مقتطف محمود شاهين - عديقي اليهودي (24) * حب وقلق وشواء وحجل وشاباك!!

(24)

* حب وقلق وشواء وحجل وشاباك !!

خرجت أنا وسارة هذا اليوم إلى البريّة منذ الصباح .. اجتزنا الأراضي التي استولت عليها مستوطنة كيدار، وهي من أخصب الأراضي في السواحرة الشرقية وربما في برية القدس كلها : مرج الخلايل . شعب الميرمية . ظهرة بئر جميع .. عرقوب الهدرة.. ظهرة العبد، أم البق، دمنة هلال ! وكلما مررنا من منطقة ذكرت اسمها لها ، وهي لا تصدق أنني أكاد أعرف اسم كل دونم من الأرض . كانت فرحة كطفل عثرعلى كنز، تعدو أمامي كمهرة وشعرها يلوح على ظهرها وكتفيها، وحين أخاف عليها وأصرخ مناديا أن لا تبتعد، تعود جريا إلى أن تقترب لبضعة أمتارمني وتشرع في التراجع تقهقرا وهي تصرخ بأعلى صوتها " أحبك يا عارف ، أحبك أيها الفلسطيني، أحبك ولن أحب غيرك ما حييت ، سأحبك في حياتك ، وسأحبك بعد رحيلك إن رحلت عن الدنيا قبلي ، وسأظل مخلصة لحبك " أرد عليها دون صراخ " مجنونة ، شيخوختي لا تستحق أن تضحي بشبابك من أجلها ، يجب أن تعيشي الحياة ، فقد تكون الأيام القادمة أجمل " ترد صارخة " لن تكون هناك أيام أجمل من أيامي معك ، عرفت من الأوباش ما يكفي لأن أبحث عن حياة مختلفة وجدتها معك "

أتركها على هواها، لن أكون حجر عثرة في طريق سعادتها .. لعلها تمل مني يوما ما عكس ما تشعر به الآن .

كان بعض الرعاة يسرحون بقطعانهم على السفوح والهضاب. بعضهم يعزفون على النايات أو الأراغيل ليتردد رجع صدى ألحانهم من الأودية. اقتربنا عشرات الأمتار من قطيع علي ابن اخي. أخبرتها بذلك . سبقتني لتصافح علي بحرارة ،ومن ثم تحاول الإمساك بسخل صغير. هرب السخل ولم تتمكن من الإمساك به . أمسكه علي وقدمه لها . حملته وضمته إلى حضنها وراحت تقبله على رأسه وهي تردد " ما أجمله "

أصر علي أن يدعونا على شواء . شكرته معتذرا دون أن أتخلى عن الأمر لفرصة أخرى ، لأنني أحمل في الجعبة التي على ظهري غداءنا لهذا اليوم .

تابعنا تجوالنا . عثرت ونحن نسير على حلزون معسل . لم تصدق سارة حين رفعت غطاء فوهة الحلزونة برأس سكين وأخرجت العسل وقدمته لها .. تذوقي هذا عسل برّي مختلف ، ليس كالعسل المصنّع، لكنه عسل ! استطيبته . لم أعثر إلا على القليل في المكان .. سألتني عن هذا الحلزون الصغير الذي يعمل نوع من النحل العسل داخله . قلت هذا حلزون انقضى أجل الحياة فيه وتلاشى منذ زمن . ولم يبق غيرقوقعته ، فتلجأ نحلة ما إلى عمل عسلها فيه !

استرحنا في البطين المواجه لعزبتنا حيث كنا يوم المطر. تقلبت سارة على العشب ما طاب لها .. نهضت أبحث عن فطر برّي ونباتات أخرى لغدائنا .. نهضت سارة تبحث معي بعد أن تذوقت الفطر .. لم تصدق حين جمعنا خلال ما يقرب من ساعة كمية من الفطر والكماة والخرفيش والعكوب والقعفران والزعتر والحويره والخبيزة ، والبانونج ، لنأكل بعضها ونأخذ الباقي إلى البيت . أكثر ما أدهشهها الحفرفي الأرض عن الثمارالتي تنمو تحتها وخاصة الكماة ، أوالبلبسون كما نسميها.. تساءلت إن كانت هذه بطاطا بريّة ؟ أجبتها بأنها ليست كذلك وهي أطيب ، بعض الناس يفضلونها على اللحم !

لم تفاجأ بأنها لا تعرف شيئا عمّا تنبته هذه الأرض غير ما هو معروف للناس كفواكه وخضار وبقول وحبوب يزرعونها . سألتني :

- هل تنبت الأرض أشياء غير هذه !

ضحكت ..

- يا حبيبتي هناك عشرات الأعشاب والنباتات والزهور الأخرى . منها ما يؤكل ومنها ما يتناول كشاي، ومنها ما يستخدم كدواء لعلاج أمراض وجروح : اذكر منها : الحميض . العرقد أو التوت البري . الزعرور . السيسعة أو البريذعة . تفاح المجانين . الإجاص البري . الزعموط. الخروب. اللوف . الميرمية . الحلبة . اكليل الجبل . حصى البان . عدا عشرات الأنواع من الورود التي تستخدم زهورها لعمل مشروب صحي !

أبدت سارة دهشتها لمعرفتي وتذكري لكل هذه النباتات .

قلت لها لا تتفاجأي فمعظم ما يتعلق منها بالمشروب كالبابونج موجود في بيتي وأتناوله بين فترة وأخرى كما تناولنا الزعتر !

أخذتها إلى بئرنا حيث يسقي علي قطيعه .. قلت لها هذه البئر لنا . اسمها بئر امدسيس . لا أعرف من أين جاءت هذه التسمية ، تبدو وكأنها يونانية او تتعلق بدسيسة ما . أخرجت ماء بدلو كان على البئر .. غسلنا النباتات وذهبنا إلى عزبتنا ..

فتحت باب مغارتنا وأخرجت منقلا للشواء وفحما وسفافيد وشبك .. أشعلت نارا في المنقل . أخرجت أفخاذ الفروج المتبل الذي كنت أحمله معي في جعبة الظهر . فردته على الشبك الخاص بالشواء ووضعته على النار.. نظمت بضع حبات بندورة وبصل وكماة وعكوب وقعفران في سفافيد ووضعتها إلى جانبي الفروج على النار . شرعت سارة في التقاط صور للشواء ولنا ..

افتقدت سارة طيور الحجل . سألتني :

- أين اختفى أحبتك الطيور ؟

وقبل أن أجيبها كان سرب الحجل يقدم محلّقا في فضاء الوادي ليحط على جدران العزبة .. تأوهت سارة بصوت عال مبدية دهشة لا تصدّق .. مددت يدي نحو السرب ليطيرأربع حجلات منه وتحط على أكتافنا ..

لم تتسع الدنيا لفرح سارة وهي تمد يديها لتملس على ظهري الحجلتين على كتفيها . همست :

- الأساطير معك تتحول إلى حقائق حبيبي، أي قديس أنت ؟

- أنا إنسان حبيبتي ولست قديسا .. وهذه الطيورلا تفعل إلا الإخلاص لمن رباها في صغرها بعد أن فقدت أمها وأباها وربما ببندقية أبيك ، فتعبر عن حبها له !

- يا إلهي ! أرجو أن لا تعرف الطيور عنّي ذلك !

- اطمئني لن تعرف ! وربما لم يكن القاتل أباك !

دفعت حجلة بلطف عن كتفي لتطير عائدة إلى الجدار، تتبعها باقي الحجلات..

قلّبت الشبك والسفافيد على النار.. أخرجت خبزا وزجاجة عصير وكأسين من الجعبة .. سكبت العصير .

استوى الشواء.. أخرجت طبقا من الكهف ووضعته عليه .. وشرعنا في تناول الغداء . مرت طائرة استكشاف على مقربة من سمائنا .. حتى أنها حلقت فوقنا لدورة واحدة وتابعت طيرانها نحو الشرق.

لم يخطر ببالنا أنها تراقبنا .. كل ما اعتقدناه أنها ربما تستطلع الأماكن بحثا عما يشتبه به ، أو لأخذ صور لها للحاجة .

*****

كنا مستلقيين على ظهورنا في حالة استرخاء بعد الغداء حين رن هاتف سارة . سمعتها تقول بالعبرية أهلا باب ! وسمعتها تقول ما معناه "سلمك الله" ثم سمعتها تتساءل عن شيء ما. لم أفهم ما تقول .. وما لبثت أن استندت جالسة وهي تصرخ بصوت عال متسائلة "ماذا" ؟ ثم نطقت اسم الشاباك بدهشة وتساؤل ، وشرعت تشتمه مع إسرائيل ، وقد امتقع وجهها وراحت تصرخ شاتمة بصوت عال ، وما لبثت أن قذفت بالهاتف بعيدا ، وخرّت ببكاء فظيع .. كنت قد جلست بدوري فضممتها إلى حضني ورحت أربت على ظهرها وقد أدركت أن الشاباك قد عرف أننا نلتقي وأنها ربما تحت المراقبة معي الآن ..

رحت أمسح دموعها بمنديل ..وأطلب إليها أن تهدأ وقد أدركت بعض الحقيقة من أن عملاء الشاباك في بلدتنا قد أخبروا الشاباك بقدومها إلي وإقامتها في بيتي .. ولا شك أنهم تحدثوا عن علاقة غرامية تربطها بي ، وخروجها معي في نزهات إلى البريّة .

سألتها بعد أن هدأت :

- ما الأمر يا حبيبتي ؟

- ابي يسلم عليك حبيبي . فوجئت بأنه عرف من الشاباك أنني ألتقي بك وعلى علاقة معك ، وأقيم منذ ثلاثة أيام في بيتك . استدعوه ليسألوه عن الأمرلاعتقادهم أنه يعرف. لا أعرف ماذا قال لهم ، لم يحب أن يتحدث على الهاتف أكثر تخوفا من أن يكون هاتفانا مراقبين .. تكلم بإيجاز.

- توقعت ذلك حبيبتي . وآمل أن يكون قد قال لهم أنه كلفك بالتجسس علي لإكمال المهمة المكلف بها .

هتفتْ بانفعال :

- لا أرجوك . لا تقل هذا ؟

- إنه الحقيقة يا حبيبتي ، فجميعنا نشترك في لعبة تجسس مكشوفة وأنا أوافق عليها . ولا نعرف من سيفوز في النهاية ومن سيجني الثمار !

وراحت تضرب بقبضتها على صدري وهي تردد ثانية :

- أرجوك حبيبي أكره أن أتذكر هذا !

عادت الطائرة لتحلق فوق موقعنا على ارتفاع منخفض . أشرعت سارة يدها اليمنى مطلقة اصبعها الوسطى على مداها مرددة أسفل الكلمات !

- أنت هكذا تفسدين خطتنا وتقولين لهم أننا نعرف كل شيء !

- ليذهبوا إلى الجحيم !

- وماذا إن استدعوك وعرضوا صورنا وأنت تشهرين اصبعك وتشتمينهم!

- سأقول لهم تبا لكم كان عارف يعرف أننا نتجسس عليه منذ أن كلفتم أبي بذلك !

- يا مجنونة ستفسدين كل شيء !

- ماذا سأقول إذن ؟

- قولي وهل تريدون أن يكشف عارف أنني وأبي جاسوسان لكم ؟ تقتضي المهنة أن أظهر عدائي للشاباك لأحصل من عارف على ما تريدونه منه !

قالت بعد أن أطلقت قهقهة عالية :

- وكأنك خبير في أعمال المخابرات حبيبي !

- ليست المسألة في حاجة إلى خبرة . فكل عملاء المخابرات يظهرون هكذا !

أقلعت الطائرة عائدة نحو القدس .. ودعتها سارة بآخر اصبع نكاحية !!

قلت لها .. هيا سنعود إلى البيت !

رن هاتفها في المكان الذي قذفته إليه . فوجئنا أنه لن ينكسر. وقع بين أعشاب . هرعت سارة والتقطته لتجيب . هتفت بعد لحظة : أبي يسألك متى ستلبي دعوة الغداء ؟

- قولي له قريبا إن شاء السيد يهوه !

****

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى