أحمد رجب شلتوت - هل يجمل ناصر عراق الصورة السلبية؟

كتب: أحمد رجب شلتوت
بدأت الألفية الجديدة بعالم آخر مغاير تماما لعالم مضى لتوه لكنه يبدو قديما جدا، لفرط ما شهد من أحلام كبار، اندثرت فجأة ولم يبق منها إلا حفنات من غبار، أدت إلى تضبيب الرؤى، وأوجدت الحاجة إلى طرح أسئلة الماضي، الذي مثًل مرجعا رئيسا للروائي المصري ناصر عراق، فاعتمد عليه دون أن يستعيده، بل أعاد طرحه ومسائلته في روايته الأولى "أزمنة من غبار"، وما تلاها من أعمال كشفت عن إدراك الروائي للفارق الدقيق بين الماضي والتاريخ، فالتاريخ ليس هو الماضي، وإن كان كل منهما يعد واقعا سابقا، يجب أن نتعامل معه باعتباره نصا دائم التشكل والتغير، وهو نص ينبغي تأويله وإعادة النظر إليه وفيه، بل وإعادة تكوينه، من أجل استكشاف حقيقة ما نظن أنه قد حدث فعلا في الماضي، ربما لذلك شهدت الرواية رواجا كبيرا في العقود الأخيرة لأنها هي الفنُّ الوحيد الذي يمكنه التوفيق بين شغف الإنسان بالحقائق وحنينه الدائم إلى الخيال. هذا التوفيق يُلجىء الروائيين في أحيان كثيرة إلى "التخييل التاريخي" _ وهو بحسب الدكتور عبد الله إبراهيم _ المادة التاريخية المتشكلة بواسطة السرد، وقد انقطعت عن وظيفتها التوثيقية الوصفية، لتؤدي وظيفة أخرى، جمالية ورمزية. هذا التخييل لجأ إليه ناصر عراق في رواياته الأخيرة: دار العشاق والأزبكية ثم اللوكاندة، وهي أحدث رواياته، وتدور أحداثها خلال سنوات تولى عباس حلمى الأول حكم مصر بين عامي 1848 – 1854.
حوار القمة والسفح
ذهبت ولاية مصر إلى عباس حلمى عقب وفاة عمه ابراهيم، وفقا لنظام التوارث القديم الذي يجعل ولاية الحكم للأرشد فالأرشد من نسل محمد علي، وكان جده يتحسب لذلك اليوم فعمل على تدريبه على الحكم، فعهد إليه بمناصب إدارية منها مدير الغربية، وبعدها ولاه الكتخدائية التي كانت بمثابة رئاسة الوزراء الآن. ولكنه في كل ما تولاه من مناصب كان شديد القسوة على الناس وسيىء الظن بمعاونيه، فأرسله جده مع عمه إبراهيم باشا في حروب الشام، وقاد فيلقا، ولكنه لم يثبت بطولة أو تميزا، وأخذ عليه عمه شدة قسوته مع جنوده وبطشة بأهالى المناطق التي يدخلها فيلقه، فكان ينصحه مرة ويأمره مرة بأن يغير من نفسه لكنه لم يتغير، فأبعده ابراهيم باشا عن الجيش وأعاده إلى مسقط رأسه بجدة، وبقى هناك أسيرا لهواجسه المرضية ومستسلما لميله المرضي إلى الحشيش والغلمان، وهو ما يتناقض مع حرصه على إظهار تدينه الشديد. وبدا أن جدة ستكون منفى أبديا لحفيد محمد على، لكن توفى فجأة عمه ابراهيم باشا وكان قد أصبح واليا، فاستدعي عباس ليصبح واليا على مصر، واستمرت ولايته لمدة خمس سنوات ونصفًا، بقي خلالها على غرابة أطواره، وتطيره، وميله إلى القسوة وإلى العزلة، فكان يحتجب بين جدران قصوره، وكان عباس حلمى حريصا على إظهار تدينه، الذى كان انعكاسا لقلقه وخوفه الشديد من الموت دفعه إلى المبالغة في إظهار تدينه، كما دفعه في ذات الوقت لقراءة الطالع ومحاولة معرفة الغيب، وعزز فيه ميله الطبيعي إلى التطير والتشاؤم. وزادت قسوته حتى مع أمراء أسرته ومنهم عمه سعيد، وعمته نازلي هانم حاول اغتيالها لكنها نجت وهربت إلى الآستانة. فحزن وأيقن أن هلاكه مرتبط بنجاتها فمال أكثر إلى العزلة في قصوره وقد أقامها في مناطق إما موغلة في الصحراء، كقصره الكبير في الريدانية، وإما نائيا عن المدينة كقصره في بنها على ضفاف النيل بعيدا عن المدينة، وهو القصر الذي قتل فيه، والذي تدور فيه بعض أحداث الرواية. هكذا كانت الشخصية كما يحكي عنها التاريخ، وهي شخصية تغري الكاتب ليتناولها باحثا عن نوازعها المرضية وصراعاتها التي لا تنتهي، ومخاوفها التي لا تهدأ، لكن هذا لم يكن هدف ناصر عراق، الذي أراد مواصلة مشروعه الذي بدأه في "دار العشاق" فتسير الأحداث في خطين متوازيين، أحدهما يمثل قمة السلطة، والآخر يستطلع ما يجرى في السفح، حيث البشر المسحوقون من سكان القرى أو أزقة المدينة، فيقيم بينهم حوارا يرسم من خلاله صورة لذلك العصر، يظهر الروائي من خلالها مدى تأثير ظلال ما يجري في القصور على حياة البسطاء. كما يؤكد من خلالها على ملامح صورة الآخر الأجنبي لدى الروائي، والتي تجلت ملامحها في أعماله السابقة.
تعدد الأصوات
هذا الحوار المقصود بين قمة السلطة وسفح المجتمع، ما كان له أن يكون مُقنعا ومؤثرا في وجود راوي واحد عليم، يهيمن على السرد، ويضع خيوط الحكايات في قبضة يده، لذلك خالف الكاتب عادته في أعماله المعتمدة على التخييل الروائي، فكان لابد من توزيع مهمة السرد على عدد من الرواة، أو الأصوات فالصوت الروائي يعبر عن وجهة نظر تجاه نفسه، وواقعه، وهو ما فعله الكاتب عبر أصوات أربعة تناوبت على السرد، وبشكل شبه متساو، فأسمعنا صوت "عليوة أبوزهرة" في خمسة فصول، ومنح فصولا أربعة لكل من الدكتور ويليام براون، وزوجته مرجريت براون، وبدرالدين أباظة الذي يمثل نقيضا لعليوة. ويلاحظ القارىء هنا أن الكاتب لم يمنح السلطة صوتا واحدا، ولم يكن في ذلك تنحية لها أو تهميشا فالجميع يتحركون ويتحدثون وهم في حوزتها وتحت تأثيرها، وغير بعيدين عن قبضتها.
تبدأ الرواية بصوت الفلاح عليوة أبوزهرة، دون مقدمات يقوم بتعريفنا بنفسه، قائلا: "اسمي عليوة أبو زهرة. أُكمل عامي التاسع عشر بعد أيام. في النهار أتعرق بغزارة يوميًا وأنا أكدح في زراعة أرض الوالي برفقة أبي وشقيقي الأصغر. وفي المساء نتقاسم الخبز والهموم في بيت طيني بسيط في قرية الشموت ببنها". نلاحظ هنا أن عليوة رسم لنفسه صورة غائمة دون ملامح خاصة، ويبدو أن الكاتب أراده ممثلا لطبقته، فلم يذكر إلا تعرقه وكدحه، وهمومه في البيت الطيني، وكلها قواسم مشتركة بين كل المصريين. لم يدعه الصوت الآمر يسترسل في الحديث عن نفسه، فقد صرخ في الجنود: "امسكوه.. هذا هو المطلوب، كما أوصى كبير المنجمين وأبلغ مولانا الوالي عباس بذلك حسبما تقول الأبراج والنجوم".
يمسكون به، ويسوقونه إلى القصر، حيث يعلم أن الأوصاف التي ذكرها المنجمون تنطبق كلها عليه، وأن مهمته بسيطة، "ستتذوق طعام الوالي قبل أن يقدم عظمته على تناوله"، وهي وظيفة "جاشنكير"، أي تذوق الطعام قبل أن يتذوقه الوالي، خشية أن يدس له السم فى الطعام، وقد انتشرت هذه الوظيفة في العصر المملوكي وبدايات الحقبة العثمانية، ثم قلت أهميتها وكادت تندثر، لكن المخاوف المرضية التي سيطرت على الوالي عباس حلمي أعادت الأهمية للجاشنكير، وهو هنا فلاح شاء سوء حظه أن تنطبق عليه الأوصاف التي حددها المنجمون لضمان نجاة الوالي من الموت، هكذا تكشف الرواية ودون مباشرة عن شخصية الوالي، وتسهم حكاية عليوة أبو زهرة في إثراء صورة الوالي، رغم أنه لم يره، لكن سماته النفسية والعقلية ترسمها الحكايات عن النبوءة والحلم والكائنات التي يقتنيها في القصر من قطط وكلاب وحتى الأسود والثعابين.
عليوة النحيل الذي خاصمته الدهون، يرى أدهم بك الأرنائوطي مجرد كِرش رجراج، يكره أن يصير مثله، فيضيق بوظيفته، ويصبح القصر سجنا فيخطط للهرب منه، فيتمارض، يتلوى ويصرخ ممسكا بطنه موحيا بأن أحدهم دس السم في طعام الوالي، هنا فقط يكتسب الفلاح أهمية فيستدعون له الطبيب الإنجليزي ويليام براون، يطمئن عليه للطبيب فيصارحه بحقيقة أمره، وفي النهاية يساعده الطبيب على الهرب، ويأويه في بيته ثم في العيادة وبعدها اللوكاندة التي أقامها في درب قرمز، يحرص الوالي على استعادة عليوة ليأمن على نفسه، ويظل عليوة مطاردا لكن العسس المنتشرين في كل مكان، وقلة حرص عليوة يوقعان به، ويعود عليوة إلى القصر موقنا أنه لن يخرج منه حيا، لكن يحدث أن يعود يوم اغتيال الوالي، لم يعد مهما لدى السلطة، فتنتهي مأساته ويحصل على حريته.
الأجنبي طيبا
خلفت العهود الاستعمارية التي مرت بها الأقطار العربية صورة سلبية للآخر الأجنبي، فهو التركي الفظ الغشوم، أو الغربي القاتل إن كان جنديا، أو المحتال إن كان سائحا أو تاجرا، هذه الصورة سلبية استمرت طويلا وأكدها ندرة الاحتكاك بين المواطن العربي والآخر الغربي، وقد تغيرت تلك الصورة تدريجيا، بفضل زيادة الاحتكاك والتعايش بين العربي والغربي، وأيضا لزيادة وعي الروائيين الذين أدركوا أن الآخر مثلنا، إنسان، قد يكون طيبا أو يكون شريرا، لكن ليس ثمة صورة واحدة ثابتة للآخر، هذا التغير يبدو ملموسا في عدد كبير من الروايات العربية الصادرة في الربع قرن الأخير، ومنها روايات ناصر عراق، ففي روايته "دار العشاق" التقينا بالخواجة شارل الذي أسس أول مدرسة لتعليم اللغة الفرنسية، وكان يعتبر نفسه مصريا، لم يكن شارل استثناء، فها هو ويليام براون، وزوجته مرجريت وغيرهما، بشر أسوياء، ولعل مهنة ويليام كطبيب مهمته أن يقاوم الألم والموت فضلا عن تكوينه الثقافي ونشأته كيتيم فقير، كل تلك العوامل تبرر لنا اختلافه عن آخرين مثل القنصل الانتهازي "مُرى"، أو "أندرو" المحتال، وهذا طبيعي وإنساني، فالبشر ليسوا سواء، والاختلاف بين ويليام وأندرو مثل الاختلاف بين عليوة وبدر الدين.
هكذا تكتسب الرواية بعدا إنسانيا من خلال تأكيدها على أهمية التواصل بين الأنا والآخر، وهو ما ظهر ابتداء من لوحة الغلاف، فنرى شطبا على "درب قرمز" المكتوبة بخط صغير، بينما "اللوكاندة" عنوان بارز يحتل بؤرة اللوحة، فهكذا تنحي عتبة الغلاف "الدرب" باعتباره مكانا مغلقا يصلح للاختباء والانزواء، لتحل محله اللوكاندة المعدة لاحتواء الغرباء والتي تتيح لهم من خلال تجاورهم فيها فرصة للحوار والتواصل الإنساني. وهذا ما أدركه عليوة الفلاح البسيط الذي هرب من قصر الوالي ليحيا في اللوكاندة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى