د. محمد سعيد شحاتة - جدلية الأنا والآخر.. قراءة في قصيدة (تبـــــــًّا لي) للشاعرة حنان ماهر

مهادٌ نظري:
نحاول في هذه الدراسة رصد جدلية الأنا والآخر في قصيدة (تبّا لي) للشاعرة حنان ماهر، وأثرها في إنتاج الدلالة، معتقدين أن إنتاج الدلالة يتم من خلال التفاعل الحيِّ والديناميكي بين النص والقارئ، ومن ثم فإن القراءة عملية جدلية تسير في اتجاهين متبادلين من النص إلى القارئ ومن القارئ إلى النص، وليس معنى ذلك أننا ننفي المبدع، بل نرى أنه منشئ العمل الأدبي ومبدعه، ومن تتلاقى بين أصابعه الخيوط السرية التي تتشكل من خلالها لعبة المعنى، فيصبح للنص بمقتضاها حقوله الدلالية، ورغم ذلك فإن عملنا سوف ينصبُّ على النص الشعري، فقد انتهت علاقة الشاعرة بهذا النص منذ إلقاء القلم وطيِّ الصحيفة، وسوف نحاول استقراء النص قدر جهدنا، واستكناه عوالمه، وتحديد ملامح الأنا الشاعرة كمرسل، والفكر المهيمن على العمل الإبداعي/الرسالة، والمتخفي وراء شبكة العلاقات اللغوية التي تمتد هنا وهناك ناسجة خيوط النص طولا وعرضا، ونحن إذ نعتمد تلك الرؤية نضع في الاعتبار أن ما نقوم به مجرد قراءة قد تتفق أو تختلف مع قراءة أخرى؛ فهي لا تدعي لنفسها اليقين، ولا تتخذ من نفسها مقياسا للصواب والخطأ، بل تدرك أنها مجرد محاولة ضمن عشرات المحاولات لقراءة النصوص؛ فالتعدد التفسيري للنص الواحد يثريه، ويضيف إليه، ويؤكد على أن النص لا يتضمن بالضرورة معنى نهائيا، كما يكشف التعدد التفسيري للنص عن آفاقه وأبعاده في سياق الثقافة المتغير؛ فلا وجود للنص بمعزل عن المركبات الذاتية للقراء.
العنوان وملامح الدلالة:
إن التوقف أمام عنوان النص ينطلق من الاعتقاد بأن العنوان مرسلة مشفَّرة بين الناصِّ والنصِّ من جهة والقارئ والنص من جهة أخرى، ومن ثم فإن رصد العنوان وتفكيكه من شأنه الكشف عن دلالات الخطاب وأسراره، كما أننا سوف نحاول الربط بين دلالة العنوان ومضمون النص، فلا شك أن العنوان مرتبط ارتباطا وثيقا بالنص الأدبي؛ فهو إما كاشف عن مكنون النص، أو متشابك مع الدلالة الكلية للنص، ومحتل لجزء من الرؤية الفكرية، وفي جميع الأحوال فإن تفكيكه وربطه بالنص يساعد في إنتاج الدلالة.
جاء عنوان القصيدة جملة فعلية خبرية لفظا إنشائية معنى(تببتُ تبًّا) فهي دالة على الدعاء، وأرادت الشاعرة من خلالها إخبار المتلقي بتجربتها التي آلت إلى الفشل، وقد تبدَّى ذلك من خلال الدعاء اللافت في العنوان؛ فإنه يجعل الذهن ينصرف مباشرة إلى محاولة اكتشاف الأسباب التي تجعل إنسانا ما يدعو على نفسه بهذا الدعاء القاسي، وهي جملة ناقصة الأركان من حيث التكييف النحوي؛ فقد اكتفت الشاعرة بإيراد المفعول المطلق المؤكِّد للفعل (تبـــًّا) وحذفت الفعل والفاعل، ومن الملاحظ أن الفعل (تبَّ) يأتي لازما ومتعدّيا؛ فهو يأتي بعنى هلك وأهلك، وقد ورد لفظ (تبَّ) في المعاجم العربية مرتبطا بدلالات سلبية متعددة؛ إذ ورد (تَبّاً لَهُ: هَلاَكاً وَخُسْرَاناً لَهُ - تبًّا للظَّالمين المعتدين: خُسْرانًا وهلاكًا لهم، ويُنصب على المصدر بإضمار فعل –تَبَّهُ اللهُ : أَهْلَكَهُ –آية المسد 1( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (قرآن) : هَلَكَتَا، خَسِرَتَا –تَبَّ الحبلُ : اِنْقَطَعَ –تَبَّ الحَبْلَ : قَطَعَهُ –تَبَّ ضَعُفَ وشاخ –تَبَّ الحمارُ ونحوُهُ: دَبِرَ ظهرُه –تَبَّ الشيءَ تَبَّ تَبًّا: قطعهُ، فهو تابٌّ –تبَّ العاصي خسِر وهلَك وقُطِع عن الخير) فمن الملاحظ أن اللفظ لم يخرج عن الدلالة السلبية؛ فهو دالٌّ على الهلاك والخيبة والخسران، ودالٌّ على القطع (تَبَّ الحَبْلَ: قَطَعَهُ) ودالٌّ على الضعف والشيخوخة (تَبَّ ضَعُفَ وشاخ) وكلها دلالات سلبية، وإيراد العنوان بهذا الشكل يحيلنا أيضا مباشرة إلى الآية الكريمة ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) إذ تحكي قصة أبي لهب الذي حارب الحق بكل ما أوتي من قوة، وحاول أن يخفي معالمه رغم وضوحه التام، بل حاول أن يثني من يعتنقون الحق الواضح عن اعتناقهم، ليعودوا إلى سيرتهم الأولى، ولكنه في النهاية فشل وخاب وخسر وهلك، وإذا نقلنا هذه الدلالات إلى العنوان فإنه يدل على أن الأنا الشاعرة قد تغاضت عن الحقيقة الواضحة أمامها، وكابرت وسارت في طريق محتوم النهاية بالفشل، ورغم كل الدلائل على الفشل فقد سارت حتى وصلت إلى النهاية المحتومة، فكان دعاؤها على نفسها بالخيبة والخسران والهلاك؛ لأنها لم تتراجع عن الطريق الذي سارت فيه، وهي تعلم نهايته، ومن ثم فإن العنوان يحمل ثلاثة عناصر، هي: الأنا والآخر والموضوع، فالأنا بدت من خلال العنوان خائبة في سعيها الذي كانت تسعى إليه، وحمَّلت نفسها المسؤولية عما آل إليه أمرها من خلال الدعوة على نفسها، والآخر كان مماطلا غير مبالٍ، أما الموضوع فهو العلاقة التي باءت بالفشل. لقد جاء العنوان مفعولا مطلقا لفعل محذوف تقديره (تببتُ) وهو مأخوذ من الفعل (تبَّ) ومعناه/العنوان (خسرانا وهلاكا وخيبة لي) وبذلك يتمحور العنوان منذ البداية حول معنى الدعاء الدال على الخسران، والخيبة، والهلاك، مما يثير المتلقي فيمضي مع القصيدة لاكتشاف الابتداء بهذا العنوان اللافت، فتبدأ القصيدة بالمشبه به (كحصاة) الذي يربط عنوان القصيدة بمطلعها، وقد حذف المشبه لفظا وإن كان حاضرا بقوة في المعنى، فلا يمكن تصوُّر المشبه به (كحصاة) دون ربطه بـ(تبا لي) وهنا يصبح العنوان جزءا من القصيدة، وكأن الأنا الشاعرة تقول (تبا لي فأنا كحصاة أمسكتَها وألقيتَها في مجرى الحزن) وهنا تتجلى العناصر الثلاثة التي تحدثنا عنها/الأنا والآخر والموضوع، وبذلك تحمِّل الأنا الشاعرة نفسها المسؤولية كاملة عما آل إليه أمرها.
حركة المعنى وإنتاج الدلالة:
سوف نحاول في هذا الجزء من الدراسة تتبع حركة المعنى في النص عبر مقاطعه المختلفة، واستنطاق كل مقطع محاولين رصد رؤيته الفكرية التي تشكل جزءا من الرؤية الكلية للنص، وذلك من خلال اكتشاف البنى الفكرية المتخفية وراء شبكة العلاقات اللغوية المنسوجة بعناية وإتقان، وفي النهاية سوف نعود إلى حركة المعنى من البداية؛ لنربط المقاطع ببعضها، في محاولة للاندفاع من ظاهر النص إلى باطنه؛ لتفكيك ما نسجته الشاعرة من شبكات إيهام مختلفة؛ كي تغري المتلقي بمتابعة إغواءات النص من أجل اكتشاف دسائسه، واكتناه عوالمه. إن رصد تموجات المعنى صعودا وهبوطا في النص يدفعنا إلى تقسيمه أربعة مقاطع تمثل حركة المعنى، وتنقلاته بين الأطراف المهيمنة، والتي يحاول النص رسم ملامحها في صعودها وهبوطها وتنقلاتها المراوغة بين تضاريس النص المختلفة، وعبر دروبه وشعابه المتشابكة.

- 1-
كحصاةٍ أمسكتَها وألقيتَها في مجرى الحزن
تستمتعُ برؤيةِ الدوامَّاتِ
لم تعبأ لغرقي تبًا لك
راقبت نبضة هربت باللوعة ورجعت لقلبي بالحنين
فاض الحزن
كاد أن يبلل حذاءك
تراجعت بكل خفة
هنيئًا لك الهروب
يتشكل المقطع الأول من خلال ثنائية ضدية برز طرفاها على المستوى اللفظي؛ ليشكلا بؤرتيْ دلالتين مختلفتين، وهذان الطرفان هما (تبــًّا لي – هنيئًا لك) فمن الملاحظ أنهما متضادان على المستوى اللفظي؛ ليقودا إلى تضادٍّ على المستوى الدلالي، وقد ارتبط كل طرف من هذين الطرفين بعنصر من عناصر القصيدة؛ ليشكلا كذلك وجها آخر للثنائية الضدية على مستوى الوجود، ويشكلا كذلك وجها ثالثا للثنائية الضدية على مستوى الحدث والفعل، ومن ثم فإننا أمام ثنائية ضدية ذات ثلاثة أوجه، أما الطرف الأول فمن الواضح على المستوى اللفظي في (تبــًّا لي) وهو يتمحور حول الأنا الشاعرة من خلال الضمير الدال عليها في اللفظ (لي) والنهاية المأساوية التي لم تكن تتوقعها، أو كانت – في أسوأ الحالات – تتفاداها؛ فهي دعوة بالهلاك والخيبة والخسران نتيجة التمسك بعلاقة اشتملت في داخلها على عناصر فشلها، وأما الطرف الثاني من طرفيْ الثنائية الضدية فهو الآخر الذي بدا في المقطع مستهترا بمشاعر الأنا الشاعرة، لاهيًا بها، مستمتعا بحزنها، والدوامات التي تغرق فيها، ولا يهتم مطلقا بما تعانيه (لم تعبأ لغرقي)، أما على مستوى الحدث والفعل فإن الأنا الشاعرة بدت كحصاة أمسكها الآخر وألقاها في مجرى الحزن، فهي تغرق في حزنها وسط دوامات تأخذها إلى أعمق أعماق الحزن، وقد بدت عاجزة مستسلمة، وظهر ذلك من خلال قولها (راقبتُ نبضة هربت باللوعة ورجعت لقلبي بالحنين) فهي تكتفي بالمراقبة ولا تفعل شيئا، وإذا قرأنا الفعل (راقبتَ) بفتح التاء فإن المعنى ينصرف إلى الآخر، فهو الذي يراقب وفي ذلك دلالة على أن الآخر غير مبالٍ، وإن كان المعنى يميل إلى ضبط الفعل (راقبتُ) بضم التاء، ومن ثم ينصرف المعنى إلى الأنا الشاعرة، فهي التي راقبت النبضة التي هربت باللوعة، ثم رجعت إلى قلبها بالحنين. إن استخدام الأفعال في هذا الجزء المتعلق بالأنا الشاعرة يدل على أنها أدركت أنها كانت ألعوبة في يد الآخر، وقد بدا ذلك من خلال نوعية الأفعال ودلالاتها؛ فقد اشتمل هذا الجزء على أربعة أفعال، ومن الملاحظ أن الأفعال تساوت من حيث الماضي والمضارع؛ فقد ورد فعلان ماضيان (أمسكتها – ألقيتها) وهما مرتبطان بفعل الآخر، ولكن آثارهما تتعلق بالأنا الشاعرة، ومن ثم فقد ورد الضمير الدال عليها متصلا بكلا الفعلين؛ ليعبر بذلك عن التشابك في الحدث بين الطرفين (الأنا والآخر) فالحدث الدال عليه الفعلان يتوزع بين الطرفين، فالآخر هو الفاعل والأنا الشاعرة هي المفعول بها، وهنا دلالة أخرى على وقوع الأنا الشاعرة في دائرة الاستهداف والقهر؛ فهي مفعول به على المستوى اللفظي (الهاء في الفعلين) وهي الواقع عليها الفعل على المستوى المعنوي، وقد دل الفعلان الماضيان كذلك على الأنا من حيث التلاعب بها (أمسكتها) وهو يدل على القدرة على السيطرة على الأنا الشاعرة والتحكم فيها، ثم إلقائها وفيه دلالة على تركها، وهما مرحلتان، الأولى التحكم والثانية الإلقاء والإهمال؛ لتغرق في دوامات حزنها، والمرحلتان قد مرتا بفترة زمنية طالت بعض الشيء، وقد بدا ذلك من خلال دلالة الفعلين؛ فالإمساك يدل على التحكم والاستقرار على هذه الحالة فترة زمنية محددة، ثم يأتي الإلقاء ليدل على الاستغناء، ولكنه استغناء المستعلي غير المبالي، كما اشتمل الجزء على فعلين مضارعين (تستمتع – لم تعبأ) ومن المتعارف عليه أن الفعل المضارع يدل على التجدد والاستمرار، وهو ما يشير إلى أن فعل الآخر بالأنا الشاعرة متجدد ومستمر، بمعنى أن الاستمتاع بقهرها والتلاعب بمشاعرها لم يكن مكتفيا بمرة واحدة، ولكنه متجدد ومستمر في حالة من الخداع الدائم والمراوغة المستمرة؛ لتستمر الأنا الشاعرة متعلقة بحلمها الواهي الذي يعلم الآخر تماما أنه ليس جزءا منه؛ ليعبر بذلك عن الطبيعة النفسية لهذا الآخر الذي لم يكن مهتما بمشاعر الأنا الشاعرة، ولا بما تعانيه من آلام وأحزان وحنين، ومن الطبيعي ألا يكون مهتما بمشاعر غيرها من الناس؛ لأن ذلك جزء من طبيعته النفسية، وتكوينه الفكري، وقد جاء الفعل الثاني (لم تعبأ) ليؤكد هذا المعنى بالإضافة إلى تأكيده على دلالة التجدد والاستمرار؛ لأن عدم اهتمامه المتضمَّن في الفعل (لم تعبأ) متجدد ومستمر من خلال طبيعة الفعل المضارعة، أما الجزء الثاني من المقطع فإنه يرصد التشابك الدلالي بين الطرفين الذي أخذ في الاتضاح أكثر، وقد وقفت الجملة (راقبت نبضة هربت باللوعة ورجعت لقلبي بالحنين) حدا فاصلا بين الجزأين من الناحية اللفظية، وكذلك من الناحية الدلالية، ليعبر ما بعدها عن التطور الدلالي للمقطع؛ فقد فاض الحزن بالأنا الشاعرة، وامتدَّ حتى كاد أن يبلل حذاء الآخر، ويؤثر عليه، ويأتي استخدام الشاعرة للفظ الحذاء دالا من الناحيتين اللفظية والمعنوية، فمن الناحية اللفظية نجد الحذاء هو أقرب شيء للأرض، وكأن الآخر لا يقبل أن يقترب منه الحزن، أو تلامس مشاعر الأنا الشاعرة أي جزء منه حتى ولو كان مجرد ملامسة، وهو ما يدل على قدرة الآخر على الخداع والمراوغة، وأما من الناحية المعنوية فإننا إذا تخيلنا الحزن ماء فاض وملأ المكان وعندما اقترب مجرد اقتراب من حذاء الآخر تراجع في خفة، وهرب تاركا الأنا الشاعرة غارقة في أحزانها، إذا تخيلنا ذلك أدركنا أن استخدام لفظ الحذاء هنا دال على رفض الآخر مجرد اقتراب الماء منه الذي فاض وصار دوامات تغطى الأنا الشاعرة، والآخر يراقب ذلك في استمتاع، ولا يعبأ لغرقها، وهو دال على طبيعته النفسية والفكرية، فهو رافض لمشاعرها بينه وبين نفسه، ومراقب لغرقها باستمتاع، ولكنه في الوقت نفسه مستمر في التلاعب بها وبمشاعرها، ومستمر كذلك في إقناعها بالاستمرار في التجربة، وإذا قرأنا اللفظ (راقبتَ) بفتح التاء فإن الدلالة تنصرف إلى أن الآخر كان منتبها تماما لحركة الألم، وتموجات الشعور لدى الأنا الشاعرة، كما كان مدركا للحالة النفسية والشعورية التي تغرق فيها من خلال فعل المراقبة، ولذلك فإن مجرد اقتراب الجزن إلى حذائه دفعه إلى الهرب في خفة وسرعة، مما يجعلنا ندرك أنه كان مراقبا جيدا لحالة الأنا الشاعرة، وتدفقات الحزن داخلها، كما كان حريصا على ألا تمتد تلك الحالة لتلمس مجرد حذائه، أي تقترب منه إلى حد يمكن أن يتأثر ولو بصورة بسيطة جدا، أي أن يفهم أحد أن لهذا الآخر علاقة بشكل ما بالأنا الشاعرة. إن الآخر في هذا المقطع بدا واعيا تماما لما يريد وللمشهد بأكمله، ولذلك ختمت الشاعرة المشهد بالتعبير عن المرارة الشديدة المتمثلة في اللفظ (هنيئا لك) فهي ليست تهنئة بقدر ما هي شعور بالمرارة والعجز والقهر، وعدم القدرة على لوم الآخر أو تعنيفه على ما قام به من الهرب السريع، فاكتفت بجملة (هنيئا لك الهروب) التي تحمل في طياته الجانب الثاني من المشهد المتمثل في قولها في نهاية الجزء الأول (تبّا لي) وكأنها تقول (هنيئا لك الهروب وتبا لي على غبائي الذي أدى إلى فشلي ومعاناتي وعدم ابتعادي رغم علمي بفشل التجربة منذ البداية، وملاحظتي لتهربك واستمتاعك بمعاناتي، وإن كنت حاولت إقناع نفسي بغير ذلك) ومن الملاحظ أن هذا الجزء من المقطع جاء فيه فعلان ماضيان (فاض – كاد) وفعل مضارع واحد (يبلل) ولكن دلالته محكومة بالفعل الماضي (كاد) الدال على المقاربة. لقد حمل هذا المقطع عناصر التجربة كلها (الأنا الشاعرة – الآخر – الحدث) ودل بوضوح على بؤرة الرؤية الفكرية لكلا الطرفين/الأنا الشاعرة والآخر، وتشابكات الآحداث بينهما، ليأتي المقطع الثاني وينفتح على زاوية أخرى من زوايا الرؤية والدلالة.

- 2 –
كان القمر يطل خجولًا من بين غيوم شرودي
وأنت تبني قلاعًا من ورق
أرسلتُ همسة تناهي
لا تُنطق من شفتين
بل من جرح ارتطامي بالقاع
يا لحظي
ينفتح المقطع الثاني على زاوية أخرى من زوايا الرؤية في القصيدة، وفي هذا المقطع تبدأ ملامح الآخر تبهت وتختفي تدريجيا، ويبدأ المعنى يتمحور حول ملامح الأنا الشاعرة، ففي بداية المقطع يتوزع الحضور اللفظي والدلالي بين الأنا الشاعرة والآخر، ويبدو هذا الحضور ممثلا لملامح كل من الشخصيتين، فالأنا الشاعرة في شرود، والآخر يبني قلاعا من ورق، ويبدو من حركة المعنى في هذا المقطع أن المشهد الذي تصوره الشاعرة كان بعد هروب الآخر متخليا، عنها وتركها في دوامات حزنها؛ فهي تصور المشهد هادئا حزينا، وهو لا يتناسب مع حبيبين يلتقيان، فالقمر يطل خجولا بين غيوم شرودها، فشرودها غيوم تحجب رؤية القمر في إشارة إلى أنها لم تستطع أن تستمتع بإطلالة القمر الذي عادة ما يحمل معاني الحنين واللقاء بين المحبين، وفي الزاوية الأخرى من المشهد تسترجع صورة الآخر وهو يبني قلاعا من ورق، في إشارة غلى كونها قلاعا هشة لا تستطيع الصمود، وهنا يبدو اكتشاف الأنا الشاعرة للآخر وخداعه من خلال جملة (من جرح ارتطامي بالقاع) والإشارة هنا إلى اكتشافها الحقيقة، فارتطامها بالقاع دال على سقوطها وجرحها نتيجة هذا السقوط، وهو يعبر عن فشل التجربة، واكتشافها ذلك فكان جرحها، وقد اختارت الشاعرة مجموعة من الألفاظ الدالة على ملامح الموقف (خجولا – غيوم – شرودي –ورق – جرح – ارتطامي) وكلها ألفاظ دالة على السلبية مؤكدة من خلال ذلك على النهاية التي وصلت إليها تلك التجربة،ومن الملاحظ سيطرة الأسماء على المقطع، وقلة الأفعال؛ ليدل على حالة الثبات؛ فالأسماء تدل على الثبات في حين تدل الأفعال على الحركة، وعندما استخدمت الأفعال ربطتها الشاعرة بما يكبِّل حركتها، فالفعل (يطل) ارتبط بلفظ (خجولا) لينفي عنه الحيوية والحركة، والفعل (تنطق) بني للمجهول وقيدته الشاعرة بحرف النفي (لا) فالهمسة لا تُنطق من شفتين، ولكنها مفهومة من خلال الموقف نفسه، والفعل الوحيد الذي دل على الحركة والتجدد والاستمرار هو الفعل (تبني) ومن الملاحظ أنه ارتبط بالآخر؛ ليعبر بذلك عن طبيعة هذا الآخر الذي كان لا يتوقف عن بناء القلاع، ولكن الأنا الشاعرة اكتشفت في النهاية أنها قلاع من ورق، وبذلك نفت عنها هي الأخرى الفاعلية؛ فهي ليست قلاعا حقيقية يمكن أن تحمي من العواصف، ولكنها هشة تتطاير مع أول هبة ريح، وبذلك يمثل المقطع الثاني تطورا دلاليا في القصيدة؛ إذ إنه نقل الدلالة إلى مرحلة متقدمة بعد دلالة المقطع الأول، فعبَّر عن فشل التجربة واكتشاف الأنا الشاعرة لهذا الفشل الذي جعلها تختم المقطع بقولها (يا لحظي) لتعبر عن المرارة الشديدة التي تشعر بها، لتنتقل الشاعرة بعد ذلك إلى تطور دلالي آخر في المقطع الثالث.

- 3 –
أنا السمكة التي صادفت عصا موسى
فشقتني نصفين
أنا البقرة الفاقع ألمها
ذبحوها وسلخوها ما إن وجدوها
أنا الصيد البريء
تعقبني الصياد أصابني في مقتلى
أُعَيَّرُ بجرحي كأنه سبة
لم أجرح نفسي يا قوم وكيف؟
يتشكل المقطع الثالث من ثنائية ضدية أخرى، طرفاها الأنا الشاعرة والمجتمع بشرائحه المختلفة، فأحيانا تذكر الشاعرة الآخر/المجتمع بصيغة الجمع (ذبحوها – سلخوها – وجدوها) باستخدام ضمير الغائب الهاء دون ذكر أسماء محددة أو جهات معينة يمكن أن تلقي عليها اللوم في قهرها واستلابها؛ ليكون هذا الآخر/المجتمع غائبا على المستوى اللفظي من خلال استخدام ضمير الغائب، وغائبا كذلك على المستوى المعنوي من خلال عدم تحديد ملامحه، وأحيانا تتحدث بصيغة المفرد (تعقبني الصياد أصابني في مقتلى) دون الإدلاء أيضا بملامح يمكن من خلالها التعرف على شريحة محددة تمثل الصياد الذي تعقَّب الأنا الشاعرة، وإنا كنا نستطيع استنتاج أن الآخر في هذا المقطع نوعان، هما: الآخر/المحبوب الذي ظهر في المقطع الأول مخادعا ومراوغا، وغير مبال بها، ومستمتعا وهو يراها تغرق في دوامات حزنها، ويهرب بخفة حين تقترب شبهة ملامسة مشاعرها له، والآخر/المجتمع بشرائحه المختلفة، وهو الذي أشارت إليه بصيغة الجمع في قولها (ذبحوها – سلخوها – وجدوها) وبذلك ينتقل المقطع الثالث إلى حقل دلالي تشتبك فيه الأنا الشاعرة مع المجتمع المحيط بها، ذلك المجتمع الذي لا يغفر لها تجربتها رغم كونها القتيلة وليست القاتل، في انتقاد حاد لهذا المجتمع وتشكلات رؤاه الفكرية وتوجهات أنسجته الاجتماعية، وقد بدت الأنا الشاعرة في هذا المقطع حادة إلى أبعد الحدود من خلال اختيار ألفاظ دالة بشدة على حالة الغضب الذي تمتلئ به نفسها (ذبحوها –سلخوها – شقتني نصفين – سُـبَّة) ويبدأ المقطع بحديث الأنا الشاعرة عن نفسها حديثا صريحا من خلال إيراد الضمير المنفصل الدال عليها (أنا) وتكرار هذا الضمير متلبِّسـًا بحالات القهر التي تتعرض لها (أنا السمكة – أنا البقرة – أنا الصيد) ولم يقتصر حضور الأنا الشاعرة من خلالالضمير المنفصل، لكنها أكَّدت حضورها من خلال الضمائر المتصلة أيضا (ألمها – ذبحوها – سلخوها – وجدوها – شقتني – تعقبني – أصابني – مقتلي – جرحي – نفسي) كما أكَّدت الحضور من خلال الضمائر المستترة (أعيَّرُ/أنا –لم أجرح/أنا –صادفتْ/هي) وبذلك يتنوع حضور الأنا الشاعرة بتنوع الضمائر بين ضمائر منفصلة وأخرى متصلة، وكذلك تنوعها بين ضمائر ظاهرة وأخرى مستترة، وسوف نتوقف لاحقا أمام ظاهرة الالتفات عند حديثنا عن التشكيل البلاغي وأثره في إنتاج الدلالة، وبذلك تحاول الشاعرة تأكيد وجودها على المستويين اللفظي والدلالي؛ لمواجهة محاولات المجتمع تهميشها واستلابها جراء تجربتها التي لا يعترف بها هذا المجتمع ظاهريا وإن كان أفراده يمارسون ذلك في الخفاء؛ فالأنا الشاعرة لم تجرح نفسها ولكن هناك من جرحها، وهو لا شك أحد أفراد هذا المجتمع الذي يستلبها كما استلبها بعض أفراده، وأغرقها في دوامات الحزن، وإلى جانب ذلك استخدمت ألفاظا أخرى دالة على حالات القهر والاستلاب التي تتعرض لها، والملاحقة من الآخر والمجتمع بهدف تشويهها (تعقبني الصيَّاد – أعيَّرُ بجرحي – أصابني في مقتلي) وهي أيضا دالة على قهرها بصور شتى وأساليب متعددة، على أننا يمكن أن نلاحظ عقد الأنا الشاعرة المقارنات بينها وبين المجتمع؛ لتظهر هي في هذه المقارنات بريئة باحثة عن الصفاء والنجاة، ويظهر المجتمع بصورة المعاقب غير المتوقع (أنا السمكة التي صادفت عصا موسى فشقتني نصفين/أنا البقرة الفاقع ألمها ذبحوها وسلخوها ما إن وجدوها/أنا الصيد البريء تعقبني الصياد أصابني في مقتلى) ففي الجملة الأولى تشبه نفسها بالسمكة في إشارة إلى أنها كانت تعيش في هدوء في محيطها، ولكنها صادفت عصا موسى، أي أصابتها عصا موسى حين ألقاها في البحر لينقذ من معه، وهي بذلك تعبر عن حظها العاثر الذي أدي بها إلى مصادفة هذا الآخر/المحبوب الذي أوردها المهالك بدلا من أن ينقذها، وفي الجملة الثانية تشبه نفسها ببقرة بني إسرائيل التي كانوا يبحثون عنها في إشارة على أنها كانت مبتغى الجميع وحلمهم في الحصول عليها، والارتباط بها، ولكنهم ما إن حصلوا عليها ذبحوها وسلخوها في إشارة على أنها لم تلق المعاملة التي تليق بها كأنثى لا تريد سوى الأمان والحب الخالص، وفي الجملة الثالثة تشبه نفسها بالصيد البريء الذي لم يرتكب ذنبا سوى أنه بريء، ولكن الصياد/الآخر/المحبوب تعقبها ونصب شباكه للإيقاع بها، وحين أمنت له أصابها في مقتلها، وفي هذه الصور كلها لم ترتكب إثما، ولكنها تعرضت للقهر والخداع والاستلاب.
لقد استطاع المقطع الثالث بتشابكاته المتنوعة أن يكشف عن جانب من جوانب الرؤية الفكرية المتخفية وراء شبكة العلاقات اللغوية، واستطاعت الشاعرة باختياراتها المتنوعة للألفاظ أن تضعنا في بؤرة الدلالة لهذا المقطع كاشفة عن ملامح السلبية التي يعاني منها المجتمع بشرائحه المختلفة.

- 4 –
كلما رتقت قلبي جاء من يفكُّ الرتق
من يجد لذته في الضغط عليه
من ينثر عليه الملح
لا يُسْمَعُ تأوُّهٌ أو يُرى دمعٌ
يدافع عن صياد الحزن بالجرح
ألمي مشاع
يكتب على حوائط
أرى من يبصق عليه
من يبكي من يضحك
لم يكترث أحد بي
تبًا لي
ثم يأتي المقطع الرابع والأخير لتبوح فيه الأنا الشاعرةبآلامها، وتحدد مخاوفها، فكلما استطاعت تجاوز آلامها، وتضميد جراحها يأتي من يعاود قهرها واستلابها، واستخدام لفظ (كلما) يدل على التكرار، وقهرها واستلابها المشار إليه هنا ذكرته الأنا الشاعرة صراحة في قولها (من يجد لذته في الضغط/عليه من ينثر عليه الملح/يدافع عن صياد الحزن بالجرح) إن مأساتها لم تعد فقط في التجربة التي مرَّت بها وأغرقتها في دوامات الحزن، ولكنها أصبحت فيمن يدافعون عمن قهرها وخدعها وأورثها ألما وحزنا، وكأنهم بذلك ينثرون الملح على جرحها؛ ليزداد التهابا، وتزداد هي معه توجُّعا واستلابا، وتتعمق الصورة أكثر حين تقول (ألمي مشاع/يُكتب على حوائط/أرى من يبصق عليه/من يضحك من يبكي/لم يكترث أحد بي) فتبدأ بتقرير واقع مؤلم، وهو أنه لم يعد أحد يحترم خصوصيتها؛ فقد اصبح المها مشاعا يتحدث عنه الجميع، وكأنها هي المرتكبة للأخطاء والقاتلة وليست القتيلة، ومن تعرضت للخداع والقهر والإغراق في دوامات الحزن، ثم تزيد الشاعرة هذا المعنى تأكيدا بقولها (يُكتب على حوائط) ببناء الفعل المضارع للمجهول؛ ليتوافق ذلك مع لفظ (مشاع) فهي لا تستطيع تحديد من يتناول تجربتها؛ لأنه الجميع يقوم بذلك في إشارة واضحة إلى انتهاك خصوصيتها، وتزيد ذلك وضوحا من خلال استخدام لفظ (حوائط) لتدل على الكثرة، أي كثرة من يتحدثون عن ألمها، وتنوع رؤاهم، فمنهم من يضحك مستهزئا، ومنهم من يبكي على حالها، ولكنهم جميعا ليسوا مكترثين بها ولا بألمها (لم يكترث أحد) ويأتي لفظ (أحد) ليحكم على الجميع – من يضحك ومن يبكي – بأنه غير مبال، ومن ثم فهم شركاء في الجريمة التي تعرضت لها منذ البداية، ولم تجد من ينصرها، أو حتى يتحدث عن مرتكب الجريمة، بل وجد من يدافع عنه وعما فعل، أما هي فقد سقطت فريسة لهذا المجتمع بشرائحه المختلفة يتناولون ألمها غير مكترثين بما تعاني، وبذلك يغلق المقطع الرابع الدلالة ليحكم بأنه لاخلاص لها ولا لغيرها من النساء من حالات الاستلاب والقهر والخداع، ولا نجاة من هذا المجتمع الذي ينصر الظالم والمخادع والقاهر على الضحية التي وقعت فريسة خداعه ومراوغته، ولم تكن تبحث إلا عن تجربة صادقة تجد فيها أمانها، وتعبرفيها عن مشاعرها، وتجد من الطرف الآخر استجابة واحتراما لمشاعرها، وتجد من المجتمع نصرة لها، واحتراما لخصوصيتها، ولكنها اكتشفت خداع الآخر/المحبوب، وتخلي المجتمع عنها، ووقوفه مع المخادع ضدها ذلك المراوغ الذي تتبعها حتى أوقعها في شباكه.
وفي الجزء الثاني سوف نتحدث عن كل من التشكيل اللغوي والتشكيل البلاغي وأثرهما في إنتاج الدلالة، وكذلك سنتحدث عن المفاهيم المهيمنة على النص الشعري.

تبــًّا لي
حنان ماهر

كحصاةٍ أمسكتَها وألقيتَها في مجرى الحزن
تستمتعُ برؤيةِ الدوامَّاتِ
لم تعبأ لغرقي تبًا لك
راقبت نبضة هربت باللوعة ورجعت لقلبي بالحنين
فاض الحزن
كاد أن يبلل حذاءك
تراجعت بكل خفة
هنيئًا لك الهروب
كان القمر يطل خجولًا من بين غيوم شرودي
وأنت تبني قلاعًا من ورق
أرسلت همسة تناهي
لا تُنطق من شفتين
بل من جرح ارتطامي بالقاع
يا لحظي
أنا السمكة التي صادفت عصا موسى
فشقتني نصفين
أنا البقرة الفاقع ألمها
ذبحوها وسلخوها ما إن وجدوها
أنا الصيد البريء
تعقبني الصياد أصابني في مقتلى
أُعَيَّرُ بجرحي كأنه سبة
لم أجرح نفسي يا قوم وكيف؟
كلما رتقت قلبي جاء من يفكُّ الرتق
من يجد لذته في الضغط عليه
من ينثر عليه الملح
لا يُسْمَعُ تأوُّهٌ أو يُرى دمعٌ
يدافع عن صياد الحزن بالجرح
ألمي مشاع
يكتب على حوائط
أرى من يبصق عليه
من يبكي من يضحك
لم يكترث أحد بي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى