سليمة محفوظي - مقاربة بين الإقناع والبرهنة

يستدعي التّأّثير والإقناع في التّخاطب "آليّات فاعلة لتحقيقه ولذا نجد الحجاج ميزة من مميّزات هذا التّخاطب بمواقفه المتعددّة وأشكاله المتنوّعة بين الشّفويّة والكتابيّة،لذا يعدّ ركيزة النّصوص الموجهّة المتضمّنة للمقصديّة والنّقاش والنّقد والتّي منها النّصوص القرآنيّة والفلسفيّة والفقهيّة والأدبيّة ..." ()
تعود دراسة النّص الحجاجي إلى أزمنة بعيدة ابتداء من مؤلّفات أرسطو في الخطابة وانتهاء إلى أعمال كبار المفكرين ”كبير لمان " و " مايير" و ديكرو التّي أحاطت بكلّ ما يمكن أن يطرأ على هذا النّص من خلال عدّة نظريّات
والحجاج الذّي نتناوله بالدّراسة يتمثّل في معرفة ما "تشمل عليه اللّغات البشريّة عامة واللّغة العربيّة خاصة من وسائل لغويّة ومن إمكانيّات صرفيّة ومعجميّة وتركيبّة ودلاليّة يوظّفها المتكلّم لتحقيق أهدافه وغايته الحجاجيّة والاقناعيّة " ()

الحجـــاج:
أ- الحجاج لغة:تجمع المعاجم اللّغوية الأساسيّة في تعريفها للحجاج على ما جاء في لسان العرب لـ "ابن منظور" "يقال حاججّته أحاجّه حجاجّا حتىّ حاججته أي غلبّته بالحجج التّي أدليت بها [....] و الحجّة البرهان و قيل الحجّة ما دافع به الخصم وقال الأزهري الحجّة و الوجه الذّي يكون به الظّفر عند الخصومة وهو رجل محجّاج أي جدل، وحجّه يحجّه حجّا: غلبه على حجّته، وفي الحديث فحجّ أدم موسى أي غلبه بالحجّة»()


الحجاج اصطلاحّا: هو مجال غنّي من مجالات التّداوليّة ״يشترك مع العديد من العلوم الأخرى يعدّ ضمن الحقل التّداولي، لكنّه انبثق من حقل المنطق و البلاغة الفلسفيّة() يرتبط مفهومه بالفعل، وهو بحث من أجل ترجيح خيار من بين خيارات قائمة وممّكنة بهدف دفع فاعلين معينيّن في مقام خاص إلى القيام بأعمال إزاء الوضع الذّي كان قائما() يقوم في مفهومه على صناعة الجدل والخطابة، بل إن من الدّارسين حديثا من عدّة خطابة جديدة لا هو بالجدل ولا هو بالخطابة() ولتوضيح مفهوم الحجاجargumentation ينبغي مقارنته بمفهوم البرهنة Démonstration أو الاستدلال المنطقي "فالخطاب الطبيعي ليس خطابا برهاني بالمعنى الدّقيق للكلمة فهو لا يمدّ براهين وأدلّة منطق ولا يتبع مبادئ الاستنتاج المنطقي"()
ويقدّم أبو بكر العزاوي المثال التّالي ليبيّن الفرق بين البرهنة و الحجاج:

كلّ اللغويّين علماء
زيد لغــويّ
إذن زيد عـالم
انخفض ميزان الحرارة
إذن سينزل المطر()
يتعلّق الأمر في المثال الأول ببرهنة أو بقياس منطقيّ(Syllogisme) ، أمّا في المثال الثاّني فانّه لا يعد وحجاجّا أو استدلالا طبيعيّا غير برهانيّ واستنتاج أنّ زيدا عالم، في المثال الأول حتميّ وضروريّ لأسباب منطقيّة أما استنتاج نزول المطر في المثال الأخر يقوم على معرفة العالم، وعلى معنى الشّطر الأول من الجملة وهو استنتاج احتماليّ .
إنّ الحجاج هو « تقديم الحجّج والأدلّة المؤدّية إلى نتيجة معيّنة وهو يتمثّل في انجاز تسلسلات استنتاجيّه داخل الخطاب »() وبعبارة أخرى يتمثّل في انجاز متواليّات من الأقوال بعضها هو بمثابة الحجج اللّغويّة وبعضها الأخر هو بمثابة النّتائج التّي تستنتج منها ..." ()إنّ كون اللّغة "لها وظيفة حجاجيّة يعني أن التّسلسلات الخطابيّة محددّة، بواسطة الوقائع المعبّر عنها داخل الأقوال فقط، ولكنّها محددّة أيضا وأساسا بواسطة بنيّة هذه الأقوال فقط، وبواسطة المواد اللّغوية التّي تمّ توظيفها وتشغيلها" () وحتّى يتّضح مفهوم الحجاج أكثر وجب التّفريق بين الاستدلالraisonnement والحجاجArgumentation "لأنّهما ينتميان إلى نظاميّن جدّ مختلفيّن نظام نسميه "المنطق" ونظام الخطاب" ()فالأقوال التّي يتّكون منها استدلال ما مستقلّة بعضها عن بعض، يعني أن كلّ "قول منها يعبّر عن قضيّة ما أي يصف حالة ما أوضعا باعتباره وضعا واقعيّا أو متخيّلا، ولهذا "فإنّ تسلسل الأقوال في الاستبدال ليس مؤسّسا على الأقوال نفسها، ولكنّه مؤسّس على القضايا المتضمّنة فيها، أي على ما تقوله أو تفترضه بشأن العالم"()أمّا الحجاج "فهو مؤسّس على بنيّة الأقوال اللّغويّة وعلى تسلسلها واشتغالها داخل الخطاب"()
والأمثلة التّالية توضّح ذلك :
أنا جائع إذن أنا بحاجة إلى الطّعام
الجوّ بارد لنشغل المدفأة.
السّاعة تشير إلى الواحدة لنسرع.
عليك أن تصبر ليقوى إيمانك.
هذه الأمثلة تتكون من حجّج ونتائج،والحجّة تمّ تقديمها لتؤدي إلى نتيجة معيّنة، فالجوع مثلا في الجملة الأولى يستدعي الأكل، فالجوع دليل وحجة على أن الشّخص المعني بالأمر عليه أن يتناول بعض الأغذية ليسكت جوعه.وكذلك في المثال الثّاني فبرودة الجوّ تدعو إلى تشغيل المدفأة، فالمتكلّم يقدّم الحجج والأدلّة ليصل إلى النّتيجة المقصودة أو التّي يبغي الوصول إليها "والحجّة قد ترد على شكل قول أو فقرة أو نص، أو قد تكون مشهدا طبيعيّا أو
سلوكا غير لفظي إلى غير ذلك (...) والحجّة قد تكون ظاهرة أو مضمرة بحسب السّياق. والشّيء نفسه بالنّسبة للنّتيجة والرّابط لحجاجي الذي يربط بينهما ... " ()
ونوضح ذلك بالمثال التّالي :
أنا جائع، إذن أنا بحاجة إلى الطّعام
أنا جائع، أنا بحاجة إلى الطعام .
أنا جائع
أنا بحاجة إلى الطعام
نلاحظ أنه تمّ التّصريح بالحجّة أو الرّابط والنّتيجة ففي المثال الأول:
[أنا جائع إذن أنا بحاجة إلى الطعام]
حجّة رابط نتيجة
وفي المثال الثّاني صرّح بالحجّة والنّتيجة وأضمر الرّابط
[أنا جائع، أنا بحاجة إلى الطّعام]
حجّة نتيـجــة
أما المثال الثّالث فلم يصرّح إلاّ بالحجّة والنّتيجة مضمّرة تستخلص من السّياق:
[أنا جائع]
حجـّـة
ونجد عكس ذلك في المثال الرّابع حيث ذكرت النّتيجة وأضمرت الحجّة:
[أنا بحاجة إلى الطعام] نتيجة
سمات الحجج اللّغويّة :
يذكر العزاوي أن الحجّج اللغويّة تتسم بعدّة سمات ومنها على سبيل التّمثيل لا الحصر()
أ- سياقيّة: فالعنصر الدّلالي الذّي يقدّمه المتكلّم باعتباره يؤدي إلى عنصر دلالي آخر فإنّ السّياق هو الذّي يصيّره حجّة، وهو الذّي يمنحه طبيعته الحجاجيّة،ثمّ إنّ العبارة الواحدة قد تكون حجّة أو نتيجة، أو قد تكون غير ذلك بحسب السّياق.
ب- نسبيّة:لكلّ حجّة قوّة حجاجيّة معيّنة ،فقد يقدّم المتكلّم حجّة ما لصالح نتيجة معيّنة،ويقدّم خصمه حجّة أقوى وبعبارة أخرى هناك الحجّج القويّة والحجّج الضّعيفة.
ج- قابلة للإبطال:الحجاج اللّغوي نسبي وتدريجي وسياقي بخلاف لبرهان المنطقي والرّياضي الّذي هو مطلق وحتميّ.
أما العلاقة التّي تربط الحجّة والنّتيجة تدعى "العلاقة الحجاجيّة" وهي تختلف بشكل جذريّ عن علاقة الاستلزام أو الاستنتاج المنطقي ويمكن أن نرمز لها كالتاّلي : ح --- ] ن

المبادئ الحجاجيّة:
إنّ سلامة العمليّة الحجاجيّة مرهونة "برابط يضمن الرّبط بين الحّجة والنّتيجة وهو ما يعرف بالمبادئ الحجاجيّة (les topos) وهي تقابل مسلّمات الاستنتاج في المنطق الصّوري أو الرّياضي" () ولها خصائص عديدة نذكر منها ما يلي : ()
أنها مجموعة من المعتقدات والأفكار المشتركة بين الأفراد داخل مجموعة بشريّة معيّنة.
العمومية: فهي تصلح لعدد كبير من السّياقات المختلفة والمتنوّعة
التّدريجية : تقيم علاقة بين محموليّن تدريجييّن أو بين سلمييّن حجاجييّن .
النسبية: فإلى جانب السّياقات التي يتمّ فيها تشغيل مبدأ حجاجي ما ،هناك إمكان إبطاله ورفض تطبيقه باعتباره غير وارد وغير ملائم للسّياق المقصود أو يتمّ إبطاله باعتماد مبدأ حجاجي آخر مناقض له .
وبالرّجوع إلى المثال الأول:
[ أنا جائع إذن أنا بحاجة إلى الطّعام ]
نقول أن المبدأ topos الحجاجي الموظف في الجملة هو :
بقدر جوع الإنسان تكون حاجته إلى الطعام
كلما كان الإنسان جائعا، كان بحاجة إلى الطعام .
فالمبادئ الحجاجية هي: "مجموعة من المسلّمات و الأفكار والمعتقدات المشتركة بين أفراد مجموعة لغويّة معيّنة،والكلّ يسلّم بصدقها وصحتها" ()

فالكلّ يعلم أن الجوع يسكت بأكل الطّعام، وان الصّدق والكرم والأمانة من الأخلاق التّي يحببها المجتمع.
إذا كانت المبادئ الحجاجيّة: "ترتبط بالإيديولوجيّات الجماعيّة فإنّه من الممكن أن ينطلق استدلالان من نفس المقدّمات وأن يعتمد نفس الرّوابط والعوامل،ومع ذلك يصلان إلى نتائج مختلفة (...) لكن إلى جانب هذه المبادئ المحليّة topos locaux المرتبطة بإيديولوجيات الأفراد داخل المجموعة البشريّة الواحدة،هناك مبادئ أهم وهي مشتركة بين جميع أفراد المجموعة اللّغويّة،ومؤشّر لها داخل اللّغة ... " () .
الهوامش
1- أبو بكر العزاوي: اللغة والحجاج، ص 20
2حبيب أعراب: الحجاج و الاستبدال الحجاجي، ص 97
3- نعمان بوقره: مباحث في اللسانيات، ص 109
4- أبو بكر العزاوي: اللغة و الحجاج ص 22
5- حبيب أعراب: الحجاج و الاستدلال الحجاجي ص 103
6-O. Ducrot: les échelles argumentatives p11-10
7- أبو بكر العزاوي: اللغة و الحجاج، ص 23
8- نعمان بوقرة، مباحث في اللسانيات ٬ ص 95
9- أبو بكر العزاوي ، اللغة و الحجاج ص13.
-10ابن منظور: لسان العرب٬مادة (ح ج ج ) ج ص 223.
11- محمد سالم ولد محمد الأمين: مفهوم الحجاج و تطوره في البلاغة المعاصرة ص 58
12- المرجع نفسه ص 57
13- عبد الله صوله: الحجاج في القران ص 1/36
14- O. Ducrotː dire et ne pas dire p 286
15- أبو بكر العزاوي: اللغة والحجاج، ص 24.
16- أبو بكر العزاوي : اللغة والحجاج ، ص 25 .
17- طه عبد الرحمان : أصول الحوار و تجديد علم الكلام ، ص 171 .
18- أبو بكر العزاوي : اللغة و الحجاج ، ص 38 .
19- طه عبد الرحمان : أصول الحوار وتجديد علم الكلام ، ص 176 .
20- أبو بكر العزاوي ، اللغة و الحجاج ، ص 39 .



* أنفاس من اجل الثقافة والانسان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى