د. السيد إبراهيم أحمد - قراءة في ديوان: "عايشن حطب" للشاعر محمود السنوسي..

صدر ديوان "عايشن حطب" للشاعر محمود السنوسي عن الهيئة العامة لقصور الثقافة التابعة لوزارة الثقافة المصرية، إقليم القناة وسيناء الثقافي، فرع ثقافة السويس في عام 2019م، وهو يضم تسع عشرة قصيدة كلها باللغة العامية المصرية.

جاء عنوان الديوان مُحملا بالمفارقة اللفظية في إطار التضاد بين المفردة الإيجابية: "عايشين" والمفردة السلبية: "حطب"، وهي دلالة كافية لتنبئنا أن للشاعر رؤيته الفلسفية التي وعت اقتناص لقطة شمولية لواقع مرير آثر أن يؤطرها بجمال المفارقة التي تسمح بتعدد التفسيرات اللغوية أو الفكرية تبعًا لكل متلقي بين ظاهرها وخفيها، وقد عمد الشاعر السنوسي إلى استخدام المفارقة عبر العديد من كلمات في نصوص الديوان، ومنها:

ـ "صوت السكات نواح"، و"من حي عايش للممات"، من قصيدة "عايشين حطب".

ـ "قلب ميت م الحنين" من قصيدة "أنتي مين؟".

ـ "ودوامتك غرقها نجاه" من قصيدة "مفيش عناوين".

ـ "أسد خايب ما لوش أنياب" من قصيدة "قلبي اتعود".

ـ "هادي نورك.. مش دليل" من قصيدة "سرك في بير".

ـ "حَليت بمرار الأيام" من قصيدة "ذكرى".

تصبغ أغلب قصائد الديوان المرارة التي تحملها الكلمات المعبرة عن افتقاد الأمل، وذكر الموت ومترادفاته، وانتهاء بعض القصائد بسؤالٍ يفتقد هو الآخر الإجابة للتأكيد على أن انتظار الأمل هو انتظار ما لا يجيء، بل أن نزوع نفس الشاعر نحو الأمل يقتله بنفسه، أو تنزع نفسه نحو الأمل لكنها لا تنجح في اقتناصه، كما تشيع الألفاظ التي تدل على "الافتقاد"، ويتجلى هذا في المقاطع المختارة من بعض القصائد التي تعانق عناوينها ومضامينها في دلالاتها الإيحاء المُشع بالتضاد من عنوان الديوان، على أن القارئ قد يشعر أنها تشكل قصيدة واحدة:

ـ (هستنى إيه .. من حي عايش للممات
من غير أمل .. غير ف اللي فات)، من قصيدة "عايشين حطب".

ـ (إيه اللي ممكن أعمله؟
إنك تشوفني .. ولا تشوف
جنازة ماشية لوحدها من غير مدد)، من قصيدة "القهوة ساده".

ـ (حلمي وحلمك كانت فكرة
يمكن أصل الفكرة حكاية
تبقى نهاية من غير بكره)، من قصيدة "نفسي".

ـ (أنا المكتوب على شهادتك
ولون القمح مني قريب
بفتّح عيني متواربه
من الغربه من التعقيد
و باكتب إسمى وياهم
وفى بطاقتي مافيش عناوين)، من قصيدة "مفيش عناوين".

ـ (أنا العايش ف بطن الليل ما شفت نهار
ولا شمعه تنور لي ف ركن الدار
ولا ضحكه بتتعشم ... ألملم نفسي من نفسي
ومنهم والقدر ونصيب ... وميت ترعه بتتبخر
وأنا عطشان .. ودمعة عين.. مهيش قادره تبل الريق
وأرض تملي مش فاضيه.. بتتفضى وقالوا عمار)، من قصيدة "قلبي اتعود".

ـ (فين القمرة اللي بتنصفني
غفلت عني
وطلعت ضلمه)، من قصيدة "عمرك".

تقف القصيدة الأخيرة من حيث الترتيب في الديوان، بعنوان: "آذان الفجر" بمثابة مسك الختام له؛ لكونها تقف وحدها متفردة في موضوعها لا يسبقها مشابه لها من قصائد الديوان، كما أنها تتميز بوحدة موضوعية عضوية متماسكة كقطعة نسيج لم يستطع الشاعر محمود السنوسي أن يمارس هوايته في التمهيد لها قبل الولوج إلى ثناياها، خاصة وأن القصيدة تكمن فيها علاقات خفية لا تخرج عن الجو العام الغالب على نصوص الديوان في الانطلاق من نقطة الفشل نحةو اقتناص الفرصة السانحة.

يُنحي الشاعر باللائمة على القدر في أغلب قصائد الديوان، في محاولة حثيثة لتبرئته من الإدانة الذاتية، كما يكمن فيها افتقاد الأمل، فيما يبدو أن حضور الشاعر بالإصالة عن نفسه وبالنيابة عن كافة البشر المؤمنين الواقعين في المنطقة الحائرة بين النفس الأمارة والنفس اللوامة أي بين محاولة الإقدام على الطاعة وبين الإحجام عنها قدريا.

كما أن القصيدة تتميز بالوحدة العضوية والنزوع نحو الدرامية من خلال تعدد الأصوات التي تتمثل في صوت الشاعر وهو يتحدث عن تجربته للمتلقي، ثم الصوت الداخلي في حديث الشاعر مع نفسه وصراعه معها أو مع شيطانه، ثم الحوار داخل القصيدة بين الشاعر والرجل المجهول.. وهو ما يمكن تقطيع القصيدة تبعًا لكل حالة من الحالات المذكورة:

ـ حديث الشاعر للمتلقي في تجربته لخروجه إلى الصلاة، وقد أبدع في تصوير الأجواء من حوله من حيث ترتيب أحداثها دون تدخل منه، وذلك بدايةً من انطلاق الأذان مُعانقًا صوت "جرس المنبه" ثم الانتقال من داخل البيت إلى الشارع الذي تغلفه العتمة، وتتصايح فيه الديكة مع نباح الكلاب في عزف عشوائي، ثم عودة الشاعر مرة أخرى إلى لوم القدر:

ـ (وخدني قدري مشيت في سكه
وأنا كل حلمي أروح أصلي
دخل في صابعي وتحت ضافري
مسمار مِصدي
بقيت في دمي غرقان وبصرخ
وعنيه تبكي مُر ودموع).

يبدأ بعدها حديثه مع نفسه:

ـ (وشيء شيطاني بيوز فيا
أرُد نفسي ع البيت وارجع
و أقول دي رُخصه
مش راح أصلي)..

وليس هنا في الأمر رخصة شرعية وتعريفها عند بعض الأصوليين بأنها الحكم الشرعي الذي تغير من صعوبة إلى سهولة لِعُذرٍ اقتضى ذلك، مع قيام سبب الحكم الأصلي، ثم إذا كان الدم يخرج أثناء الصلاة، وليس قبلها، مع بذل الجهد في منعه من الخروج، فيصلي المجروح على حاله وصلاته صحيحة، كما قال ابن قُدامة في المُغني.

في ختام القصيدة لا يدعو الشاعر بالشفاء أو يحمد الله على أنه صلى، بل هو على حاله بين اقتناص اللحظة أو فواتها منه، مَنوبًا عن كثير من المؤمنين بالرجاء في قبول الطاعة:

ـ (ربطت صابعي و قمت أصلي
وأنا بدعي ربي
يقبل صلاتي).

لقد نجح الشاعر محمود السنوسي في إبداع صياغة تركيبية تمزج بين ما هو كوني وما هو ذاتي في موضوعات نصوصه التي تسعى نحو تقديم صورة فنية تتميز بالتفرد، يقوم فيها بالحضور لا عن ذاته فقط بل بالنيابة عن قطاعات عريضة من البشر استبطن تجاربها وخيباتها ومراوغات القدر لها، ويبدو هذا محسوسًا عبر قطاعات من بناء قصائده التي ضَم صورها الجزئية في عناية، كما عمد إلى تضفير الصورة الذهنية بالصورة المجازية في كثير من المواضع تاركا مساحة من الحرية والوقت لذهن القارئ في تمثل ما يقصد، وربما تنبئ عن قصد خفي من الشاعر لتحفيز ذهن القارئ ليلتقيا معا في نقطة من الجهد بين من أبدع تأليفًا ومن سيبدع تفسيرًا.

إن هذه الطريقة من أكثر المرتكزات التي صنعها الشاعر في بعض قصائده؛ فهو لا يميط عنها اللثام في قراءتِها الأولى، غير أن عليه السفر إلى مرافئ شعرية أخرى تحتضن طاقته الإبداعية المتوهجة، محاولا خلق بناء جديد لقصيدة تعتمد التكثيف، ذلك أن وراء إبداع السنوسي فلسفة، وثقافة، ورؤية إنسانية ووجدانية عميقة استطاع أن يخلق من خلالها معجمه الدال عليه، وحالة من التفرد في تناول موضوعات تحوي مضامين يعيشها بوقائعها وشخوصها وأجاد التعبير عنها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى