أ. د. مصطفى الشليح - وما هزَّتْ بِجِذْع النَّخلةِ.. شعر

أتصوَّرُ أنَّ المكانَ هنا
يُشبهُ الخيمةَ العَربيَّةَ في وقتِها
وقتُها أخذته البَريَّةُ إلى عُريها اللُّغويِّ
وكانَ حديثُ البَريَّةِ أنْ هاتِ بيتا من الشِّعر
واسكنْ إليه فإنَّ العبارةَ نائمةٌ في سمَر اللَّيل واللَّيل
لا تأخُذنَّ بما قمرٌ قد ينمُّ به. ما رأى شبحان يلوذان بالحذر
شبحان يلوحان جُرحا بكلِّ عمودٍ يميلُ من اللَّغو حتَّى رهافته
يتحولُ، في كلِّ آن، من اللَّحظةِ البدويَّةِ تُرقلُ بينَ الحتوفِ
وتسدلُ خطوا على الخطو شبهَ السُّيوف التي ليسَ تنبو
ومثلَ المسافةِ تحبو إذا وثبَ الظِّلُّ وثبا على الظِّلِّ
والسَّمهريَّةُ تنتخبُ الرِّيحَ ناظرةً خفَّةً للقيافةِ
يخبو بها خبرٌ أخذَ الحيَّ أخذا إلى خبر
أتصوَّرُ حيًّا على قدر
كادَ يسألُ عنْ نزق الصُّور.
سفرٌ يتمثَّلُ لي. أتصوَّرُ: لا شَيءَ يدعو إليه
أحذِّرُ منْ فتيةٍ واقفين على طلل لا يردُّ إذا سألوا
ومنَ العاكفين على الجَمر يستقطرون الرَّمادَ وما انتقلوا
فكأنْ حسبُوا أنَّ ماءً خبيئا، بعين الجذى، قد يسيلُ صعودا بهمْ
وكأنْ علمُوا أنَّ للعنكبوتِ يدا سوفَ تخرجُ منْ ثوبهمْ
إنْ همُ أنشبُوا الظفرَ في البئر تخطو إلى سربهمْ
وإذا سحبُوا كلَّ أسمائِهمْ حيثُما أمسكَ الطللُ.
طللٌ يتجَسدَنُ. يَمشي كأنْ هُوَ يَمشي بسوق
يُصافحُنا، واحدًا واحدًا، وكأنْ هُوَ يَعرفُنا. في وثوق
يُحدِّثُ عنْ طُرفةٍ نتبادلُها، ما التقينا، وعنْ بعض تذييلها
ثمَّ يُحْدثُ شبهَ فوضى إذا سالَ بألغازه ليقولَ: فكيفَ بتأويلها ؟
أتناولُ ما العنكَبوتُ رأى
أتحلَّلُ منْ كلِّ خيطٍ به إذ نأى
أتصوَّرُ تاريخنا يَستدرُّ حدوثا من القدَر.
أتصوَّرُ أنَّ الحُروفَ بأجسادِها
هيَ سابقةٌ ظلَّها كلَّما أورقَ الماءُ في بيدِها
كالسَّراب أمثِّلُه في يدِ الغَيم تنزلُ، شيئا فشيئا، وتعلو
إذا ما اقتربتَ لتنعمَ، لاهيةً، بكَ أنتَ الذي تشرئِبُّ إلى جيدِها. قرطُ ماريةٍ مَثلٌ عَربيٌّ أخذناه عنْ سلفٍ صالح، وأشكُّ به مثلا قد يدُلُّ على حَدثٍ ليسَ ينتحلُ. ربَّما سأفكُّ انحيازَ الكلام إلى شِبهه، ولعلِّي أحكُّ جناحَ السُّؤال ببعض اليقين الذي أستقيه من الأمَّهاتِ. قرأتُ أنا الأدبَ الجاهليَّ لطه حُسين، ولمْ أرَ ماريةً قرطَ أعيادِها. قلتُ: لولا هنا خيمةٌ كدتُ شكًّا بأوتادِها.
سوفَ تخلو إلى شكلها
حكمةٌ تتقرَّى، من الرَّمل، ذرَّاتِه
لتُحدِّدَ كمْ مرَّةً أخذ الآخرون الهُويَّةَ شكلا
وكمْ مرَّةً جبلٌ ما استوى فإذا الموجُ أصبحَ أعلى
وهذا المكانُ تدلَّى، وقابَ قوسين أخلى السُّؤالَ وكانَ تجلَّى
لعلِّي به أتصوَّرُ: كمْ مرَّةً يتحرَّى الصَّدى شذرة الأثر ؟
أتصوَّرُ أنَّ القبائلَ في يومِها الدَّمويِّ
نداءٌ إلى فتنةِ اللُّغةِ البَدويَّةِ منْ حلمِها العدَميْ.
القبائلُ تؤلِّبُ بعضًا على بعضِها
وتُرتِّبُ أحوالَها لتكونَ البقيَّةَ منْ قبضِها
سوفَ تُنشبُ، نافذةً، دمَها، وتُخضِّبُ تلكَ الطَّريق
وهذي بلوثتِها؛ فهنا وهناكَ بصهوةِ وادٍ تسيلُ إلى خيمةٍ
وأدتْها، هنا وهناكَ، المتونُ التي تتغرَّبُ نجمتُها خِرقةً لا تُفيقْ.
والقبائلُ كانتْ جدائلَ من أرق
لا تنامُ على الضَّيم ريحا على قلق
المشارقُ منها مغاربُ في اللانهائيِّ جسرا
عيونُ المها والرُّصافةِ كنَّ جلبنَ الهوى حيثُ أسري
ومنْ حيثُ أدري إذا لستُ أدري كأنَّ النِّهائيَّ أوقدَ جمرا
ليأتمَّ حادٍ به وبقنديله أرصدَ اللَّيلَ شبهَ فتى لتكونَ الكتابةُ فجرا
قبائلُ من ورق. أتصوَّرُها تتنادَى إلى ضجر.
القبائلُ تَحملُ أقوالَها
بينَ عَجز التُّراثِ ولُغز الحَداثةِ
كالأرض تحملُ أثقالَها وتُحاولُ شمسا
تُناولُها بعضَ أنفاسِها لتطيبَ بها، بعدُ، نفْسا
تُجادلُها كلَّما اللَّيلُ أرسى النُّجومَ
على بحرها حين أمسى
وتسألُها خيمةً يَستظلُّ العَراءُ بها منْ عُروبته بينَ مَنزلتين تكونُ وليسَ تكونُ. كأنَّ البدايةَ بيداءُ أوْ لكأنَّ النِّهايةَ بيداءُ ثانيةٌ بينَ مَنزلتين. ولكنَّ هذي القبائلَ ليسَ تدورُ كما الأرضُ حولَ النِّهائيِّ باللانهائيِّ. لا تدخلُ اللَّيلَ بالفجر تخذلُه موجة عابرة.
لا تُعاجلُ ظلَّ التَّردُّدِ, باليدِ سيفا، وليسَ تُركِّبُ أجزاءَها سورةً سورةً لتُحولَ أشياءَها عنْ متاه الإشارةِ بالعُمر يأخذها سافرة. ولتُخولَ أشياءَها بذرة تستقي ماءَها، منْ رؤى الأرض، تُنبتُ أثداءَها، بحليب إلى العُشب، حين تدورُ.
تدورُ هيَ الأرضُ. تقفزُ أعشابُها
توجزُ الرؤيةَ اللُّغويَّةَ. تلغزُ حينا، وتغمزُ
حينا بكلِّ الذي تستحلُّ الكتابةُ. تقفزُ أعتابُها
ما العلاقةُ بين يدِ العُشب والفتكةِ البكر بالعَتبة ؟
أتحفَّزُ كيْ أتحقَّقَ من وثبة الخيل قبلَ الذَّهابِ إلى العَربة
أتحيَّزُ شبه مكان أطلُّ، عليَّ به، لأرى الأرضَ تغمزُ أبوابُها.
وتدورُ بنا الأرضُ. خُذروفُها
قمرٌ عَربيٌّ صغيرٌ ينامُ كَخِشفٍ يفرُّ
إلى أمِّه. أمُّنا الأرضُ تسهرُ خوفا علينا
من الغُرباء، ومنْ عَربٍ أصبحُوا غُرباءَ، ومنَّا
ومنْ خِفَّةِ النَّبع بين الغزالةِ والماءِ، منْ دمِنا يَستسرُّ
هديلَ الحمامةِ منذ امرئ القيس حتَّى القصيدة، نثريَّةً، تستمرُّ.
تدورُ بنا الأرضُ: نكتبُ نثرا فلا نزنُ
أمْ حفاظا على النَّسل، منْ هُجنةٍ، نكتفي بالذي يزنُ ؟
ضاقتِ الأرضُ إذ رحُبتْ
ضاقتِ المَسرحِيَّةُ بالنَّصِّ لا يَتغيَّرُ
والشَّفويُّ يُديرُ الكلامَ وما دارتِ الأرضُ
كانَ الممثلُ يسيرُ إلى ظلِّه عندَ رفع السِّتارة
كمْ مرَّةً سوفَ تُرفعُ هذي السِّتارةُ ؟ لستُ أرى أحدا
هذه القاعةُ الحَجريَّةُ لا تنتهي ملءَ أفضيةٍ منْ فراغ المُحِبِّ.
أذاكَ المُحبُّ يُريقُ الهشاشةَ معنى
إذا الحُبُّ قنديلُه أمْ يُذيقُ الفراشةَ كيفَ تطيرُ
وكيفَ جناحان منه يقدَّان هذا الهواءَ تشكَّلَ مبنى.
أتصوَّرُ أنَّ القبائلَ لا تشتهي المَسرحيَّةَ
في بُعدها المرحليِّ إذا تنتهي غيرَ ما تشتهي
أتصوَّرُ أنَّ القوافلَ في رحلتين: هُمَا صيفُها والشِّتاءُ
تجارتُها تستعيرُ المنازلَ منْ وجهتين: هُمَا خوفُها والهُذاءُ
أتصوَّرُ أنَّ المكانَ، هنا، ضاقَ منْ صغَر.
ومنَ الماء، ليسَ يكونُ، إلى الماء
شبهُ خرائطَ مَطويَّةٍ .. كالمُعلَّقةِ الذَّاكرة
أنَّ هذي قبائلُ تمضي إلى ما تشاءُ بلا ذاكرة.
هيَ فتنةٌ خلاَّقةٌ. فوضى تُجَمْجِمُ
فيمَ جئتُ أنا بهذا الفعل منْ قاموسيَ المَنسيِّ ؟
فوضى تقضمُ التفَّاحَة الأولى لتنزلَ حيثُما لا أرضَ
فوضى. آخرون لها، ومذ عَقدين أوْ ما قد يُنيِّفُ، آخرون
إلى خرائطنا، ونحنُ هنا / هناكَ نُفاوضُ الفوضى على شيءٍ
.. على شيءٍ نُفاوضُ ليسَ نعرفُه
نُفوِّضُ ظلَّنا جسدا على اللاشيء نقطفُه
نُقوِّضُ شكلنا لنرى بشكل الآخرين مسافةً ظمأى
كأنَّ هُويَّةَ الماء القديم إذا تعُضُّ سماءَنا لا تلتقي أسماءَ
سوفَ يقُضُّ موقدَنا الرَّمادُ وتنفضُ الأشياءُ عنْ مِرآته أشياءَ
سوفَ نرى المكانَ تبعَّضَ المعنى به أصداءَ.
هيَ فتنةٌ خلاَّقةٌ. فوضى إلى العرب
أكانَ يُفكِّرُ العَربيُّ في الماء القليل إذا نبا
ومنَ المحيط إلى الخليج أفكَّرَ العَربيُّ في شيءٍ حبا ؟
تأتي الفُصولُ، بنا، كعادتِها
تخُبُّ، بنا كعادتِها، فُصولُ السَّنة
وتهُبُّ أنداءً، إذا شاءتْ، كأنَّ بها سِنة
أوْ تنهبُ الأمداءَ منَّا، مثلَما شاءتْ إذا تثبُ
تشبُّ بنا دماءً كيْ نُجرِّبَ شكلَ مِرآةٍ بها تعبُ
وربَّتَما تدِبُّ، بنملها، في صوتنا حتَّى الصَّهيل بمئذنة
حتَّى الصَّلاة، بصرخةٍ، تطوي الفضاءَ بمائنا الحَيويِّ يغتربُ.
تعوَّدنا الفُصولَ تحُطُّ رحلا
كانَ كهلا أو يكونُ فتًى إذا انهلا
وسالَ. تخُطُّ مثلَ الأبجَديَّةِ ما تقولُ الأبجديَّةُ
إذ تشطُّ بنا غموضا، بينَ قافيتين، ثمَّ تزمُّ رحلا ..
تعوَّدنا الفصولَ سماءَها والماءَ؛
زرقتَها تُفتِّقُ حلمَها للعاشقين كأنَّ رقَّتَها
تُطوِّقُ، بالنِّداء، سؤالَها للأرض .. خرقتَها
تُحدِّقُ في السَّراة السَّالكين إلى مُرقَّعةٍ يدا بيضاءَ
حُرقتَها إذا ما الجَمرُ يَرتقُ ثوبَه العاري .. ويخرقُ ماءْ
تعوَّدنا الفُصولَ ربيعَها الضَّوئيَّ
ثمَّ ربيعَها العَربيَّ يأتي ضاحكا كقصيدةٍ
والبُحتريُّ مُملَّكًا وشيَ الكلام مشتْ به الحقبُ
فوشوشَ بي حَديثٌ: هكذا كانَ الرَّبيعُ فراشةً تلهو
فكيفَ دمٌ إذا يَهتزُّ بالعَربيِّ لولا هذه فتنةً خلاًّقةً .. تثبُ ؟
كأنْ هَزَّتْ
إليها جذعَ نخلتِها العَربُ
وما هزَّتْ إذا ما ربعُها الخَربُ
أكانَ سُؤالها، يدَها، إذا ما جفَّتِ الرُّطبُ ؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى