طاولة مستديرة من حول بروست.. ت: حسين عجة

الحلقة الأولى

رولان بارت* : لأنه ينبغي عليَّ أن أكون المتكلم الأول، سأركز خاصة على ما أظنه الطابع الإحراجي لكل حوار من حول بروست : لا يمكن لبروست أن يكون موضوعاً إلا لمحاورة لا تنتهي infini : لا نهائية، ذلك لأنه، أكثر من أيّ مؤلف آخر، لديه ما يقوله لنا إلى ما لا نهاية. أنه ليس مؤلفاً أبدياً éternel، لكنه، كما أعتقد، مؤلف دائم auteur perpétuel، كما يقول المرء روزنامة دائمة. كذلك لا أظن بأن مرد ذلك عائد لثرائه، هذا الثراء الذي يمكن أن يكون مجرد فكرة نوعية، بل بالأحرى إلى نوع من تهدم البنية déstructuration في خطابه. فهو ليس خطاباً مُستطرداً digressé وحسب، كا يقول ذلك البعض، ولكنه خطاب مثقوب troué ومفكك : كوكب يمكن أرتياده إلى ما لا نهاية، فجزئياته لا تكف عن تغيّير مواقعها ومبادلتها البعض مع الآخر. وهذا ما يجعلني أقرأ بروست، وهو واحد من المؤلفين النادرين الذين أعيد قراءتهم، باعتباره معبراً وهمياً، تنيره أضواء مُتعاقبة تخضع لنوع من المعدلة الكهربائية rhéostat المنوعةِ ومن ثم تمرر تدريجياً، وباستمرار أيضاً، الديكور عبر أحجام مختلفة، مستويات متنوعة، وأشكال مختلفة من الوضوح. أنه مادة لا تنفذ، ليس لأنه جديد في كل مرة، فذلك ما لا معنى له، ولكن لأنه يصلنا في كل مرة مُتزحزاً عن مكانه. من هنا، يمكننا القول بأن عمله يخلق "متحرك" حقيقي، وربما يكون التجسيد الحقيقي للكتاب Livre كما حلمَ به ملارميه. من وجهة نظري، لا يمكن أن يُثير "البحث عن الزمن الضائع" (وما يُضاف إلى جواره من النصوص الأخرى) إلا أفكاراً للبحث وليس ابحاثاً. بهذا المعنى، يشكل النص البروستي مادة رائعة للرغبة النقدية le désir critique. أنه موضوع رغبة بالنسبة للنقاد، فكل ما فيه يتمً استنفاذه باستيهام البحث، في فكرة بحث أحدهم عن شيء ما عند بروست و، في ذات الوقت، كل ما فيه يجعل فكرة العثور على نتيجة في ذلك البحث وهميةً. أن تفرد بروست نابع من أنه لا يدعنا نقوم بأي شيء آخر سوى : كتابته ثانية le réécrire، وهذا ما يشكل نقيضاً لإستهلاكه.

جيل دولوز : من ناحيتي، سأكتفي بطرح مشكلة اعتبارها حديثة نوعما. أشعر بنوع من الحضور المهم للغاية، والمقلق تماماً للجنون في هذا العمل. وذلك لا يعني أبداً القول بأن بروست كان مجنوناً، ولكن التأكيد على أن ثمة من حضور حيّ وكبير للجنون في البحث نفسه la Recherche même. بدءً، بوجود ذلك الجنون عند شخصيتين أساسيتين من شخوص العمل. أن حضور الجنون هذا، كما هو الأمر دائماً عند بروست، موزع بحذاقة. إذ من المؤكد، منذ البداية، بأن جارليس Charlus مجنون. فما أن يلمحه المرء حتى يقول مع نفسه : حقاً، أنه مجنون. وهذا ما يقوله لنا الراوي. أمّا بالنسبة للأربتين Albertine، فالقضية معكوسة، فنحن نكتشف جنونها في النهاية؛ أي أن جنونها لا يشكل عندنا يقين مباشر، بل مجرد شك، أو إمكانية. قد تكون مجنونة، وربما كانت كذلك دائماً. وهذا ما توحي به أندريه Andrée في الأخير. منْ هو المجنون إذاً ؟ لا شك أنه جارليس. ألبرتين، ربما. لكن ألا يمكن أن يكون هناك طرف ثالث أكثر منهما جنوناً ؟ ثالث قد يكون مُتخفياً في كل مكان ويتلاعب بيقننا بأن جارليس مجنون واحتمالية أن تكون ألبرتين مجنونة هي كذلك ؟ ألا يمكن أن يكون هناك مشرف على اللعبة ؟ كل واحد يعرف ذلك المُشرفِ، أنه الراوي ذاته. بأي معنى يكون فيه ذلك الراوي مجنوناً ؟ أنه غريب تماماً ذلك الراوي. غريب الأطوار تماماً. كيف يُقدم نفسه ؟ أنه شخص بلا أعضاء، فهو لا يرى، لا يفهم أيّ شيء، ولا يراقب أي شيء، كما لا يعرف أي شيء؛ حينما يعرض عليه أحدهم شيئاً، ينظر إليه : لا يرى؛ يجعله أحدهم يشم شيئاً، ويقول له : لترى كم هو جميل، ينظر، وفي اللحظة التي يُقال له فيه : ولكن لترى، لتنظر قليلاً، -حينئذ يصدح شيء ما في رأسه، يفكر بشيء آخر، شيء ما يهمه، لكنه لا يخضع لنظام الإدراك، ولا للنظام الذهني. ليس لديه من أعضاء، لا أحاسيس ولا إدراك، لا شيء عنده. أنه كالجسد العاري، جسد ضخم غير مُميز.
ما هي فاعلية ذلك الذي لا يرى، لا يحس ولا يفهم أي شيء ؟ أعتقد بأن من يجد نفسه في تلك الحالة لا يمكنه سوى الرد على الإشارات والإيماءات. بتعبير آخر، الراوية عنكبوت. ليس ثمة من نفع للعنكبوت، فهو لا يفهم أي شيء، كما يمكن للمرء أن يضع تحت نظره ذبابة ومع ذلك لا تتولد لديه أية ردة فعل. لكن ما أن تهتز زاوية صغيرة من نسيجه، وإذا بجسده الضخم يتحرك. لا يتمتع بمدركات، وهو بلا أحاسيس. أنه يستجيب إلى الإيماءات، هذا كل ما في الأمر. وكذلك هي الحال عند الراوية. فهو أيضاً يحيك نسيجاً، أي عمله، ويستجيب لهزاته، في ذات اللحظة التي يحيك فيها. عنكبوت-جنون، راوي-جنون لا يفهم أي شيء، ولا يرغب كذلك في فهمه، ولا يهمه أي شيء اللهم إلا تلك الإشارة الصغيرة، الموضوعة هناك في العمق. فجنون جارليس المؤكدِ وكذلك جنون ألبرتين، المحتمل، ينبعان بلا شك منه بالذات. فهو يلقي على كل مكان حضوره المعتمِ، الأعمى؛ في كل مكان أي في الأركان الاربعة من النسيج، النسيج الذي ينسجه، يفككه ويعيد نسجه ثانية. تحول أكثر جذرية حتى مما عند كافكا، ما دام الراوية نفسه قد تحول قبل أن تشرع القصة حتى.
لكن ما الذي يراه المرء حين لا يرى أي شيء ؟ أن ما يجذب الإنتباه في البحث، من وجهة نظري، هو شيء واحد، ذات الشيء المُتكررٍ والمتنوعٍ، في ذات الوقت، بصورة خارقة. إذا ما حاولنا نسخ رؤية الراوي بالطريقة التي ينسخ بها البيولوجين رؤية الذبابة، سنحصل على سديم nébuleuse ترافقه، هنا وهناك، نقاط لماعة صغيرة. مثال، سديم جارليس : ما الذي يراه فيه الراوية، الذي هو ليس بروست بالتأكيد ؟ يرى عينين، تتلامضان، وهما غير متساويتان، ويسمع بغموض صوتاً. هناك تفردان ينطوي عليهما ذلك الجسم الضخم، جسم جارليس. أمّا في حالة ألبرتين، فالسديم ليس فردياً، بل جماعياً، تمييز لا أهمية له من ناحية أخرى. أنه سديم "الفتيات" المُتصاحب مع تفردات بعينها، وهي واحدة منهن. هكذا يجري الأمر دائماً عند بروست. أن الرؤية الأولى العامة هي بمثابة غيمة مع نقاط صغيرة. هناك لحظة أخرى لكنها غير مطمئنة أيضاً. وفقاً للتفردات التي يتضمن عليها السديم، تتشكل سلسلة، سلسلة خطاب جارليس، على سبيل المثال، ثلاثة خطابات مبنية على نفس النمط ولها ذات الإيقاع الواحد، ففي كل مرة يبدأ جارليس بما يمكننا تسميته اليوم بالنكران : "كلا، أنتَ لا تهمني"، ذلك ما يقوله للراوية. اللحظة الثانية، بالمعكوس، منك إلي، "هناك مسافة لا يمكن تخطيها، وأنتَ لا تمثل أي شيء بالنسبة لي". اللحظة الثالثة هي الجنون : في خطاب جارليس، المُسيطر عليه حتى تلك اللحظة، ثمة شيء ما ينحرف. ظاهرة غريبة تتولد في الخطابات الثلاثة جميعها. كذلك ينبغي علينا أن نبين بذات الطريقة بأن هناك سلسلة، وحتى مجموعة سلاسل تتعلق بالأبرتين، التي تفصل نفسها عن سديم الفتيات. أن تلك السلاسل ممهورة بانفجارات سادية-مازوخية؛ أنها سلاسل مُقززة، تجاورها حالات تدنيس، حجوزات؛ ولأنها قد تولدت عن رؤية مصابة بقصر النظر، لذا فهي سلاسل ضخمة وقاسية. ومع ذلك، لا يتوقف الأمر عند هذه النقطة. في لحظة ما، في نهاية تلك السلاسل وكأننا نمر في زمن ثالث نهائي، ينحل كل شيء، يتلاشى وينفجر –ويعاود الإنغلاق- ضمن مجموعة من العلب الصغيرة. كفت ألبرتين في أن تكون. ثمة مئات العلب الصغيرة من ألبرتين، مطروحةً أمامنا، معروضةً على أعيننا، لكنهن غير قادرات على التواصل بعضهن مع البعض الآخر، وفقاً لبعد غاية في الإثارة إلا وهو البعد العرضي dimension transversale. هنا، كما أعتقد، أي في هذه اللحظة الأخيرة، يظهر حقاً موضوع الجنون. بمعية نوع من البراءة النباتية، مطوقاً بسياج هو بالدقة سياج النباتات. أن النص النموذجي، على هذا الصعيد، أي النص الذي يُظهر أفضل من غيره التركيب الثلاثي لرؤية الرواي-العنكبوت، هو النص الذي يصف القبلة الأولى التي يطبعها البطل على خد البرتين (Pléiade, 2, P.363-365). ففي هذا النص نميز بوضوح اللحظات الثلاث الأساسية (لكن بإمكان المرء العثور على العديد غيرها). نعثر أولاً على سديم الوجه، ترافقه نقطة صغيرة لماعة، ومتنقلةً. بعدها، يقترب البطل : "عبر هذه المسافة القصيرة ما بين شفتي وخدها، رأيتُ عشرة من ألبرتين". وفي النهاية، تأتي اللحظة الثالثة والأخيرة، حين يلامس فمه خدها ويصبح هو فيها جسداً معمياً، يتصارع مع ذلك الإنفجار، وحالة ألبرتين الكيئبة : "(...) وفجأة، كفت عيناي عن الرؤية، وبدوره انسحق أنفي، لم يشتم أية رائحة، ولم يتعرف على مذاق الوردة التي كان يرغب فيها، ومن ثم عرفتُ، عبر هذه الإشارات الكريهة، بأني كنتُ على وشك تقبيل خد ألبرتين".
ما يُثير أهتمامي الآن في البحث هو التالي : حضور، مثول الجنون في العمل، والذي هو ليس مجرد ثوباً، ولا كتدرائية، لكن نسيج عنكبوت على وشك أن يتم نسجه أمام أعيننا.

جيرارد جنيت : ما سأقوله استوحيته من هذه المحاورة، ومن نظرة لاحقة على عملي الخاص، القديم والحديث منه المُتعلّقِ ببروست. يبدو لي أن عمل بروست، بحكم ضخامته وتعقيده، وكذلك بحكم طابعه التطوري، وذلك التعاقب المتواصل للحالات états المختلفة لذات النص، إنطلاقاً من "الأيام واللذات" Les Plaisirs et les jours وحتى "الزمن المُستعاد" Temps retrouvé، يعرض أمام الناقد صعوبة تشكل في ذات الوقت، من زاوية نظري، حضاً : بدلاً من التأويلية الكلاسيكية herméneutique classique، التي هي تأويلية نموذجية (أو مجازية) يطرح الناقد تأويلية جديدة، قد تكون تأويلية تركيبية syntagmatique، أو كنائية métonymique إذا ما شئنا. أريد القول بأنه لم يعد كافياً حين يرتبط الأمر ببروست الإنتباه وتسجيل معاودة الدوافع ومن ثم تقديم لائحة من خلال تلك التكرارات، عن طريق التكديس والموافقة على مواد مواضعية (متعلقة بالمواضيع) يجري بعدها أقامة شبكة مثالية، وفقاً لمنهج قدمَ عنه "جارلس موران" Charles Mauran نسخته الأكثر وضوحاً، لكنه يبقى، بالعمق، منهج أي نقد مواضعي critique thématique. كما ينبغي على المرء الأخذ بعين الأعتبار تأثيرات الأقتراب والإبتعاد، أي المكان في النص place dans le texte، القائم ما بين العناصر المختلفة للمحتوى.
لقد جذبت هذه الأمور دائماً، بطبيعة الحال، انتباه محللي التقنية الروائية أو الأسلوبية؛ فقد حدثنا جان روسيه Jean Rousset، مثلاً، عن الطابع التشتتي caractère sporadique لتقديم الشخوص في البحث، كما يحدثنا ليو برساني Leo Bersani عما يسيمه "القوة المنزاحة عن المركز"، "التعالي الأفقي" لأسلوب البحث، والذي يميزه عن أسلوب "جان سونتي"** Jean Santeuil. لكن ما يصلح للتحليل الشكلي (المتعلق بالشكل) يصلح أيضاً كما أعتقد، وبشكل خاص وأكثر وضوحاً عند بروست، للتحيل المواضعي والتفسير l’interprétation. ولكي لا أخذ سوى مثالين أو ثلاثة صادفتها اثناء عملي، يمكنني القول بأنه من المفيد للمرء أن يلاحظ، ومنذ الصفحات الأولى من "إلى جانب كومبري" Combray، ظهور موضوعي الكحول والجنس المتجاورين، وهذا ما سيجعل علاقتهما اللاحقة تقوم على التعادل المجازي (على الأقل). بالمقابل، أجد تأثير الزحزحة، أو التأجيل، إذا ما طبقناه على علاقة "مارسيل" الحبية وأبنت عمه الغريبة؛ الزحزحة والتأجيل اللذين لم يجر تذكرهما إلا فيما بعد، في لحظة بيع الإريكة للعمة "ليوني" إلى بيت المتعة العائد لراشيل. أو ظهور مادة مواضعية كبرج مدينة "روسنفيل"، الذي يظهر مرتين في "كومبري" كشاهد وحافظ سر للأثارات الأيروسية المعزولة للبطل، ومن ثم ظهوره ثانية في "الزمن المُستعاد" ولكن بدلالة أيروسية جديدة، ينعكس صداها على الأولى ويحورها فجأة، حين نعرف بأن ذلك البرج كان مكاناً لممارسات فاجرة تقوم بها "جلبرت" مع فتية القرية. ثمة هنا أثر للتنوع، للأختلاف في الهوية وهو لا يقل في أهميته عن أهمية الهوية؛ لكن لا يكفي تنضيد الحدثين أحدهما فوق الآخر لكي نحصل على تفسير لهما، إذ ينبغي القيام بتأويل ما يقاوم ذلك التنضيد أيضاً. لاسيما ونحن نعرف بأن "البحث" يتولد غالباً عبر تفجر وتفكك الخلايا التوليفية البدائية : أنه كون في طور التمدد، لا تني فيه العناصر التي كانت في البداية قريبة تماماً من بعضها من الإبتعاد عن بعضها الآخر. نحن نعرف، مثلاً، بأن "مارسيل" و"سوان"، "جارليس" ونوربواس" كانا قريبين من بعضهم حد خلط المرء بينهما، كذلك نلاحظ بأن كتاب "ضد سانت بيف" « Contre Sainte-Beuve » يضع تجربة كعكة المادلين بجانب تجربة بلاط "آل غيرمونت"، أمّا المخطوطة التي نشرها "فيليب كولب" Philippe Kolb، فتخبرنا بأن مصادر التجربة التي عاشها البطل في "الفيفون" كان قد حصل عليها منذ طفولته، وبأن كل المعمار المواضيعي "للبحث" يرتكز حالياً على ذلك التباعد العظيم ما بين مداميك الأقواس تلك، أي على انتظارنا الكبير لعملية الكشف النهائية.
كل ذلك يرغمنا، إذاً، على إعارة انتباه خاص للتركيب الزمكاني للدلالات المواضيعية، أي القوة السيميائية للقرينة. لقد شدد رولان بارت أكثر من مرة على الدور اللارمزي للقرينة، والتي يتم التعامل معها دائماً باعتبارها أداة إختزال للمعنى. يبدو لي أنه بإمكاننا تخيل ممارسة عملية لها معاكسة لتلك الممارسة، إنطلاقاً من ملاحظات على هذه الشاكلة. فالقريينة، أي مجال النص l’espace du texte، وتأثيرات ذلك المكان les effets de place المُحدّدِ، هو أيضاً مولد للمعنى. يقول فكتور هيغو، كما أظن ما يلي : « Dans concierge y a cierge »***؛ لذا يمكنني القول أنا أيضاً : « dans contexte il y a texte »****. كذلك لا يمكننا ذكر الواحد دون الإشارة سلفاً نحو الآخر، وذلك ما يخلق مشكلة في الأدب. قد يتوجب علينا بالأحرى ارجاع القوة الرمزية للقرينة، وذلك باستخدامنا لمنهج تأويلي herméneutique، أو سيميائي sémiotique، يرتكز على التحولات التركبية التعبيرية، أي النصوص، أكثر من استناده على الثبات النموذجي. ومعنى هذا –وذلك ما نعرفه على الأقل منذ سويسر Saussure- بأن الأهمية لا تكمن في التكرار répétition، ولكن في الفارق différence، في التغيير modulation، في التحوير altération، وفي ما أطلق عليه يوم أمس "سيرج دبروفسكي" Serge Doubrovskey الملاحظة المخطؤةِ la fausse note : أي التنوع، وإن كان في شكله الأكثر بدائية. إذ قد يكون من الأفضل لنا التفكير بأن دور الناقد، كما هو دور الموسيقار، هو تفسير التنوعات.




*أديرت هذه الطاولة من قبل "سيرج دبروفسكي". الحاضرون هم : رولان بارت، جيرار جنيت، جان ريكاردو، جان بيار ريشارد. دفاتر مارسيل بروست، السلسلة الجديدة، رقم 7، باريس، منشورات غاليمار، 1975، ص 116-87. تمت قراءة النص وتدقيقه من قبل جاك برساني، بموافقة المشاركين. أمّا ترجمتنا لهذه الطاولة المستديرة فهي مأخوذة عن الكتاب الذي صدر بعد وفاة الفيلسوف جيل دولوز والذي يحمل عنوان : "نظامي المجانين" .Deux Régimes de fous
**جان سونتي هي مخطوطة ضخمة عُثر عليها بعد وفاة بروست بزمن طويل، يعتقد بعض النقاد بأنه يمكن التعامل معها باعتبارها مخططاً أولياً لما سيتولد في "البحث عن الزمن الضائع".
*** يلعب هنا فكتور هيغو على كلمة حارس البناية، بالفرنسية Concierge، وكلمة شمع، بالفرنسية Cierge.
**** كذلك يقوم جيرارد جنيت، هنا باللعب على كلمة "قرينة"، بالفرنسية Contexte، وكلمة نص، بالفرنسية Texte، وكأنه يحاول الإيحاء بعلاقة بعينها ما بين النص وقرينته الزمانية-المكانية.

حسين عجة
كاتب وروائي وشاعر عراقي يعيش في باريس




جيل دولوز
  • Like
التفاعلات: Maged Elgrah

تعليقات

الحلقة الثانية

سيرج دبروفسكي : أعتقد بأن هذه المُداخلات الثلاث التي أستمعنا إليها للتو، والتي تبدو للوهلة الأولى وكأن لا جامع بينها، تلتقي ثلاثتها، بالرغم من ذلك، في نفس قماشة العنكبوت، في ذلك النسيج الذي وصفه دولوز بالدقة. أليست هذه هي خصوصية عمل بروست، فهو، في آن معاً، تشظي وعزلة كاملة، ثم، في نهاية المطاف، تواصل واجتماع ؟

رولان بارت : بودي فقط أن أقول لجيرارد جنيت أنه إذا ما قمنا بتحليل المتنوعات، ببحثنا عن موضوع، فأننا نضع أنفسنا بالكامل في موقع تأويلية بعينها، ذلك لأننا نقتفي درباً عمودياً صاعدأ نحو المادة الرئيسية.
لكن (وهنا أعتقد بأن الحق إلى جانب جنيت) إذا ما أفترضنا قيام المرء بتوصيف أو حتى بكتابة تنويع وحسب، تنويع للمتنوعات، حينئذ لا يتعلق الأمر أبداً بالتأويلية، بل ببساطة بالسيميائية. أو بهذه الطريقة على الأقل أحدّد أنا مفردة "سيميائيةِ"، وذلك بأخذي لتعارض كان فوكو Foucault قد طرحه ما بين "التأويلية" و"السيميائية".

جان بيار ريشارد : أمّا أنا، فأرغب بإضافة بضعة كلمات إلى ما قاله جيرارد جنيت. من المؤكد أني أتفق مع التصور الذي تناوله وطوره عن الموضوع du thème، باعتباره مجموعاً، أو سلسلة من التغييرات؛ كما أتفق معه أيضاً في أمنية حدوث أنفتاح أمام المواضعية القرينية thématique contextuelle. لكني أود الإشارة إلى أختلاف بسيط بيني وبينه بخصوص التحدّيد ذاته، الذي قدمه أو أوحى به، عن الموضوع. إذ يبدو لي، على سبيل المثال، بإن برج "روسنفيل"، عبر تحليله، لا يشكل أبداً موضوعاً.
جيرارد جنيت : أنا أسميته "مادة مواضعية" « objet thématique ».
جان بيار ريشارد : ... أراه، لنقل، كباعث un motif، أي مادة يستخدم بروست معاودتها بطريقة واعية تماماً لكي يخلق تأثيرات بعينها، مهمة، وهنا أتفق مع جنيت، بالنسبة للمعنى المؤجل أو المنزاح عن مكانه.
لكن ما يبدو لي بالدقة مواضعي، في مثال برج "روسنفيل"، هو شي آخر : أنه الإمكانية التي يقدمها لنا لفتحه، لجعله ينفجر تقريباً، أو قيامنا، في كل الأحوال، بتحريكه وكأننا نقوم بعملية بعثرة تحريرية لسماته المختلفة الأساسية (صفاته أو وظائفه)، فكّها بعضها عن الآخر، لكي نعاود ربطها بمواد أخرى حاضرة وفاعلة في امتداد الرواية البروستية. من بين تلك الملامح المُحَدّدةِ –أعني التي تحدد المادة، لكن دون استنفاذها أبداً، ولا أغلاقها، بطبيعة الحال، بل على العكس من ذلك فتحها من كل جانب منها نحو ما يُشكل خارجها son dehors- من بين تلك الملامح الخاصة، إذاً، هناك على سبيل المثال مفردة شقرة rousseur (الذي يوحي بها مدلول Roussainville) : تلك الشقرة التي تحيل البرج نحو ليبدو كل الفتيات الشقراوات. أو تلك الشاقولية verticalité (التي سميتموها قبل قليل عن حق بالشاقولية القضيبية phallique) التي تقرب البرج من جميع المواد المنتصبةِ، كما ينطبق الأمر أيضاً على السفليةِ infériorité : ذلك لأن كل ما يتحول من ذلك البرج لكي يصبح إيروسياً يحدث دائماً في طابقه تحت الأرضي. فبفضل تلك الخصوصية سيكون بالإمكان تحوير البرج بطريقة تحت أرضية بغية توجيهه نحو أماكن أخرى أكثر عمقاً وسريةً للبحث، وبصورة استثنائية نحو قبو كنيسة "كومبري"، ونحو السرداق الشرجي للشانزليزيه، الذي تحدث عنه أمس دوبرفسكي، وكذلك نحو مداخل مترو باريس أثناء الحرب، والتي قام "جارليس" بجولاته الغريبة فيها. بل وحتى يمكن القول بأن تحوير الموضوع يظهر هنا بمثابة تحوير أفرويدوياً بامتياز، ما دامنا نلتقي فيه، إلى جانب الحالة الطفولية والإيروسية الذاتية تحت الأرضية (Roussainville)، على تحت أرضية شرجية، والتي هي تحت أرضية الشانزليزيه، ثم تحت أرضية مثلية souterrain homosexuel، متعلقة بالمترو الباريسي. هنا يكمن، من وجهة نظري، تحوير الموضوع. لا يتمثل المواضيعي في الحقيقة بقدرته على إعادة نفسه، أو إنتاجه ثانية بمجموعه، مُتطابقاً أو مختلفاً عن نفسه، ضمن أماكن مختلفة، قريبة أو بعيدة عن النص، بل في ميله العفوي على الإنشطار، والتوزع التجريدي، أو الفئوي باتجاه كل مواد الرواية، بطريقة يخلق معها ضمنياً شبكة واحدة : أو إذا ما شئنا ولكي أستخدم بدوري مجازاً يبدو أنه لا يكف عن مراودتنا هذا المساء، ينسج معها ضمن المجال الإستباقي والتذكري للقراءة نوعاً من القماشة الواسعة لعكنبوت ذا دلالة. آنئذ تكون قراءة المواضيع باعتبارها خطوطاً توجيهيةً لغرض إعادة التوزيع اللانهائي redistribution infini : سلاسل، أجل، لكنها سلاسل مُتناثرة دائماً، مسبوكةً مع غيرها من السلاسل، متقاطعة معها دائماً، أو تعبرها.
أن فكرة العارض traverse هذه تولد لدي الآن رغبة في مساءلة جيل دولوز، الذي تحدث، في نهاية كتابه عن بروست، عن أهيمة العوارض في هذا العمل. من ناحية أخرى، قد يكون بمقدور برج "روسنفل" تقديم مثلاً رائعاً ثانياً عن ذلك : أفكر بشخصية "تيودور". أنكم تتذكرون بأن هذا الولد قد دعيَّ لزيارة قبو "كومبري"، حيث عُثرَ على فتاة مقتولةً هناك حدثنا عنها أمس دوبرفسكي، ولكنه أيضاً واحد من لاعبي اللعب الإيروسية التي تجري ممارستها في البرج، تلك اللعب التي كانت "جلبرت" تشارك فيها. وهكذا نحصل على علاقة قائمة بوضوح، تدعمها مبادلة مع شخصية رئيسية، ما بين نموذجين من التحت-أرضية البروستية، أثنتين من سلاسلنا المكانية-الليبدية spatio-libidinales. أطلب من دولوز، إذاً، أن يقول لي كيف يفهم هو بالدقة فكرة العرضانية هذه عند بروست. لماذا يفضلها على سواها من العلاقات التي تُهيكل المجال البروستي، كالعلاقة البؤرية focalité، أو التناظرية symétrique، والجانبية latéralité ؟ وكيف ترتبط بالدقة مع تجربة الجنون.

جيل دولوز : أعتقد بمقدورنا تسمية عرضياً البعد الذي لا يكون لا أفقياً ولا شاقولياً، إذا ما فترضنا، بطبيعة الحال، بأن هناك خارطة ما. أنا لا أسأل نفسي إذا ما كان ثمة من بعدٍ كهذا في عمل بروست. بل اتساءل ما هي الخدمة التي يمكن أن يؤديها. وإذا ما كان بروست بحاجة له، لمَ يحتاجه. أعتقد أنه ليس لديه من خيار آخر، في نهاية المطاف. هناك شيء يحبه بروست كثيراً، إلا وهو فكرة بأن الأشياء أو الناس أو المجاميع، لا تتواصل. فجارليس علبة، والفتيات علب تحتوي على علب صغيرة أخرى. كذلك لا أظن بأن هذا يشكل مجازاً، على الأقل بمعناه الشائع. علب مغلقة، أو مزهريات لا تواصلية : يبدو لي بأننا نمسك هنا على مُقتنييّن عند بروست، بالمعنى الذي نقول فيه عن إنسان بعينه لديه الأملاك الفلانية، مقتنياته. والحالة هذه فأن هذه الملكيات، وتلك المقتنيات التي يشتغلها بروست على طول وعرض البحث، تتواصل بطريقة غريبة بفضله. في حالة كهذه، أيّ إذا ما كان هناك من تواصل لا يدع نفسه يؤخذ ضمن بعد تواصلي، يمكننا حينئذ تسميته بالتواصل الزائغِ communication aberrante. مثال شهير على هذا النوع من التواصل : اليعسوب والسحلبية le bourdon et l’orchidée. كله مطوق. عند هذه النقطة، يكمن القول بأن هناك رؤية مجنونة، وليس بروست مجنوناً، فالرؤية الجنونية تتمتع بقاعدة نباتية أكثر منها حيوانية. وهذا ما يجعل من الممارسة الجنسية الإنسانية عند بروست شأناً يتعلق بالزهور، ذلك لأن كل واحدة منها ثنائية الجنس bisexué. كل واحد خنثي hermaphrodite لكنه عاجز عن أخصاب نفسه، ما دام الجنسان منفصلان عن بعضهما. لذا فإن السلسلة العشقية أو الجنسية ستكون غاية في الثراء. وإذا ما تكلمنا عن رجل ما، ثمة من جزء ذكري وآخر أنثوي لديه. بالنسبة للجزء الذكري، هناك حالتان أو أربع بالأحرى : يمكنه الدخول في علاقة مع الجزء الذكري عند امرأة أو الجزء الأنوثي فيها، لكنه يستطيع الدخول أيضا في علاقة مع الجزء الأنثوي لرجل آخر أو جزئه الذكري. هناك تواصل، لكنه قائم ما بين مزهريات لا تواصلية؛ كما هناك من انفتاح، بيد أنه قائم بين علب مغلقة. نحن نعرف بأن السحلبية تقدم لنا، وهذا ما هو مرسوم على زهرتها، صورةً عن الحشرة، مع مجساتها، وبأن هذه الصورة هي ما تخصبه الحشرة، وبذلك تضمن تخصيب الزهرة الأنثوية بالزهرة الذكرية : لكي يشير إلى ذلك التقاطع، والإلتقاء الحادث في نمو السحلبة والحشرة، تحدث بيولوجي* معاصر عن تطور لا تناظري، وذلك ما أعنيه بالدقة بالتواصل الزائغِ.
يًقدم لنا مشهد القطار، حيث يعدو الراوية من نافذة إلى أخرى، ويمر من معبر اليسار نحو معبر اليمين وبالعكس، مثلاً آخراً لذات الظاهرة. لا شيء يتواصل rien ne communique : أنه نمط من عالمٍ شاسع مُتشظي. أمّا وحدته، فهي غير قائمة في الشيء الذي تمت رؤيته. ومن ثم علينا البحث عن الوحدة الوحيدة الممكنة عند الراوية نفسه، في مقصورة العنكبوت الذي ينسج فيها قماشته، من نافذة إلى أخرى. أعتقد بأن جميع النقاد قد قالوا نفس الشيء الواحد : لقد صُنعَ البحث برمته، كعمل، ضمن هذا البعد، الذي يلاحق الراوية وحده. أمّا الشخوص الأخرى، كل الشخوص الباقية، فما هي إلا علبٌ، وضيعة أو فائقة الروعة.

سيرج دبروفسكي : هل يمكنني آنئذ طرح السؤال التالي : ما هو موقع "الزمن المُستعاد" ضمن هذا الأفق؟

جيل دولوز : أعتقد بأن "الزمن المُستعادِ"، لا يكّمن في اللحظة التي أدركَ فيها البطل، اللحظة التي يعرف فيها (أستخدم هنا مفردات غير ملائمة، ولكني أقوم بذلك لكي أسرع)، بل في اللحظة التي عرفَ فيها ما قام به منذ البداية. لم يكن يعرف ذلك من قبل. أنها اللحظة التي يعرف فيها بأنه عنكبوت، واللحظة التي يدركُ فيها بأن الجنون كان حاضراً منذ البدء، أي اللحظة التي يفهمُ فيها بأن عمله هو قماشة وعندها يسترد كل ثقته بنفسه. أن "الزمن المُستعاد" هو البعد العرضي بإمتياز. فعن مثل هذا الإنفجار، وذلك الظفر المُتحقق في النهاية، يمكننا القول بأن ذلك العنكبوت قد أدرك كل شيء. لقد فهمَ بأنه يقوم بصنع قماشة، ومن ثم فقد فهمَ بأنه شيء خارق أن يفهم ذلك.

سيرج دبروفسكي : ما الذي تفعله بالقوانين السايكولوجية الكبرى التي يقحمها الراوية على طول سرده ويطلي بها نصه ؟ هل تراها كعوارض مرضية لجنونه أم تحليلات للسلوك الإنساني ؟

جيل دولوز : كلا قطعاً. من ناحية أخرى، أعتقد بأنها محدودة جداً : كما قال جنيت هناك مشاكل طوبولوجية مهمة للغاية. أن القوانين السايكولوجية هي دائماً قوانين السلاسل. ولا تمتلك السلاسل، في عمل بروست، الكلمة النهائية. ثمة دائماً شيء أكثر عمقاً كتلك السلاسل المُنتظمةِ وفقاً للبعد الشاقولي، أو نحو العمق الذي لا يني عن الإتساع. فسلسلة السطوح التي نرى وجه ألبرتين يعبرها تصب في شيء آخر أكثر أهمية ويمسك على الكلمة الأخيرة. والأمر ذاته ينطبق على السلاسل المدموغةِ بقوانين الكذب أو قوانين الغيرة. لهذا ما أن يشتغل بروست القوانين، إلا ويتدخل بعد فكاهي une dimension d’humour يبدو لي غاية في الأهمية وبالتالي يطرح مشكلة التفسير، مشكلة حقيقيةً. أن تفسير أي عمل، كما يبدو لي الأمر، هو دائماً تقييم فكاهته. فالمؤلف العظيم هو ذلك الفرد الذي يضحك كثيراً. في أحدى أولى ظهوراته، يقول "جارليس" للراوية ما يلي تقريباً : أنك تستهين كثيراً بجدتك، أيها الوغد الصغير. يمكن للمرء الإعتقاد بأن جارليس يقول هنا نكتة سوقية. لكن ربما يكون جارليس قد أطلق حينها حكماً استباقياً في الواقع، أي أن حب الجدة، حب الأم، وكل هذه السلسلة، لا تمتلك أبداً الكلمة الأخيرة، فالكلمة الأخيرة كانت : تستهين كثيراً، الخ... وهنا أفكرُ، في الحقيقة، بأن كل المناهج التي تمت الإشارة إليها من قبل تجد نفسها أمام ضرورة أن يأخذ المرء بعين الإعتبار ليس البلاغة وحسب، بل الفاكهي أيضاً.

صوت من القاعة : يا سيد بارت، لقد أوحيتَ بوجود علاقة ما بين البحث والكتاب عند ملارميه، هل لك أن تُدلي بالمزيد حول هذه العلاقة، أم أنها مجرد فكرة ؟

رولان بارت : أنه مشروع تقارب، مجاز، إذا ما شئت. أن كتاب ملارميه هو مجال تحول ما بين النص الذي قُرأ والمشاهدين الذين يغيرون مكانهم في كل لحظة. لقد أشرت ببساطة إلى نقطة أن الكتاب البروستي، أي مجال قراءة هذا الكتاب قد يكون، على طول التاريخ، هو الكتاب الملارمي Livre mallarméen. لا وجود لهذا الكتاب إلا ضمن نوع من المسرحانية غير الهيسترية théâtralité non hystérique، تحويلية بصورة محضة، ترتكز على تحويلات في الأماكن؛ ذلك كل ما كنت أبغي قوله.

سيرج دوبرفسكي : بودي أغتنام لحظة الهدوء القصيرة التي سادت في القاعة لكي أردُ على جنيت. سأكون على أتفاق تام مع ما قاله قبل قليل. أن كل مشاهد البحث يجري معايشتها ثانية، لكن في كل مرة بفارق نوعي يرتبط بتطور الكتاب، بالنص كما هو. لهذا، وبغية تلافي أي سوء فهم، لم أقدمُ تعقيبي الخاص باعتباره بحثاً نهائياً، بل كجهد من أجل تعييّن بعض نقاط الإستدلال في العمل والتي ستخولني فيما بعد على أقامة شبكة من المفارقات. أمّا بخصوص ما قاله دولوز قبل قليل، ربما ما كنت لأقوله بنفس المفردات. لكن كلما زادت قراءتي لبروست، كلما تيقنتُ بأنه ليس مجنوناً، بل –ولتسامحوني على هذا التعبير- كان "مخبولاً" « dingue » نوعما. ولكي نبقى عند هذا المستوى، هناك جمل تبدو ظاهرياً منطقية تماماً، غير أنها، إذا ما نظرنا لها عن قرب أكبر، مُختلةً. إذا كنتُ قد أستخدمت بالأمس لغة التحليل النفسي لتوصيف هذا النوع من الظواهر، فذلك لأنها اللغة المثالية عند الشخص المجنون، أو الجنون المُشفرِ. أستعمل، إذاً، نظام سهل، لكن قد يكون ذلك من أجل تطمين نفسي ثانية.

جان ريكاردو : يمكننا مفصلة المقاربات المتبادلة هنا بسهولة نوعما. ما بودي صياغته، على سبيل المثال، يلتقي بسهولة أكبر مع ما قاله جيرارد جنيت. لذا سأسله إذا ما كان يعتبر التباعد écartement خاصاً ببروست وحده، أي ذلك التناثر الذي يحرك حالياً رغبته النقدية. من ناحيتي، لدي شعور بأن هذه الظاهرة (التي سأطلق عليها طواعية اسم "الجهاز الأوزيرزي" « dispositif osiriaque ») تخصُ كل النصوص. هنا، أفكر بصورة خاصة بأحد الكتاب المعاصرين لبروست (الذي يجري تناوله، للأسف، بشكل أقل بكثير)، أعني "روسل" Roussel. فهو يمارس الكتابة بطريقة يمكننا مقارنتها بتلك التي يستخدمها بروست، بمعنى أن البعض من نصوصه، مثل "انطباعات جديدة عن أفريقيا"، تتركب عبر التكاثر الواضح للعبارات الإعتراضية المقحومة والموضوعة بين هلالين، المتداخلة فيما بينها والتي تباعد ما بين المواضيع، وتنثرها بطريقة لا تكف عن التوسع. بيد أننا نستطيع رؤية ذلك بوضوح أكبر في تركيب نصوص أخرى لروسل. من جانب آخر، ما يُقلقني قليلاً هو أن يتمّ فهم ظاهرة التبعثر تلك وكأنها تشير إلى أنه كان ثمة من وحدة حاضرة في البدء ثم جرى بعثرتها. بتعابير أخرى : يَفْترضُ الجهاز الأوزيرزي، قبل التفكك، حضور جسد ما، جسد أوزرز Osiris. من جهتي، أعتقد أنه من المجدي تصحيح ذلك الجهاز بفكرة أخرى : فكرة "المُربكة المستحيلةِ" « puzzle impossible » (نوع من ألعاب الورق المُعقدةِ. م.م). وهكذا، هناك مجموعة من القطع المفصولة بعضها عن الآخر عبر فاعلية الأقواس الإعتراضية المُتجددةِ دائماً، ولكن، في ذات الوقت، إذا ما إنطلاقنا من هذه القطع المتناثرةِ سنلاحظ، في نهاية المطاف، بأن تركيب تلك الوحدة التي أفترضناها مشطورة، سيوصلنا إلى الشعور بالمربكةِ المستحيلةِ، أي أن تلك القطع لا تتراكب بصورة صحيحة مع بعضها، وقد لا تحصل على هندسة ملائمة لها. ما يُثير أهتمامي، إجمالاً، هو التشديد على أن حالة تلك الوحدة : ليس فقط (كما برهنتهم على ذلك) التمدد والإنتشار espacement et dispersion، بل وأيضاً الأتحاد المُستحيل : ليس ثمة من وحدة أصلية pas d’unité originelle.

*بخصوص هذا السؤال، غالباً ما يستشهد دولوز بعمل "رمي شوفان" Rémy Chauvin، "محاورة من حول الجنس" Entretien sur la sexualité, Paris, Plon, P.205

ملاحظة:
أديرت هذه الطاولة من قبل "سيرج دبروفسكي". الحاضرون هم : رولان بارت، جيرار جنيت، جان ريكاردو، جان بيار ريشارد. دفاتر مارسيل بروست، السلسلة الجديدة، رقم 7، باريس، منشورات غاليمار، 1975، ص 116-87. تمت قراءة النص وتدقيقه من قبل جاك برساني، بموافقة المشاركين. أمّا ترجمتنا لهذه الطاولة المستديرة فهي مأخوذة عن الكتاب الذي صدر بعد وفاة الفيلسوف جيل دولوز والذي يحمل عنوان : "نظامي المجانين" .Deux Régimes de fous


حسين عجة
كاتب وروائي وشاعر عراقي يعيش في باريس





 
الحلقة الثالثة

رولان بارت : أرى بأننا ندور دائماً من حول نقطة الشكل، الموضوع والتنوع. في الموسيقى، هناك شكل أكاديمي ومعياريّ للموضوع، تنوعات براهامز Brahms، مثلاً، من حول موضوع لهايدن Haydn؛ في البداية لدينا موضوع ما، ثم عشرة، أثنتى عشرة أو خمسة عشرة تنوع عنه. لكن لا ينبغي التغافل عن وجود عمل عظيم، ضمن تاريخ الموسيقى، يتظاهر بتناول بنية "الموضوع والتنوعات" « thème et variation » معاً، غير أنه في الحقيقة يقوم بتفكيكها؛ أنها تنوعات بيتهوفن التي تدور من حول رقصة الفالس لديابلي Diabeli، على الأقل كما يصفها ويشرحها "شتوكهوسن" Stochausen، في الكتيب الرائع لبوكرشلف Boucourechliev عن بيتهوفن. يلاحظ المرء هناك بأن المسألة تتعلق بوجود ثلاثة وثلاثين تنوع بلا موضوع. ثمة من موضوع، مُعطى في البداية، وهو غاية في الغباء، لكنه مُعطى بالدقة كموضوع للسخرية. يمكنني القول بأن تنوعات بيتهوفن تلك تعمل إلى حد ما بذات الطريقة التي تعمل فيها عند بروست. يتشتت الموضوع برمته عبر التنوعات، ولن تبقى ثمة من معالجة متنوعة للموضوع. وذلك يعني بأن المجاز قد تحطم بطريقة ما (لأن فكرة التنوع نموذجية). أو، في مطلق الأحوال، قد تمّ تحطيم أصل المجاز؛ أنه مجاز لكن لا أصل له c’est une métaphore, mais sans origine. أعتقد أن ذلك ما يجب علينا قوله.

سؤال آخر من القاعة : بودي طرح سؤال سيكون بمثابة حجارة تلقى في ماء ساكن. أيّ أني أنتظر إجابات متنوعة وتقدم لي قكرة واضحةُ عما تبحثون عنه عند بروست. ذلك السؤال هو التالي : هل يمتلك الراوية منهج ما ؟

جيل دولوز : منهج الراوية ؟ حسناً، لديه العديد منها. الراوية هو في آن معاً شخص يتظاهر بالعيش ويكتب. وذلك ما يطرح العديد من المشكلات المختلفة. ويوصلني كذلك إلى أصل المجاز : علاقة أصلية، علاقة مع الأم، علاقة مع الجسد، علاقة مع تلك "الأنا" « je » التي هي آخر autre والذي نحاول أبدياً إعادة بنائها –لكن هل يمكننا واقعياً بلوغ ذلك بفضل مناهج متنوعة للكتابة ؟

جيرارد جنيت : عندما يتحدث أحدهم عن الراوية في "البحث عن الزمن الضائع"، عليه أن يحدّد إذا ما كان يستخدم هذه المفردة بمعناها الدقيق أو الواسع والغامض، أي إذا ما كان يشيرُ بذلك إلى السارد أو إلى البطل le héros. فيما يتعلق بمنهج البطل، ليس لدي سوى إعادة ما كتبه دلوز عنه : أنه يتعلم منهج فك الشفرات، الخ... ذلك هو منهج البطل، الذي بمقدورنا القول عنه بأنه ينبني تدريجياً. أمّا إذا كان الأمر يتعلق بمنهج الراوية بحد ذاته، فمن الواضح أنه يظل خارج نطاق السؤال المطروحِ.

نفس المحاور : إذا كنتَ تقول بأن منهج البطل، أي الراوية بمعناه الواسع، ينبني تدريجياً، ألا تعتقد بأنك عند هذه النقاط على خلاف مع دلوز ؟ أنا فهمتك جيداً يا سيد دولوز، فكرتك هي أننا لا نكتشف ذلك المنهج إلا في النهاية. في البداية لم يكن هناك سوى مسار غرائزي بمعنى ما، أي مسار لا يمكن أدراكه، لا يحيل على أي شيء ولا يمكن تحليله إلا ضمن "الزمن المُستعاد".

جيرارد جنيت : قلت تواً ما الذي أتفق به مع دولوز.

جيل دلوز : نعم، أنا لا أرى ما تراه من تعارضٍ فيما قلناه.

نفس المحاور : أرى تعارضاً ما بين فكرة أن المنهج ينبني شيئاً فشيئاً، ومن الناحية الأخرى، فكرة أن ذلك المنهج لا يكشف عن نفسه إلا في النهاية.

جيل دلوز : عفواً، لكن ذلك يبدو لي نفس الشيء. عندما يقول المرء أن المنهج يتأسس ضمن نطاق موضعي، فهذا يُشير أولاً إلى أن ما كان موجوداً في البدء، أي هنا وهناك، هو قطعة ما من المحتوى التي تمّ القبض عليها ضمن قطعة ما من المنهج. كذلك حين يقول الراوية مع نفسه : تلك هي النقطة، فهذا لا يعني بأن كل شيء قد تجمع فجأة؛ تبقى القطع قطعاً، والعلب علباً. لكن ما يتم الإمساك عليه في النهاية هو، بدقيق العبارة، أن تلك القطع هي التي بنت العمل بحد ذاته، لكن دون أحالته إلى وحدة متسامية. لذا لا أرى أي تعارض ما بين البناء الموضعي لقطع المنهج والكشف عنه في النهاية.

نفس المحاور : أريد العودة إلى كلمة قلتها في مداخلتك الأولى. لقد قلت في لحظة ما : لكن، ما الذي يفعله الراوية ؟ فهو لا يرى شيئاً، لا يفهم شيئاً؛ ثم إضفتَ : ولا يريد فهم شيئاً.

جيل دلوز : ذلك لا يُثير أهتمامه، هذا ما كان عليَّ قوله. حسناً.

نفس المحاور : حسناً، أتساءل إذا ما كانت إرادة عدم الفهم تلك تُشكل جزءاً من المنهج ذاته. فكرة الرفض: أتخلص من هذا الشيء أو ذاك لأنه لا يُثير أهتمامي. عن طريق الغريزة، أعرف بأنه لا يعنيني. ثمة إذاً من البداية منهج ما، إلا وهو ثقة المرء بغريزة ما. ما يتمّ أكتشافه في النهاية هو أن ذلك المنهج كان من البدء جيداً.

جيل دولوز : ليس لأن ذلك المنهج كان جيداً، بل لأنه أشتغل بصورة جيدة. لكنه ليس منهجاً شمولياً. لذا لا ينبغي القول : كان المنهج الأحسن؛ بل المنهج الوحيد الذي كان بإمكانه العمل بمثل هذه الطريقة التي تولدَ عنها العمل.

نفس المحاور : لكن ألا يتولد الإلتباس بالدقة من مسألة أنه لو كان لدى الراوية، منذ البداية، منهجاً فأنه سيكون منهجاً لا يفترض الهدف الذي يسعى نحوه ؟ لم يكن الهدف مطروحاً في البداية، لكنه يَرتسمُ في النهاية.

جيل دولوز : لكن لا شيء مطروحاً. ولا حتى المنهج. ليس هدف المنهج لم يكن مطروحاً وحسب، بل وأيضاً المنهج نفسه لم يكن مطروحاً.

نفس المحاور : إذا لم يكن مطروحاً، فعلى الأقل كان يتم التلميح به.

جيل دولوز : هل كان يجري التلميح به ؟ سأخذ مثلاً مُحدّداً : كعكة المادلين. أنها تجعلنا نفكر بأن ثمة من جهد قد بُذلْ من قبل الراوية، جهد تمّ تقديمه بصورة مكشوفة باعتباره جهداً منهجياً. ليس هناك حقاً سوى قطعة من منهج في طور الممارسة. والحالة هذه سنعرف، بعد مئات الصفحات، بأن ما تمّ العثور عليه في تلك اللحظة لم يكن كافياً وبأنه ينبغي البحث عن شيء آخر، التقدم في البحث. لذا، أنا لا أعتقد أبداً –ويبدو لي بأنك شرعت، بدورك، بمناقضة نفسك- بأن المنهج كان مطروحاً منذ البدء. لم يكن مطروحاً، بل يعمل هنا وهناك، مع سقوطات تشكل جزءاً من العمل، وحتى عندما يشتغل، لا بد من إعادة تناوله بنمط آخر. وهذا ما يتواصل حتى النهاية، إلى أن يتدخل... نوع... كيف يقول المرء ؟ منْ الكشف. في النهاية وحسب يجعلنا الراوية نلمحَ ما كان عليه منهجه : أنفتاحه على ما يشكل بالنسبة إليه أرغاماً، أنفتاحه على ما يواجهه بعنف. هذا منهج. يمكننا في مطلق الأحوال تسميته بهذا الأسم.

سؤال آخر من القاعة : يا جيل دولوز، أرغب في العودة إلى صورتك عن العنكبوت، وهي صورة مُثيرة تماماً لكي أطرح عليك السؤال التالي : ما الذي تفعله بفكرة الإيمان، التي غالباً ما نعثر عليها عند بروست؟ لقد قلت بأن العنكبوت لا يرى أي شيء؛ لكن بروست يقول في الغالب الأعم بأن هذا المشهد أو ذاك كان يعوم في إيمان ما، أي ضمن أنطباع بعينه يسبق ذلك المشهد، على سبيل المثال، ما يتعلق بأشجار الزعرور، والانطباع الذي تولد عند البطل في الصباح قبل القداس.

جيل دولوز : مرة أخرى، هذا لا يتعارض مع ما قلته عن العنكبوت. ما يتعارض، إذا شئت، هو عالم الإدراك أو العالم الذهني، من جهة، وعالم الإشارات من الجهة الثانية. في كل مرة يتدخل فيها الإيمان، يكون ذلك بمثابة تلقي المرء لمحفز ومن ثم ردة فعله حياله. بهذا المعنى، يكون للعنكبوت إيمان، غير أنه إيمان بإهتزازات قماشته. فالمحفز هو ما يحرك القماشة. وبالقدر الذي لا يكون فيه العالم ضمن تلك القماشة، لا يؤمن العنكبوت على الإطلاق بوجود العالم. لا يؤمن به. لا يؤمن بالذباب. بالمقابل، يؤمن بكل حركة تحدث في القماشة، مهما كان صغر تلك الحركة، وهو يؤمن بها باعتبارها ذبابة، حتى وأن كانت شيئاً.

نفس المحاور : بتعبير آخر، لا وجود لأية مادة إلا تلك التي تدخل في القماشة...

جيل دولوز : إلا إذا بعثت بمحفز يحركُ تلك القماشة، يحركها ضمن الحالة التي وجدت نفسها فيها في تلك اللحظة. ذلك لأنها قماشة تَصنعُ نفسها، تتكون، كما هو الأمر عند العناكب، وهي لا تنتظر حتى تكتمل كلها لكي تشعر بالضحايا. الإيمان الوحيد عند بروست هو إيمانه بوجود الضحية، أي إيمانه بما يحرك القماشة.

نفس المحاور : لكنه هو من يراقبها، تلك الضحية، أي يجعلها تغدو ضحيةً.

جيل دولوز : كلا، يراقب القماشة. ثمة مادة خارجية، لكنها لا تتدخل كونها مادة، لكنها تتدخل باعتبارها باعث للمحفزات.

نفس المحاور : وقد وقعت داخل القماشة التي كان العنكبوت منشغلاً بمراقبتها.

جيل دولوز : أجل.

سؤال آخر من القاعة : بودي طرح سؤال على السيد دولوز والسيد دبروفسكي. يا سيد دولوز، لقد استخدمت لأكثر مرة مفردة جنون : هل يمكنك شرحها بصورة أدق ؟ من ناحية ثانية، يا سيد دوبرفسكي، لقد قلت بأن الراوية ليس مجنوناً، لكنه "مخبول" « dingue » : ذلك يتطلب تفسيراً.

جيل دولوز : لقد انطلقتُ من ذات الإستعمال الذي يستخدمه بروست لهذه المفردة. هناك صفحة رائعة في "السجينة" Prisonnière حول هذا الموضوع : أن ما يُقلق الناس هو ليس الجريمة، ولا الخطأ، لكن شيء أسوء من كل ذلك، أنه الجنون. وهذا ما تقوله أم تكتشف أو تستشعر –وهي غبية تماماً بالمناسبة- بجنون جارليس؛ وحين داعب خد أحد ابنائها وسحب أذنيهما، ثمة هنا شيء أكثر من المُثليةِ، شيء ما لا يُصدق وينتمي لنظام الجنون. وبروست يقول لنا : هذا هو ما يُقلق. أمّا فيما يتعلق بمعرفة ما هو ذلك الجنون وفي أي شيء يكمن، أعتقد، من ناحيتي، بأنه يمكننا القول بأنه شيزوفرنيا schizophrénie. أن عالم العلب المغلقة، الذي حاولت وصفه، وكذلك حالات الإتصال الزوغانية، هو بالتأكيد عالم فصامي schizoïde.

سيرج دوبرفسكي : إذا كنتُ قد أستخدمت مفردة "مخبول"، فذلك لأنني لا أعتقد بأن الأمر يتعلق بالجنون. لا اظن بأن الراوية كان مجنوناً تماماً، مع أنه بمقدورنا إضافة نصاً آخر إلى تلك النصوص التي استشهد بها دولوز، أعني ذلك النص الذي يخبرنا فيه الراوية بأن "فنتايّ" كان قد مات مجنوناً. يحاول البطل النضال ضد جنونه، لنكن على يقين من ذلك، وقد لا يكتب كتابه. لقد رغبتُ، إذاً، في إدخال عنصر الفكاهة الذي تحدث عنه دولوز، وذلك عبر استخدامي لتلك المفردة الإصطلاحية.
لن أكرر ما قلته الأمس عن العصاب النفسي névrose. ما أثار انتباهي، لكي أبقى على مستوى الكتابة وحدها، هو أن نفس القصص، ذات الشخوص، ونفس المواقف لا تكف عن المرور في كل مرة مع تنويع طفيف. أن هذه الظاهرة، التي رجعَ إليها جنيت قبل قليل، كان ليو براسني قد حللها بدقة كبيرة في كتابه عن بروست. تُكرر الأشياء نفسها بطريقة مهوسة، والمصادفات كبيرة جداً، كل شيء يحدث وكأن السرد أصبح إستحلامي إلى حد بعيد. لم نعد ضمن نطاق واقعية سردية بعينها réalisme narratif quelconque، ولكن ضمن هذيان يقدم نفسه بإعتباره سرداً. ينبغي علينا تبيان ذلك عبر سلسلة من الأمثلة، لكن دون الأخذ بعين الاعتبار سوى المُثل البروستية الكبرى، التي طبعها أحدهم في كتيب، والتي إذا ما قرأناها بالتعاقب ستترك آثراً خارقاً : يفتحَ الراوية كنوزاً من العبقرية لكي يبرر تصرفات ضالة جذرياً.

سؤال آخر من القاعة : يا سيد رولان بارت، لدي سؤال لا أستطيع صياغته، ما دام أنه يشير إلى نص لم أفهمه جيداً، أنا أتكلم عن المقدمة التي كتبتها لكتابك "ساد، فوريه، ليولا" Sade, Fourier, Loyola. الأمر يتعلق بـ "لذة النص" « plaisir du texte »، عبر مفردات تُذَكرْ بوضوح واف ببروست، ومن الناحية الأخرى، يتعلق بنوع من الفاعلية النقدية كونها فاعلية تهديمية أو التفافية، ليست بعيدة عن التأويل الذي تحدث عنه جنيت بخصوص التنوعات. يبدو لي شيئاً كهذا مُلتبساً كفاية، وذلك بالقدر الذي يكون فيه تأويل التنوعات قريباً من نمط بعينه من المحكاة pastiche، الذي يمكن أن يوصلنا إلى أسوء أشكال الضياع النقدي.

رولان بارت : لا أرى جيداً التباس المحاكاة.

نفس المحاور : اريد التحدث عن تفسير التنوعات الذي يبدو أنك توافق على تعريفه كونه فاعلية نقدية، والذي أربط أنا بينه وبين لذة النص التي قمت أنتَ بوصفها. بودي معرفة موقع شيء كهذا.


حسين عجة
كاتب وروائي وشاعر عراقي يعيش في باريس


 
4/4

رولان بارت : ليس ثمة من علاقة ما بين لذة النص وهذه المحاورة، مع أن بروست يمثل لدي مادة كبيرة للذة، حتى أني تحدثت قبل قليل عن رغبة نقدية. أن لذة النص هي نوع من المطالبة التي طرحتها أنا، والتي ينبغي التعامل معها الآن على المستوى النظري. لذا سأقول ببساطة قد ينبغي علينا حالياً، نظراً لتطور نظرية النص، التساؤل عن أقتصاد أو قتصاديات لذة النص. ما الذي يجعل نص ما قابل لتوليد لذة؟ ما هو "فائض المتعة" « plus-à-jouir » لنص بعينه، أين يجب وضعها، وهل هي واحدة لدى الجميع ؟ كلا بالتأكيد؛ إلى أين، إذاً، سيقودنا ذلك منهجياً ؟ يمكن للمرء، مثلاً، الإنطلاق من الملاحظة التالية التي تفيد بأنه عبر آلاف السنوات كان هناك بلا ريب لذة أن يروي المرء plaisir de la narration، لذة الحكاية anecdote، لذة القصة histoire، ولذة السرد récit. وإذا ما كنا ننتج اليوم نصوصاً لا روائية، ضمن أي أقتصاد بديل يتمّ فيه القبض على اللذة؟ لا بد من قيام زحزحة للذة، لفائض اللذة، وما نبحث عنه في هذه اللحظة هو نوع من أمتداد لنظرية النص. هذا سؤال، وليس لدي في الوقت الحالي عناصر يمكن إضافتها إليه؛ وهو بمثابة شيء يمكننا تخيل العمل عليه جماعياً، ضمن فصل دراسي للبحث مثلاً.
بخصوص السؤال الثاني، المُتعلّقِ بتفسير التنوعات، سأشدد على ما يلي : الناقد ليس كمحترف اللعب على البيانو الذي سيأول، يعزف منوعات مكتوبة. في الواقع، يصل الأمر بالناقد، على الأقل وقتياً، إلى تحطيم النص البروستي، عبر ردةِ فعله حيال البنية البلاغية (إلى "الخطة") (le « plan ») التي سادت حتى الآن في الدراسات من حول بروست. في لحظة كهذه، لا يكون الناقد أبداً لاعب بيانو تقليدي سيعزف منوعات قائمةً فعلياً في النص، لكنه بالأحرى عامل توليفة، كما هو الأمر في موسيقى ما بعد-السلسلية postsérielle. أنه نفس الفارق الذي يمكن أن يكون ما بين مأول كونشرتو رومانسي l’interprète d’un concerto romantique والموسيقار، أي عامل التشكيل (إذ لم نعد نقول فرقة موسيقية orchestre) القادر على لعب موسيقى معاصرة تماماً، وفقاً لمساحة كتابية لم يعد لها أية علاقة بالتدوين القديم. في هذه اللحظة، يمكن للنص البروستي أن يصبح تدريجياً، بسبب قوة هرقليطيسية تقبض على الناقد، نوعاً من أنواع التوليفة المليئة بالثقوب التي يمكننا فعلاً العمل عليها ليس من أجل عزفها، بل لكي نحدد التنوعات فيها. وهذا ما يجعلنا نعود إلى المشكلة التي طُرَحتْ في حوار سابق أكثر ملموسية، وبالتالي أكثر جدية، أعني الحوار الذي جرى بعد ظهيرة هذا اليوم، من قبل البعض منا والذين طرحوا مشاكل النص البروستي، ضمن الفهم المادي لمفرد "نص" : ربما كانت لدينا حاجة، في تلك اللحظة، لتلك الأوراق البروستية، ليس بسبب حرفية جملها، بل وأيضاً بسبب ما تنطوي عليه من تشكل خطي، أو التفجر الخطي الذي تمثله. بهذا المعنى أعتقد بأنه ثمة من مستقبل، ليس للنقد البروستي (فهذا لا أهمية له : ذلك لأن النقد سيبقى دائماً مؤسسة، يمكن للمرء أن يظل خارجها أو يذهب الى ما ورائها)، بل للقراءة، أي اللذةِ.

جان بيار ريشارد : بعد مداخلة رولان بارت هذه، يظهر أن ثمة من أتفاق، أو التقاء جوهري بين كل المشاركين في هذه الطاولة : لقد وصفَ الجميع الممارسة الكتابية عند بروست ضمن أفق إنفجاري، تشظي وإنقطاع. ومع ذلك، يبدو لي أنه من الجلي، إذا ما قرأنا النص البروستي، بأن هناك إيديولوجيا بروستية idéologie proustienne عن العمل تتناقض مع كل التوصيفات. إنها إيديولوجيا مكشوفة، لا تكف عن تكرار نفسها، وثقيلة بعض الشيء، تميل نحو الإصداء، خطوط التماثل، العلائق، حالات الرنين، الإنقسام على جوانب division en côtés، التناظرات، نقاط الرؤية، "القماشات"، والتي تنتهي، في مقاطع معروفة من "الزمن المُستعاد"، بظهور شخصية تعقد خيوطاً ظلت حتى ذلك الوقت مُتبعثرة. ثمة، إذاً، من تباين ما بين الإيديولجيا البروستية المكشوفة عن النص والوصف الذي تقدمونه حيالها. أطرح عليكم ببساطة السؤال التالي : إذا ما كان ذلك التباين قائماً، ما الذي تفعلونه بالإيديولوجيا البروستية ضمن ممارستها العملية في نصه ؟ كيف يمكنكم تفسير التناقض بين ما يقوله بروست وطريقة قوله ؟

رولان بارت : شخصياً، أرى تلك الإيديولجيا التي تصفها، لكنها تظهر في النهاية بالأحرى..

جان بيار ريشارد : أوه، على طول العمل ؟

رولان بارت : بالأحرى كمتخيل بروستي imaginaire proustien، نوعما بالمعنى الذي يعطيه "لاكان" Lacan لهذه المفردة؛ أن ذلك المتخيل قائم في النص، يتموضع وكأنه في علبة لكنها، سأضيف، علبة يابانية : علبة لا شيء فيها أبداً سوى علبة أخرى، وهكذا دواليك، إلى حد أن ما يجهله النص عن نفسه، سوف ينتهي بالتجسد داخل النص ذاته. تلك هي نوعما الطريقة التي أرى من خلالها نظرية الكتابة، عوضاً عن تلك الإيديولوجيا القائمة في النص البروستي.

جيان بيار ريشارد : هذه النظرية موجودة أيضاً وهي تُهيكلْ النص، كما أنها تظهر أحياناً وكأنها ممارسة. لقد قدمَ دولوز، قبل قليل وعن حق تماماً، مثالاً عن كعكة المادلين، وقال بأن البطل لم يدرك معناها إلا في وقت متأخر تماماً. لكن حينئذ، أي في التجربة الأولى، يقول بروست : كان عليَّ أن اؤجل إلى وقت متأخر فهم ما حدث لي ذلك اليوم. ثمة هنا، إذاً، إفتراض نظري ويقين عن القيمة، قيمة التجربة التي يتم تأويلها في وقت لاحق. يبدو لي من الصعب القول بأنه فقط في الأخير، بصورة مُفاجئة، تشرع القماشة في نسج نفسها أو تفككيها.

جان ريكاردو : أنا لا أتفق تماماً مع صيغة الإيديولوجيا البروستية للعمل، سأقول بالأحرى : إيديولوجيا عمل بروست. لتلك الإيديولوجيا، الداخلية إجمالاً، وظيفتان، وفقاً لتطابقها أو عدمه مع حركة النص. في الحالة الأولى، سوف نحصل على أحدى تأثيرات التمثل-الذاتي autoreprésentation الذي تحدثت عنه في محاضرتي والذي لن أصر عليه. لكن ذلك لا يعني (وهذه طريقة لكي أجعل بعض المفردات التي استخدمتها أكثر دقة) بأن أية إيديولوجيا ضمن النص تتوافق بالضرورة مع حركته. إذ يحدث أنها تتعارض معها تماماً. مع التمثل-الذاتي المعكوس هذا، سوف لن تكون علاقة الحكاية بالسرد علاقة متناظرة، كما هو الأمر في حالة التمثل-الذاتي المستقيم، ولكن علاقة تعارض. ليس مجازاُ، بل أطروحة مناقضة antithèse. في حالة كهذه، يمكن أن يكون الأمر متعلقاً بأستراتيجية وهمية. قد تجذب إيديولوجيا العمل الإنتباه نحو الوحدة، والتجمع، ذلك لأن الطريقة الأمثل للقبض على التشتت هي بالدقة الرغبة في التجميع. كذلك يمكن أن يكون الأمر مرتبطاً بمؤشر على فاعلية مزدوجة. لقد شددت في محاضرتي على التقارب بفضل التشابه analogie، لكن هذا الأخير غير ممكن إلا إذا ما قام المرء بالفصل، بالإبعاد، والتمييز : على هذه الفاعلية الإضافية قد شددَ دولوز وجنيت. إنطلاقاً من ذلك التشديد، قد يمكننا العثور على إيديولوجيا متناقضة في "البحث عن الزمن الضائع" : ليس الآخر منْ سيصبح أنا (إلى جانب أسوان التي تنحل إلى جانب آل غيرمونت)، ولكن الأنا هو منْ سيصبحُ آخر : الميتات، الإنفصالات، الإقصاءات، والتحولات (كل شيء يميل في أن يكون نقيض نفسه). حينئذ، سيكون هناك تمثل-ذاتي لفاعلية تنازعية للنص سببها صراع الإيديولوجيات في النص.

جيرارد جنيت : كلمة عما قاله للتو جان بيار ريشارد : أعتقد بأن هناك تخلف للنظري مقارنة بالعملي عند بروست، كما عند غيره من الكتاب الكثيرين. يمكننا القول، بطريقة بدائية تماماً، بأن بروست واحد من مؤلفي القرن العشرين بإيديولجيا إستطيقية تنتمي إلى القرن التاسع عشر. لكن نحن نعيش في القرن العشرين وينبغي علينا أن نكون نقاد في القرن العشرين، كذلك علينا قراءة بروست بما نحن عليه، وليس كما كان هو يقرأ نفسه. من جانب آخر، تبقى نظريته الأدبية أكثر رهافة من ذلك التركيب العظيم الذي أنجزَ وأغلق "الزمن المُستعاد". ففي نظريته عن القراءة، وقراءة كتابه هو بالذات، حينما يقول، على سبيل المثال، بأن قراءته ينبغي أن تكون قراءة المرء لنفسه، ثمة شيء ما يهدم جزئياً فكرة الإنغلاق النهائي للعمل، وبالتالي الفكرة (الكلاسيكية-الرومانسية) للعمل ذاته d’oeuvre elle-même. ثم هناك عنصر ثالث أيضاً، إلا وهو أن نص بروست لم يعد كما كان عليه، لنقل في عام 1939، حيث كان الناس يعرفون بشكل أساسي "البحث عن الزمن الضائع" إلى جانب عملين أو ثلاثة تم التعامل معها باعتبارها أعمالاً ثانوية. أعتقد بأن الحدث الرئيسي للأعوام الأخيرة، فيما يتعلق بالنقد البروستي، لا يتمثل بأننا ما زلنا قادرين على الكتابة عن بروست، ولكن لأنه هو، إذا ما أمتلكت الجرأة على قول ذلك، مستمر على الكتابة: ظهور تلك الكمية الكبيرة من الملاحظات ما قبل النصوص avant-textes وما يشبه النصوص para-textes التي يتشكل منها "البحث عن الزمن الضائع" والتي هي اليوم أكثر وضوحاً عما كانت عليه حين كان الناس يقرأون البحث باعتباره عملاً معزولاً. أريد القول من وراء هذا بأن ذلك العمل لم ينفتح، كما كان هذا معروفاً دائماً، إلا في النهاية، أي أن دورانه قد منعه من الإنغلاق على نفسه، بتوقفه، لكنه مفتوح من البداية، ليس بمعنى أنه لا ينتهي وحسب، بل وأيضاً بأنه لم يبدأ أبداً تقريباً، ما دام بروست كان من البدء يعمل عليه. وما زال يشتغل عليه بمعنى ما : نحن لا نمتلك بعد كل النص البروستي، وكل ما نقوله حياله سيكون لاغياً جزئياً، ما أن يتوفر لنا النص بكامله؛ لكن لحسن الحظ له ولنا بأننا سوف لن نحصل عليه بكامله.

سؤال آخر من القاعة : أظن أن من بين الأشياء التي قيلت، هناك اثنان منها يثيران القلق. الأول ما قاله دولوز، والثاني دوبرفسكي. وكلاهما يتعلقان بقضية الجنون. فأن يقول المرء مع دولوز بأن موضوع الجنون كان قائماً في كل عمل بروست، هذا شيء، وشيء آخر أن يمد يده ويقول أنظروا أن جارليس مجنون وألبرتين مجنونة. وذلك يعني بأنه بمقدورنا القول عن أي شخص بأنه مجنون : ساد، لوتريامون، أو مالدرور. لماذا جارليس مجنون ؟

جيل دولوز : لتصغي، ليس أنا من يقول ذلك، لكن بروست نفسه. أن بروست هو من قاله منذ البداية : أن جارليس مجنون. وبروست هو الذي جعل "أندريه" تكتب : ربما كانت ألبرتين مجنونة. ذلك موجود في النص. أما فيما يتعلق بمسألة إذا ما كان بروست مجنوناً أو لا، لتسمح لي بأن أقول لك بأني لم أطرح أبداً هذا السؤال. أنا مثلك، لا يجد سؤال كهذاً أهتماماً عندي. كل ما تساءلت عنه مع نفسي هو ببساطة إذا ما كان هناك حضور للجنون في ذلك العمل وما هي وظيفة ذلك الحضور.

نفس المحاور : ليكن. لكن حينئذ يأخذ دوبرفسكي الكلام لكي يقول بأن الجنون، الذي أصبح هذه المرة جنون الكاتب نفسه، يظهر نصفياً في اللحظة التي، عند النهاية تقريباً، تتراكم فيها المصادفات. هل يتوافق قول كهذا مع رؤية لا سايكولوجية عن عمل بروست ؟ إلا يمكن أن يكون ما يحدث في تلك اللحظة هو مجرد زيادة في سرعة تكرار المواضيع ؟ هل تشكل تلك المصادفات، ما تسمونه مصادفات، برهاناً على الجنون ؟

سيرج دوبرفسكي : شخصياً، أعتقد بأن هناك أستراتيجية للراوية –أعني الكاتب الذي يكتب الكتاب- وهي تكمن في توزيع المُثليةِ على الآخرين، وكذلك بإسناد الجنون إلى جارليس أو إلى ألبرتين. وما يحتفظ به لنفسه هو "العصاب النفسي"، الذي يمكن لنا بسهولة التعرف فيه على مرض جسدي-نفسي.
ما أطمح في قوله هو أن العمل بكامله يظهر وكأنه لعبة يحاول الكاتب بفضلها أقامت عالما، وكذلك سرد قصة يمكننا قراءتها، أو التي تمكن غيرنا من قراءتها كقصة. لقد شدّدّ جان بيار ريشارد، قبل قليل، عن حق على وجود إيديولوجيا تُهيكلْ العمل. أن بروست رجل ينتمي إلى القرن التاسع عشر. لكن كلما تضاعفت قراءتنا للبحث، كلما أدركنا بأننا نعيش في عالم ذهني، نفسي، إذا ما شئت، أو بدقة أكبر في عالم لا شعوري inconscient، أو ما لا أدري ما هو، لكنه نصيّ textuel في مطلق الأحوال. وذلك ما يتم عرضه من فوق خطتين متعارضتين : قصة تُروى، لكنها تتحطم في الوقت الذي يجري فيه سردها.

نفس المحاور : هل تبغي القول بأنه في اللحظة التي يكف فيها السرد أن يكون "واقعياً" سنجد أنفسنا أمام الجنون ؟

سيرج دوبرفسكي : أعتقد بأن نوع من الإحساس بعدم إنجاز النص يؤدي إلى التساؤل عن الجنون. لكن مرة أخرى أنا لا أحب هذه المفردة. أضيف فقط بأن ضياع مبدأ الواقعية يبدو لي واحداً من الكشوفات العظمى للكتابة المعاصرة.

سؤال آخر من القاعة : بودي طرح سؤالين، أولهما موجه لرولان بارت والآخر لدولوز.
عندما تقول، يا سيد رولان بارت، بأنه ينبغي إعادة أدخال أقتصاد على نظرية النص، كما هي معروفة حتى هذا الوقت، فأنك تختار اللذة كمحور لهذا البعد الجديد. لكن لذة منْ؟ تقول : أنها لذة القارىء، لذة الناقد. لكن هل يمكن للمرء الشعور باللذة عند قراءته لبروست، الذي يكتب فيما وراء مبدأ اللذة؟ و، بطريقة عامة تماماً، ألم يحن الوقت بعد لوضع الإستثمارات الإقتصاديةinvestissements économiques، وذلك ما لم يقم به أي ناقد، إلى جانب ذلك الذي يكتب بدلاً من وضعها إلى جانب ذلك الذي يقرأ؟

رولان بارت : ربما طرحت موضوع اللذة بطريقة ساذجة نوعما، وذلك بسبب بحثي عنه. أو مُستلبة منذ البدء. قد يقودني ذلك فعلياً، في يوم ما، إلى بلوغ ما تؤكد عليه أنتَ. أنك تطرح سؤالاً، لكنك في الواقع تقدم إجابة قد أحتاج أنا لبضعة أشهر لكي أعثر عليها، أي قد تفقد فكرة لذة النص تلك ما ترتكز عليه. لكني أرغب، مرة واحدة على الأقل، طرحها من البداية، ببساطة وسذاجة، حتى وإن كان المشروع الذي أقوم به سيجعلني أتحطم، أي تفكيكي كذات للذة، ويقضي على اللذةِ عندي. إذ قد لا تجد هذه الذات اللذة في نفسها، وبالتالي لن يكون هناك سوى اللذة وحدها، والتي هي لذةِ الفنطازم plaisir du fantasme.

نفس المحاور : أجل، نحن نسمي ذلك بالفنطازم، لكن هناك شيء آخر أيضاً : نوع من التمتع jouissance الذي يمكن الحصول عليه من رغبة ميتةً prise à un désir mort. عند هذه النقطة بالتحديد ربما نعثر على ما يُحدد نظرة الناقد.

رولان بارت : على أية حال، اللذة التي حصلتُ عليها من بروست سرعان ما قضيت أنتَ عليها. وسوف لن تكون بحيازتي لفترة طويلة، ذلك ما أشعر به.

نفس المحاور : أصل الآن إلى السؤال الذي أرغب في طرحه على دولوز. قلتَ بأن بروست كان ينفتح على ما يواجهه بعنف. لكن ما الذي يُحدثْ عند بروست عنفاً، ما الذي أكتشفه، في النهاية، لكي يُولدْ فيه ذلك العنف؟

جيل دولوز : يحدد بروست دائماً عالم العنف باعتباره ما يشكل وحدةً مع الإيماءات والإشارات، أو هكذا يبدو لي الأمر. أن ما يولد العنف هو الإيماءة، مهما كانت.

نفس المحاور : لكن ألا يمكن أن تكون هناك قراءة أخرى ممكنة لبروست؟ أفكر في نص لموريس بلانشو الذي لا يتعلق الأمر عنده بالإشارات ولكن بالنقوش inscriptions. ينسج العنكبوت قماشته بلا منهج ومن دون هدف. ليكن. لكن هناك وبالرغم من كل شيء مجموعة من النصوص المنقوشةِ في مكان ما : أفكر بتلك العبارة الشهيرة القائلة بأن كل من الجنسين يموت من جانبه، ثمة هنا شيء ما لا يرجع لعالم الإشارات وحده، ولكن لسلسلة أكثر عمقاً وأقل طمأنةً، سلسلة لها علاقة، من بين علاقات أخرى، بالجنس sexualité.

جيل دولوز : ربما يكون عالم الإشارات مطمناً بالنسبة إليك. لكنه ليس كذلك بالنسبة لبروست. كذلك لا أرى لماذا ينبغي على المرء التمييز ما بين ذلك العالم وعالم الجنس، ما دام الجنس عند بروست موضوعاً برمته ضمن عالم الإشارات.

نفس المحاور : نعم، ولكن على المستوى الأول، لكنه منقوشاً كذلك في ناحية أخرى.

جيل دولوز : لكن بأي نوع من النقوش يتعلق الأمر؟ العبارة التي تستشهد أنتَ فيها عن الجنسين هي تنبؤ، أنها لغة الإنبياء، وهي ليست "اللغوس" « logos ». يبعث الإنبياء بالأشارات، أو الإيماءات. كذلك يحتاجون لإشارة تظمن قولهم. ليس هنا أية بلاغة، ولا أي منطق. لذا فإن عالم الإشارات ليس بالعالم المطمئن أبداً، وليس بعالم لا جنسي asexué. أنه، على عكس من ذلك عالم خنثي hermaphrodite، خنثي لا يتواصل مع نفسه : هذا هو عالم العنف.



حسين عجة
كاتب وروائي وشاعر عراقي يعيش في باريس



جيل دولوز
 
أعلى