تزفيتان تودوروف - الأدب والفانتاستيك.. ت: نعيمة بنعبد العالي

“لقد انتهت جولتنا حول موضوع “الفانتاستيك”، قدمنا في البداية تعريفا لهذا الفن الأدبي الذي هو مبني بالأساس على الحيرة التي تنتاب القارئ الذي يتقمص شخصية البطل، هذه الحيرة تخص طبيعة حادث غريب. وينتهي التردد عندما يختار القارئ بين حلين : يقرر أن الحادث ينتمي إلى الواقع أو هو وليد خيال ونتاج وهم، أو بمعنى آخر يقرر هل للحادث وجود أم لا. ومن جهة أخرى، يحتاج الفانتاستيك إلى نوع معين من القراءة التي بدونها قد نسقط في فنون أدبية أخرى كالشعر أو في الاستعارة والرمز.
والآن يجب أن نغير اتجاهنا، بعد أن وضحنا ملامح هذا الفن من الداخل سوف نسلط عليه الضوء من الخارج، من وجهة نظر الأدب عامة ومن جهة الحياة الاجتماعية، وسوف نضع السؤال الذي كان نقطة بداية ولكن في قالب آخر، فسوف لا يكون : “ما هو الفانتاستيك؟” ولكن : “لماذا الفانتاستيك؟ ” السؤال الأول كان يخص بنية هذا النوع الأدبي والسؤال الثاني يهتم بالوظائف.
مشكلة الوظيفة هذه تنقسم بدورها إلى عدة مشاكل فرعية، قد نضع السؤال حول الفانتاستيك أي حول موقف معين من الخوارقي أو حول الخوارقي نفسه، في الحالة الثانية سوف نفرق بين الوظيفة الأدبية والوظيفة الاجتماعية للخوارقي ولنبدأ بهذه الأخيرة.
نجد بداية الجواب في ملاحظة لبيتر بتزولد: ” يستعمل كثير من الكتاب الخوارقي كذريعة للحديث عن أشياء لا يمكنهم ذكرها بصورة واقعية” كون الحوادث الخارقة للعادة ليست إلا ذريعة وحجة مقولة قابلة لكل شك، ولكن قد تكمن وراءها حقيقة ما، فالفانتاستيك يسمح بتجاوزات عدة للكاتب الذي يسلك طريقة، وهذا ما تؤكده العناصر فوق الطبيعة التي سردناها من قبل . لنعتبر المباحث التي تتعلق “بالأنت” أي ارتكاب المحارم، اللواط، الفحش الجماعي، الفحش بجثة الميت، الشهوانية المفرطة… نجدنا وكأننا نقرأ لائحة مواضيع محرمة سنتها رقابة ما، كثيرا ما منعت هذه المواضيع ولازالت تمنع حتى في وقتنا الحاضر، والصبغة الفانتاستيكية لم تجعل بعض الأفعال الأدبية تسلم من الرقابة الصارمة، ككتاب “الناسك” مثلا، فقد منع عند إعادة نشره.
بجانب هذه الرقابة المؤسسية توجد رقابة أخرى غير ظاهرة وشاملة ، تلك التي تقطن في نفس الكاتب وبداخله. تحريم بعض الأفعال من قبل المجتمع يخلق تحريما من طرف الفرد نفسه على ذاته يمنعه من التطرق لبعض الموضوعات. فليس الفانتاستيك ذريعة فقط بل هو معركة ضد الرقابات بأنواعها ، وهكذا تسمح الرقابة بكل التجاوزات الجنسية إذ قدمت كعمل الشيطان.
ووظيفة الخوارقي هي سحب النص من تحت وطأة القانون ومن ثم خرق هذا القانون.
لقد احتل علم النفس المكان الذي كان يحتله الأدب الفانتاستيكي، فأصبح هذا الأخير بدون جدوى. لا نحتاج اليوم إلى الاستعانة بالشيطان للكلام عن الشهوة الجنسية الجامحة أو اللجوء إلى مصاص الدماء للتعبير عن جاذبية أجساد الموتى، فعلم النفس والأدبيات المستوحاة منه تتطرق لهذه المواضيع بصراحة ، مباحث الفانتاستيك أصبحت هي نفسها مباحث علم النفس في العقود الخمسة الأخيرة ، فقد سبق أن تطرقنا لعدة أمثلة في هذا الشأن يكفي أن نذكر هنا مبحث الازدواج أو “القرين” فقد كان منذ عهد فرويد من المواضيع الدراسية التقليدية ( أوطو رانك: ” دون جوان : دراسة حول القرينة” )، وكذلك هو الأمر فيما يخص موضوع الشيطان (ث.ريك وارنيست جونس)… وقد درس فرويد هو نفسه حالة عصاب شيطاني ترجع للقرن الثامن عشر حيث صرح بعدها “لشاركو” : “يجب أن لا نستغرب إذا لاحظنا أن الأمراض العصبية لتلك الأزمنة كانت تكتسي حلة شيطانية”… فهناك حقا عدة أسباب تؤيد هذه الملاحظة الساخرة لفرويد: “لقد عزا الناس في القرون الوسطى كل الظواهر المرضية لفعل الشياطين وذلك بمنطق عميق وبقدر كبير من الصواب من وجهة نظر نفسانية. لا أستغرب إذا علمت أن علم النفس الذي يهتم بهذه القوى الخفية قد أصبح هو نفسه ولهذا السبب مقلقا إلى حد كبير في عين كثير من الناس”.
بعد هذا التحليل للوظيفة الاجتماعية لما فوق الطبيعي، لنرجع إلى الأدب ولنتمعن في وظائف الخوارقي من داخل العمل الأدبي . سبق وأجبنا عن هذا السؤال بقولنا : بغض النظر عن الاستعارة التي يسعى فيها العنصر الخوارقي لتوضيح فكرة ما بينا ثلاث وظائف:
– وظيفة براكماتية، فالخوارقي مؤثر ومخيف أو على الأقل يحير القارئ ويؤرقه.
– وظيفة تخص المعنى والدلالة، فالخوارقي يعبر عن ظاهرته الخاصة به أي عن نفسه بنفسه.
– وظيفة تركيبية فالخوارقي يدخل في تطور السرد وهذه الوظيفة الأخيرة مرتبطة أكثر من الوظيفتين السابقتين بكل عمل أدبي وقد حان الوقت لتوضيحها.
هناك تطابق غريب بين الكتاب الذين يتطرقون لما فوق الطبيعي، وأولئك الذين يصرفون جل اهتمامهم في سرد الأحداث في عملهم الأدبي، أو لنقل أولئك الذين يسعون قبل كل شيء إلى حكي حكاية ، تمثل خرافات الساحرات (Les contes de fees) الشكل البدائي للسرد والأكثر ثباتا، ونجد الحوادث الخوارقية أولا وبالضبط في هذا النوع من الخرافات. نلاحظ وجود عناصر عجائبية ولو بقدر متفاوت في أكبر الحكايات التي عرفها التاريخ، ألا وهي : “الأوديسي” و”الديكاميرون” و”دون خيشوت”، لا يختلف وقتنا الحاضر في هذا الصدد. نجد أن أصحاب السرد كـ “بالزاك” و “ميرمي” و “هوكو” و”فلوبير” و”موباسان” هم الذين يكتبون حكايات فنتاستيكية، وهذا لا يعني أن هناك علاقة ثابتة أو حتمية فهناك كتاب سرد أو حكي لا تتضمن أعمالهم أية حوادث خوارقية، ولكن تواتر هذا التطابق يجعل منه أمرا غير عفوي، ولقد لاحظ هذا ” هـ.ب. لو فكرافت” بقوله : (يجد ” ألان بو”، كجل كتاب الفانتاستيك، راحته في الأحداث والتأثيرات السردية الواسعة أكثر مما يجدها في رسم الشخصيات لتوضيح هذا التطابق. دعنا نتساءل لحظة عن طبيعة السرد نفسها ولنبدأ ببناء صورة مبسطة للسرد… السرد ما هو إلا حركة بين توازنين متشابهين غير متطابقين. الحكاية المبسطة تحتوي على نوعين من المشاهد ، المشاهد التي تصف حالة توازن أو عدم توازن والمشاهد التي تصف انتقال من حالة إلى أخرى. فالمشاهد الأولى تعارض المشاهد الثانية كما يعارض الثابت المتحرك أو المستقر المتغير أو الصفة الفعل. كل سرد يتبع هذا القالب الأساسي وإن كان الأمر غير واضح في غالب الأحيان. فقد يمكن الاستغناء عن البداية أو النهاية أو دمج موضوعات خارجية وحكايات بكاملها … الخ
لنحاول الآن أن نضع الأحداث الخوارقية في هذا القالب. ولنأخذ مثال ” حكاية حب قمر الزمان في “ألف ليلة وليلة” قمر الزمان ابن ملك الفرس ، فهو الفتى الأكثر ذكاء وجمالا داخل المملكة وخارجها. وفي يوم ما أراد أبوه أن يزوجه، ولكن الأمير الشاب اكتشف فجأة كراهية لا تقاوم إزاء النساء، ورفض رفضا قاطعا الاستجابة لأبيه الذي سجنه في برج لمعاقبته. نجدنا هنا أمام حالة عدم توازن قد تدوم عشر سنوات . ويتدخل العنصر الخوارقي: فقد تكشف الجنية “ميمونة” أثناء ارتحالاتها هذا الشاب الجميل وتفتتن به، وتلتقي بالجني “دهناش” الذي سبق له أن تعرف على ابنة ملك الصين التي هي طبعا أجمل أميرة في العالم، وترفض الزواج رفضا باتا. ولمقارنة جمال البطلين ينقل الجنيين الأميرة النائمة إلى فراش الأمير النائم ويوقظانهما ويتأملانهما ، وينتج عن هذا مغامرات عديدة يحاول أثناءها الأمير والأميرة أن يلتقيا بعد هذه اللحظة الليلية القصيرة. ويجتمعان في الأخير ويؤسسان أسرة بدورها.
هناك توازن أولي وتوازن نهائي يتصفان بواقعية كاملة. ويتدخل الحادثي الخوارقي للخروج من حالة عدم التوازن الوسطى ولخلق أسباب البحث الطويل عن التوازن الثاني يظهر الخوارقي في المشاهد التي تصف التنقل من حالة إلى حالة، والذي يمكنه أن يزعزع الوضع الثابت الأولي الذي تسعى جهود كل العاملين على توطيده، إلا حادث خارجي ليس فقط عن الوضع ولكن على العالم نفسه .
الشيء الذي يجعل السرد يتوقف هو قانون ثابت وقاعدة راسخة. ومن السهل والملائم أن تتدخل القوى فوق الطبيعية لكي يخلق خرق القانون تغييرا سريعا. وإلا قد يتعثر السرد في انتظار أن يلاحظ مساعد إنساني كسر التوازن الأولي. ولنتذكر أيضا حكاية الدرويش الثاني : ” فهو يوجد في غرفة الأميرة تحت الأرض ، يمكنه أن يبقى فيها قدر ما شاء يتمتع برفقة الأميرة وبما تضع أمامه من أطباق شهية، ولكن هذا يقتل السرد، ولحسن الحظ يوجد هناك تحريم وقانون : عدم لمس طلسم الجني، وهذا بالضبط ما سوف يفعله بطلنا، وينقلب الوضع بسرعة أكبر لأم القائم على حراسة التحريم يتمتع بقوى خوارقية. “وما إن كسر الطلسم حتى تزعزع القصر وكاد أن ينهار…” ولنقرأ “حكاية الدرويش الثالث ” :القانون هنا هو عدم التلفظ باسم الله، يخالف البطل هذا التحريم وينتج عن هذا تدخل التلفظ باسم الله. يخالف البطل هذا التحريم وينتج عن هذا تدخل القوى الخوارقية إذ ينقلب النوتي – “الرجل النحاسي” – في الماء في حالة أخرى يكون القانون عدم الدخول إلى غرفة وبعد انتهاكه يجد البطل نفسه أمام فرس يطير في السماء…. مما يجعل الحبكة السردية تتطور بسرعة.
في هذه الأمثلة ، كل تصدع في الوضع المستقر ينتج عن تدخل قوى خوارقية، ويكون العنصر العجائبي هو المادة السردية التي تقوم بهذه الوظيفة على أحسن وجه أي تأتي بتغيير للوضع السابق وتكسير التوازن ( أو عدم التوازن) الثابت، هذا التغيير يمكن أن يأتي عن طريق وسائل أخرى ولكنها أقل فعالية.
نرى كيف أن الوظيفة الاجتماعية للخوارقي تلتقي مع وظيفته الأدبية في كلتا الحالتين نجدها قانونا يخرق، في الحياة الاجتماعية كما في النص يكون تدخل العنصر فوق الطبيعي دائما قطيعة في نظام القواعد الراسخة وهنا يكمن تبرير وجوده.
يمكننا أن نتساءل عن وظيفة الفانتاستيكي نفسه لا عن وظيفة العنصر الخوارقي بل عن رد الفعل الذي يحدثه. وهذا السؤال يظهر فيما إذا علمنا أن فوق الطبيعي والنوع الأدبي الذي يأخذه بالحرف أي “العجائبي” (Le merveilleux) يتمتعان بوجود دائم قديم وحديث ، بخلاف الفانتاستيك الذي حظي بحياة قصيرة نسبيا، فقد ظهر بصورة صريحة في أواخر القرن الثامن عشر مع “كازوت”، وبعد قرن من هذا تكون أقاصيص “موباسان” الأمثلة الأخيرة المرضية من الناحية الفنية لهذا النوع الأدبي. قد نجد أمثلة للحيرة الفانتاستيكية في حقب تاريخية أخرى ولكن من النادر أن تكون هذه الحيرة متموضعة عن النص نفسه ، هل من سبب لقصر هذا النفس ؟ أو لماذا الأدب الفانتاستيكي؟ للإجابة عن هذه الأسئلة يجب التمحيص في المقولات التي هيأت لنا دراسة الفانتاستيك، كما سبق أن رأينا ، على القارئ والبطل أن يقررا هل ينتمي حادث ما أو ظاهرة ما إلى الحقيقة أم إلى الخيال، هل هو واقعي أم لا، فمقولات الواقع هي الأساس لتعريف الفانتاستيك.
على حين تم وعينا بهذا وجب توقفنا واستغرابنا، فالأدب في حد ذاته يتحدى التفرقة بين الواقع والخيال، التفرقة بين ما يوجد وما لا يوجد. ويمكن أن نقول فوق هذا أنه بفضل الأدب والفن أصبح من المستحيل تأكيد هذا التمييز. منظرو الأدب صرحوا بهذا عدة مرات مثلا ” بلا نشو” : الفن يكون ولا يكون في نفس الوقت، فهو يتمتع بقسط وافر من الحقيقة لكي يصبح هو المذهب، وبعده الكبير عن الواقع لا يسمح له بالتحول إلى عائق. فالفن هو” كمالو” – (نصيب النار، ص 26) – وكذلك “نور تروب فراي” : الأدب، كالرياضيات، يدحض التناقض بين الكون والعدم، هذا التناقض المهم بالنسبة للفكر الاستدلالي ، فلا يمكن أن نقول عن ” هاملت ” أو “فالسطوف” أهمها موجود أو غير موجودين ” (تشريح النقد، ص 351).
وبصفة أكثر عمومية يعترض الأدب على وجود كل ثنائية، فمن طبيعته أن يقسم موضوع الكلام إلى أجزاء متباينة ، فالاسم، باختياره لخاصية واحدة أو أكثر للمفهوم الذي يؤسس، يقصي جميع الخاصيات الأخرى ويضع نقيضة الشيء ونقيضة عكسه، وهو يوجد بالكلمات، ولكن نزعته الجدلية هي أن يعني أكثر مما تعنيه اللغة، وأن يتجاوز الأقسام اللفظية ، فالأدب هو ما يدحض الميتافيزيقا الحالة في كل لغة، وذلك من داخلها فميزة الخطاب الأدبي أن يذهب أبعد ( وإلا لما كان لوجوده من فائدة) فهو يشبه سلاحا قاتلا يتم بواسطته انتحار اللغة.
إذا كان الأمر كذلك ، هل يجب أن نقصى من الأدب ذلك النوع الذي يستند على المعارضات اللغوية كالمعارضة بين الواقع والخيال؟
الأمر، في الحقيقة، أكثر تعقيدا فالأدب الفانتاستيكي بتلك الحيرة التي يولد يطرح بالضبط للمناقشة وجود تعارض جذري بين الواقع والخيال ، ولكن لرفض تعارض ما يجب التعرف على طرفيه. لكي نقدم قربانا وجب علينا معرفة الضحية. وهذا ما يفسر ذلك الإحساس بالغموض الذي يتركه الأدب الفانتاستيكي، فهو من جهة يمثل ذروة الأدب بما أنه يتمركز بصراحة حول مناقشة الحدود بين الواقع والخيال التي تميز كل أدب، ومن جهة أخرى هو ليس إلا تمهيدا للأدب، إذ يضفي الحياة على ميتافيزيقا اللغة العادية بصراعه معها ، يجب علينا أن ننطلق من اللغة ولو لرفضها … القرن التاسع عشر كان يعيش في ميتافيزيقا الواقع والخيال، والأدب الفانتاستيكي ليس إلا الوعي الشقي لذلك القرن الوضعي. أما اليوم فلا يمكن أن نومن بواقع ثابت مستقر منفصل أو بأدب قد لا يكون إلا تدوينا لهذا الواقع، الكلمة ربحت استقلالا خسرته الأشياء، الأدب الذي كان دائما يؤكد على هذه الرؤية هو من دون شك سبب هذا التطور والأدب الفانتاستيكي الذي كان يهدم على طول صفحاته التقسيمات اللغوية أصابته من هذه الرؤية ضربة قاضية، ولكن من هذا الموت ، من هذا الانتحار، ولد أدب جديد، وقد لا نكون في منتهى الزهو إذا أكدنا أن أدب القرن العشرين هو بمعنى ما أكثر أدبا من غيره. وطبعا لا ينبغي أن يفهم هذا كحكم على قيمته فمن الممكن أن تكون قيمته قد تقلصت لهذا السبب نفسه ·




(*) ت. تودوروف؛:” مقدمة للأدب الفانتاستيكي” (ص 165-177) لوسوي 1970

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى