف العذراء السوداء) عبر شخصية مارياس الصحفية الشاعرة ذات النزعة الصوفية، والتي كانت صديقة الوزراء ورجال الفكر وقطاع الطرق والمقاومين اليوغسلاف، قبل أن تجمعها الصداقة والمصادفة مع الراوي.
قبل ذلك كان العجيلي قد جاء بكتابه (حكايات من الرحلات) ومنه حكاية (ليل باريس) التي تصف الاحتفال بمرور ألفي عام على بناء مدينة لوتسيا (باريس القديمة). وفي باريس أيضاً تأتي حكاية الراوي مع طلبة عرب في ساحة السوربون، حيث يلتقي طالبة عربية متزمتة مع زميلتها الفرنسية المتحررة، ويسهر الثلاثة في ملهى شرقي يصخب فيه أثر الراقصة العربية على الفرنسيات. وفي باريس ـ ثالثة ـ تأتي في هيئة المشهد المسرحي (فرنسا وحمد) حكاية الراوي مع صديقه الفرنسي الدكتور كارل الذي يتبنى سياسة بلاده الاستعمارية في تونس. ومن الملحوظ أن الهاجس القومي / السياسي يحضر في حكايات شتى كهذه الحكاية، وكما في حكاية (ذات الشعر الأحمر) حيث ترتدي صديقة الراوي الأمريكية (الزي الوجودي)، وهي الفقيرة الجائعة التي تكتب الشعر. ويلاحظ الراوي في هذه الحكاية أن الدولار هو الشيء الأمريكي الوحيد ذو القيمة، والباقي تافه تفاهة الرؤوس الحاكمة في واشنطن.

***

إن هذا الحكواتي الذي أبدع في القصة القصيرة، سيمضي إلى الرواية. وأول ذلك كان ـ كما يروي ـ حين ظل رياض طه صاحب مجلة الأحد اللبنانية يلح عليه حتى تعاقد معه على أن يكتب للمجلة رواية مسلسلة. وفي عودته من بيروت تدهورت سيارته فكتب عن ذلك الحلقة الأولى من الرواية الموعودة، ثم تتالت الحلقات، وكانت الرواية الأولى عام 1959 للكاتب (باسمة بين الدموع)، والتي تقدم المحامي الشاب سليمان عطا الله، المتطرف المثالي الاشتراكي الذي يحبذ ملكية الدولة لوسائل الإنتاج الكبرى، والذي لا يؤمن بالحب. وفي المستشفى بعدما أصابه تدهور السيارة بكسور، يحلم بفتاة تدوس ظهره الكسير، هي هيام شقيقة معشوقته باسمة. والرجل إذن عاشق للشقيقتين. وسوف يقدم الفصل الأول من الرواية قصة باسمة من زواجها إلى طلاقها، كما سيقدم جولة سياحية في دمشق القديمة، وقسطاً في السياسة والحزب سوف يتضخم في الفصول التالية، ومنها الفصل الخامس الذي يغطي ندوة لسليمان وصديقه الدكتور إلياس في جامعة دمشق، مما يثقل على الرواية مثلما تثقل عليها الميلودرامية وأصداء العلم والطب التي رأيناها في بعض قصص العجيلي.
بعد خمسة عشر عاماً من رواية (باسمة بين الدموع) جاءت رواية (قلوب على الأسلاك) لتجعل من مشروع التلفريك الذي تعتزم تنفيذه في دمشق (مؤسسة عمران الهندسة والإنشاء والتعمير) معادلاً فنياً لعملية تغيير البلاد وتحديثها، وهذا ما تغطيه ذكريات بطل الرواية طارق عمران عن الفترة التي قضاها في دمشق من أجل المشروع، إبّان الوحدة السورية المصرية 1958 ـ 1961، والتي تتوجت بالانفصال كما تتوج سعي طارق عمران بالخيبة، فعاد إلى قريته في الشمال السوري. وقد ذخرت الرواية بنقد تجربة الوحدة سواء بالغمز من جمال عبد الناصر أو بهتك الفساد والمكتب الثاني ـ جهاز المخابرات ـ والتعريض بالشيوعيين والبعثيين... ومن المهم هنا الإشارة إلى ما يحمله طارق عمران من سمات الكاتب نفسه، شأن سليمان عطا الله في الرواية السابقة، وكذلك هي الإشارة إلى تهافت النساء على أبطال روايات عبد السلام العجيلي.
في تقديم جاك بيرك لترجمة هذه الرواية إلى الفرنسية ـ تحت عنوان: دمشق القطار المعلق ـ يصف بناءها بالكلاسيكي الضخم المحكم والسيمفوني والزاخر بعشرات اللوحات والأحداث والمحاور. لكن جاك بيرك لم يأبه بالانشغال الكبير للرواية بالوحدة، وهذا ما سيشغل رواية العجيلي الثالثة (ألوان الحب الثلاثة). وقد ذكر العجيلي أنه بدأ بكتابة هذه الرواية عام 1959، لكنها لم تكتمل إلا بعد قرابة خمسة عشر عاماً، مثلما لم تكتمل (قلوب على الأسلاك) التي بدأ بكتابتها عام 1965، إلا بعد قرابة عشر سنوات، أما الحجة فهي ضيق الوقت.
ولقد كنت أثناء إقامتي في الرقة التقيت عبد السلام العجيلي في بيته بصحبة أنور قصيباتي، وحدثنا عن رواية لم يستطع إكمالها ولا ينوي العودة إليها، هي (ألوان الحب الثلاثة). وانتهى اللقاء بالاتفاق على أن يكمل الزائران الرواية، لكنني شُغلت عن الأمر بمشروعاتي، بينما تابعه أنور قصيباتي، فجاءت الرواية تحمل اسمه واسم عبد السلام العجيلي. والحق أنه لا يعسر على المرء أن يميز بين أسلوبين في الرواية، أولهما ما اشتهرت به كتابة العجيلي، والثاني تثقل عليه الفلسفة، ويلوح لرواية قصيباتي (نرسيس). أما ما كان إثقاله على الرواية مضاعفاً فهو الترميز للوحدة العربية بشخصية نازك، كما هو التّمحل في تعبير عنوان الرواية عن ثلاثة نماذج نسائية: مدرسة علم النفس سميحة الدمشقية التي ترفض الزواج من بطل الرواية المحامي نديم، ولكن إلى حين، تتكلل علاقتهما بعده بالزواج. أما الأنموذج الثاني فهو سوزانا الأجنبية التي فصم نديم علاقته معها لأنها جرحت وجدانه القومي حين انتقدت العجز العربي، ولم تشفع لها مناصرتها للقضية الفلسطينية. والأنموذج الثالث هو نازك المصرية التي يجعلها الرمز جماع ألوان الحب. ولسوف ينتهي زواج نديم من سميحة بالطلاق متزامناً مع الانفصال الذي فصم عرى الوحدة السورية المصرية، فيكتمل عقد الخراب الذي قضى على علاقة نديم بالأنموذجين الآخرين، بينما الرواية تصدح بأن الوحدة العربية تبدأ من الفراش!
على نحو مماثل تفعل السياسة فعلها في رواية (أزاهير تشرين المدماة) فتورثها من الأذى ما تورث، حيث تسلّطت الدعاوية على الفن الروائي، ابتغاء تمجيد حرب تشرين الأول ـ اكتوبر 1973. غير أن نبل الغاية لا يشفع وحده. وهذا ما يؤكده الاصطناع الفاقع في بناء الرواية، حيث جمعت غرفة في المستشفى العسكري بدمشق الشخصيات الأساسية في الرواية، وأولها الملازم سامي الذي يحمل وشاح خطيبته آسفاً لأنه لم يستطع أن يغمسه في مياه بحيرة مسعدة.
تتخلل الرواية لمزات شتى لأخطاء ومظاهر مجافية، سواء في مواقع المعارك أم في البلاد. وكأنما جاء ذلك ليعزز ما تنشده الرواية من التمجيد. ولعل ذلك هو ما دفع إلى الرواية بفقرات من خطاب للرئيس الراحل حافظ الأسد، دون أن يذكر بالاسم. ولا تخفى في الرواية محاولة الترميز الساذجة في عنوانها، والمستقاة من المعركة التي جرح فيها سامي، إذ أرسل مساعداً ليأتي بأخبار الشهداء، فإذا به قد عاد بزهرة بيضاء يدسّها سامي تحت الخرائط. وحين فتح الدفتر في اليوم التالي وجد أوراق الزهرة التشرينية البيضاء مدماة!!
في الرواية الرابعة (المغمورون) يعود الكاتب إلى ناحية من فضائه الأثير هي موقع بناء سد الفرات، حيث يجمع الحب بين ندى الدمشقية التي آثرت العمل في مشروع السد على سواه، وبين عثمان المشرف على (التعاونية) في مزرعة تجريبية، والموشوم بوشم العشيرة التي كانت تشم جلود جمالها وأغنامها وأبنائها وبناتها. وسيشرح عثمان لندى التي عشقته أنه وأبوه ضحيتان برئيتان، هو ضحية المجتمع، وأبوه ضحية الطبيعة التي جعلته يقتل ابن عمه في لحظة عماء، ويحيا هارباً من الثأر. وها هو مشروع سد الفرات ينتقم للاثنين من الطبيعة ومن المجتمع، فالنهر يُلجمَ، وبحيرة السد أخذت تمتلئ، وستغمر القرى التي على أهلها أن يجلوا عنها موعودين بنعيم القرى والمزارع النموذجية. إلا أن الدولة تخلف الوعد، وتقسر الفلاحين على النزوح بعيداً إلى المحافظة الشرقية التي لا تسميها الرواية، وهي محافظة الحسكة حيث شاءت الدولة أن يكون النازحون العرب حزاماً (أخضر) على الحدود السورية العراقية، يحجز بين أكراد طرفي هذه الحدود. وسنرى عثمان وهو يساهم في إجلاء الفلاحين يصرخ بالإدارة: "هل من سياسة الدولة العليا أن يقطع المسؤلون العلاقة بين الفلاح والأرض ليصبح الفرد بين يديهم عجينة يصنعون منها ما يشاؤون؟".
لقد قدم عبد السلام العجيلي الروايات الأربع السابقة في سبعينيات القرن الماضي. لكن ما يقرب من العقدين سينقضي قبل أن تأتي الرواية الخامسة (أرض السِّياد)، وبالفضاء نفسه الذي كان لرواية (المغمورون). فالمهندس الزراعي الشاب أنور عرفان يحضر من دمشق للعمل في مركز لاستصلاح الأراضي في موقع سد الفرات الذي غدا مدينة من أخلاط الموظفين والباعة والمستثمرين. ولأنور عرفان خطيبته في دمشق، والتي ستنهض رسائلها إليه ورسائله لها بالقسط الأكبر من الرواية، بينما تنهض زيارات أنور إلى حلب بالقسط الآخر، ليتأكد انتصار الفساد على الفلاحين (السِّياد) ممثلاً بالمدير العام والأمير غزلان الذي اشترى الأرض من الدولة بالبخس وباعها للفلاحين بأضعاف مضاعفة، ولم تفلح جهودهم وجهود أنور عرفان وسواه في رد الحق لأصحابه. وأصحاب الحق أولاء ذوو كرامات تتحدث عنها رسائل أنور إلى خطيبته، كما تتحدث عن حفلات الذكر وضرب (الشيش)، أما السر في هذه الغرائب والعجائب فهو الإيمان الذي "لا يعني في كل الأحوال التقوى والتدين".

***

إلى جانب كل ما تقدم ذاعت شهرة عبد السلام العجيلي ككاتب للمقالة في عشرات الصحف والمجلات طوال عشرات السنين. وقد التبست مقالة العجيلي بالحكاية والمحاضرة والمذكرات والمحاورة ـ المقابلة ـ والحديث والرسالة والخاطرة والاعترافات. وحسبي التمثيل لذلك بمقالة (المأساة) من كتاب (من كل واد عصا) حيث يتحدث عن صديق سرعان ما يتكشف أنه هو العجيلي نفسه، إذ يذكر رحلة الرجل إلى مدينة أبسالا السويدية ـ لنتذكرْ قصة (سالي) ـ ويذكر أنه التقى في مقهى دوماغو في باريس بامرأة سيكتشف بعد سنين أنها سيمون دوبوفوار. وليس ذلك غير ما ذكره العجيلي عن نفسه في حواره المشار إليه سابقاً، مع ياسين رفاعية.
في مقالة العجيلي إذن من سيرته ما فيها، شأنها شأن ما كتب من القصة أو الحكاية أو المقامة أو الرواية. على أن المقالة ربما كانت مجلى أكبر صراحة لأفكار صاحبها. ومما يمثل لذلك قوله في مقالة (المأساة): أن المأساة "هي في انتسابك إلى مجموعة بشرية لا ترضيك تصرفاتها، وتحمل شئت أم أبيت هويتها، ونصيبك من مسئولياتها، ثم لا تستطيع أن تغير فتيلاً من تلك التصرفات، ولا أن تتبرأ من ذلك الانتساب". وعلى الرغم مما يبدو في هذا القول من حنق ومرارة، ففي رأي العجيلي "أن كل صاحب فكر وكل قادر على أن يعبر عن فكره يجب أن يسخر إمكانياته، من فكر وتعبير، لخير الجمهور الذي هو منه". وقد أكد مراراً على نفوره من (الالتزام الرسمي) الذي يجعر به (الأدب الرسمي)، كما عبر الكثير من مقالاته عن نزوعه الليبرالي. ولعل الإشارة هنا ضرورية إلى مشاركته في احتفال رابطة حقوق الإنسان (14 /12 /1964) على مدرج جامعة دمشق، بالذكرى السادسة عشرة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان. كذلك هي الإشارة إلى ما قاله عام 1966 في مفكري السلطات المستبدة: "في رأيي أن هؤلاء مرتزقة فكر لا مفكرون"، وعلى النقيض من أولاء هم المثقفون المضظهَدون: "إن للموت أشكالاً جسدية وروحية تُسأل عنها المنافي والمعتقلات والمقابر في كل بلد عربي حكمته سلطة مستبدة في يوم من الأيام".

***


وبعد،
فهاهو جان غولميه يقول في عبد السلام العجيلي: "غوته وستاندال وفلوبير أسماء أعلام في الأدب مشهورة، وعبد السلام العجيلي يستحق أن يشبه بأساتذة فن الرواية الكلاسيكي هؤلاء"؟ وها هو نزار قباني يقول: "أروع بدوي عرفته المدينة، وأروع حضري عرفته الصحراء". وها هو يوسف إدريس يعد عبد السلام العجيلي "رائد القصة القصيرة في الأدب العربي الحديث"، كما يعده حسيب كيالي "واحداً من أهم كتاب العربية بعد الجاحظ". أما سرّ كل هذا التقدير والإجلال، فهو في الأثر العميق الذي تركه منذ انطلق قبل ستين سنة من دائرته الصغرى (الرقة)، وسرعان ما دوّى الأثر الفضاء السوري بخاصة، وفي الفضاء العربي والعالمي بعامة.


نبيل سليمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى