مسرحيات عبد الكريم العامري - دومينو

(ان تُجبَر على أن تكون جزءاً من اللعبةِ، فتلكَ هي الكارثة!)


الشخوص:
  • الفردي
  • الزوجي
  • البياض
  • صوت
  • الأول
  • الثاني
مساحة فارغة، مجدبة، لا شيء هنا سوى القطع الثلاث ذات الارقام الفردية وذات الارقام الزوجية والبياض الذي يبدو مضيئاً واثقا من نفسه. فيما الآخران ملطخان بندب سوداء، بفكوك كريهة، وعيون ذئبية شرهة! ثمة شخصان (الأول والثاني) يقفان في الجانب الايمن من المسرح يحاول أحدهما ترميم تمثال كُسرت أجزاؤه).
مدخل:
ما كانَ هنا، غيرُ يبابٍ وسخامٍ وقراطيسَ بلا كلمات.
لكنَّ بأيدٍ واثقةٍ سطّرنا حروفَ الكون.
قد تنكسرُ المرساة، وتمزّقُ ريحُ الكرهِ أشرعةَ العوم.
ستمضي.
تلكَ سفينةُ نوحٍ تتحدى الأمواج.
يا آدم، ما أنزلكَ من جنّةِ عدنٍ، غيرُ الشك.
ما أجبركَ على تلكَ المحنةِ ، غير اللؤم.
الليلُ طويلٌ، لكنَّ المحنةَ أطولُ من ذاكَ الليل.
هي لعبةُ هذا الزمنِ المحفور على لوحِ الخلق.
قد تنجو، أو تبقى في دائرةِ الموت!
صوت:
لن تنجو ما دمت حبيس الجدران.
البياض: قالوا ذلك قبلك ونجوت.
صوت: النجاة لا تتكرر مرتين..
البياض: هذا رهانك أنت.
صوت: وما رهانك أنت؟
البياض: تعرفه مثلما تعرف تلك اللعبة.
صوت: هل تعرفني؟
البياض: مهما بدا صوتك ناعما، يبقى النباح نباحاً.
صوت: لا يغرنّك بياضك، ولا صوتك الذي لايشبه أي صوت.
البياض: صوت ملايين المفطومين على وجع القهر. صوت البيوت المغلوبة على أمرها، الشاخصة أبصارها نحو سماء لا يمكن أن تتبرأ منها.
صوت: كن معهم، ستنسى الأوجاع.
البياض: ما كنت ذيلاً لأحدٍ ولا أكون! كنت رأساً ولم أزل.
صوت: الرأس الذي لا يستطيع أن يقاوم سيكسر. كثيرون مثلك جرّهم غرورهم وصاروا هشيماً.
البياض: ليسوا مثلي. أولئك مجرد أرقام وضعت في مزبلة التأريخ.
صوت: (ضاحكا) سيأتون اليك، ليضعونك في تلك المزبلة! لن تنتظر طويلاً، سيأتون ملفعين بأردية الموت، وأفئدة صلبةـ ومخالب من نار وحديد. عند ذاك لا ينفعك ما توهم نفسك به. لا تأريخ، لا أجداد، ولا حلم يجمعك بظنونك.
(الضحكات تتصاعد ممزوجة بلغط وأصوات متداخلة من كل اللغات، البياض يدور حول نفسه وكأنه محاصر من كل الجهات، يجلس على كرسي وضع في المنتصف مثل غرفة تحقيق يقف على جانبيها الفردي والزوجي، بينما ثمة شخصان يقفان في الجانب الايمن يهتمان بترميم تمثال هشّمت بعض اجزاءه)
البياض: (صارخا بهما)
لست منكما، ها آنذا أكررها للمرة الألف. (ينظر الى الفردي) لست منك أنت. (ينظر الى الزوجي) ولا أنت. هل فهمتما. أنا لي عالمي الذي يختلف عنكما اختلاف الليل والنهار. هل هذا يكفي لكي تكفّان عن مضايقتي؟
الفردي: لكنك تنتمي لي.
الزوجي: بل ينتمي لي
الفردي: عليك الاستسلام والقبول بما أقرره أنا. اذهب بعيداً خير لك من أن تصرّ على شيء ليس لك.
الزوجي: يعرفني هذا البياض أكثر منك. أنت الغريب هنا.
الفردي: (بهدوء مفتعل) ما زلت مصرّاً. طيّب. لا أظنني أسمح لك بوضع يديك عليه، وسترى كيف ستجثو ذات يوم على ركبتيك تتوسلني لكن يومها لا ينفع الندم.
الزوجي: (غاضباً) لم أر مجنونا مثلك.
الفردي: ولن ترى حين تتلقى ما لا تتوقعه مني. أني أحذّرك، إيّاكَ أن تغضبني، أو تراهنني على شيء!
(يتشاجران بينما البياض ينظر لهما متضايقا) (الأول والثاني في جانب آخر)
الأول:
أراهنك أن هذا لا يمكن اصلاحه، انظر لتلك الأجزاء المهشّمة.
الثاني: يمكن اعادتها، هذه ليست المرة الأولى التي أعيد فيها أجزاء تمثال تهشّمت.
الأول: ستضيّع وقتك، اليد التي تقطع لا ترد.
الثاني: أنا قادر على أن أردها في مكانها.
الأول: (ضاحكاً) لو افترضنا انك استطعت أن ترد اليد، فماذا عن بقية الاجزاء. (يشير الى الرأس) وهذا، تستطيع أن تضعه في مكانه الصحيح. تستطيع أن تجعله مرفوعاً كما كان. أعرف أن الرأس اذا ما هوى، فلن يستطع أن يحافظ على هيبته.
الثاني: ليست كل الرؤوس سواسية. هناك من يطأطئ للريح إن أقدمت. وهناك ما لم تهزّه البراكين لو ثارت.
الأول: ورأسك هذا لمن ينتمي؟
(الفردي والزوجي ما زالا يتشاجران)
الزوجي:
ينتمي لي، أنا قادر على أن أحتويه..
الفردي: لست أنت بل أنا.
البياض: (صارخا بهما) قلت لكما. أنا لست منكما. أعرف انكما لن تفهمانني لأن لغتي غير لغتكما. ولوني يختلف. من أين جئتما كي تضعا عصيكما في طريقي وتمنعانني من الوصول.
الفردي: (يتوقف عن شجاره) حتى وان صرخت. لا يسمعك أحد. أنت قطعة مني مثلك مثل كثير من اتباعي.
الزوجي: (موجها كلامه الى الفردي) بل ان كلامك لا ينفع أحدا، ولا يسمعه البياض، لأنه ينتمي لي، أنا الزوجي.
الفردي: ومن قال ذلك؟ البياض ينتمي لي. وهو الأقرب لي بأفكاره وأحلامه.
البياض: أي أحلام تتحدث عنها. وهل ابقيتما لي حلم لم تطفئوه.
(الأول والثاني من الجانب الآخر)
الأول
: حلمك لن يتحقق أبداً. لا تصرّ على شيء لا تستطيع القيام به. قلت لك، لن تتمكن من إعادة هذا التمثال الى سابق عهده.
الثاني: لا يحتاج الى عمل كثير، أنه صلب، وهذا سبب قوته، واصراري على ان أرممه، وأعيده كما كان.
الأول: وهل تعتقد أنه سيعود كما كان.
الثاني: البذرة الطيبة لا يمكن أن تثمر الا ثمراً طيباً.
الأول: هذا ما يقوله الحكماء، لكنهم أيضاً لا يشجّعون على هدر الوقت على أمر ميؤس منه.
الثاني: لا يأس مع الحياة!
الأول: (ضاحكا بسخرية) كتاب قرأته دون أن أستفيد منه.
الثاني: لن تستفيد من شيء ما دمت تحمل في صدرك الشك.
الأول: (بثقة) الشك أقرب طريق الى اليقين.
الثاني: كن واثقاً أن هذا التمثال سينتصب ثانية، وسيراه كل الكون، صلباً، عزيزاً، مصاناً. لا ينحني لأحدٍ، أو ينكسر أمام أحدٍ.
الأول: أقولها لك وللمرة الأخيرة. استمع إليّ، وإلقِ هذا التمثال البائس في النهر، أو ضعه هناك في حاوية القمامة ربما ينتشله بعض السيارة ليستفيدوا من أجزائه. استمع إليّ أيها المبتلي بالوهم.
(الفردي والزوجي من جانب آخر)
الزوجي:
ايّاك أن تستمع اليه، هذا لا ينفعك. استمع لي أنا. أنا الرابح هنا!
الفردي: (ضاحكا بسخرية) أنت. أنت الرابح هنا؟
الزوجي: شئت أم أبيت. أنا الرابح وانت لست سوى قطعة خاسرة.
الفردي: تجرأت كثيرا. ساتحمل ترهاتك لأنك تدّعي الربح، ولم تر خساراتك.
الزوجي: خساراتي؟ أية خسارات يا رأس الافعى. يا لبؤسك، لا بل يا لبؤسي لأني أهدرت وقتي معك. لو أردت فرض ارادتي لما بقيت، لكني امتلك نفساً طويلاً.
الفردي: لست أطول من ذراعي. تنعتني برأس الافعى، ولم ترَ السمَّ الذي ينزل من اظفارك.
الزوجي: اسلوبك هذا بتسقيطي لا ينفعك. (بسخرية) من يسمعك يظنّ أنك مكتشف الاسبرين.
الفردي: أنا كل شيء. كل شيء هنا هو ملكي، ويخضع لإرادتي. أنا القوة، والعزم.
الزوجي: وما أدراك ما النرجسية!
الفردي: لست نرجسيّا. (باصرار) هذه قوتي. لم اطئ أرضاً دون أن تشعر بقوة أقدامي. لا أحد هنا لا يخشى غضبي، وبطش يديّ.
الزوجي: ومن الوهم ما قتل!
الفردي: لست هنا كي أجادلك. كان عليك أن تعرفني أكثر.
الزوجي: أعرف جبروتك، وطيشك. أعرف كل ألاعيبك، وخططك.
الفردي: كانك تنظر في مرآة.
(الأول والثاني من جانب آخر)
الأول
: أراك واثقاً من نفسك. من أين لك كل هذه الثقة.
الثاني: منه! (يشير الى التمثال) من هذا التمثال الذي استهزأت أنت به.
الأول: وما الذي تريدني أن أقول، وأنا أراك تضيع وقتك أمام كتلة البرونز هذه.
الثاني: أخطأت في تقييمه مرة أخرى. أنت تراه كتلة برونز، اما أنا فأراه روحاً.
الأول: هل جننت. من أين تأتي الروح لهذا؟
الثاني: من اليد التي كوّنته. وصاغته، وجعلته جميلا. الأبدان أوعية للروح.
الأول: صرت حسّاساً أمام هذه التفاهات. ما كان عهدي بك هكذا.
الثاني: لأنك ما عرفتني الا في زمن التفاهات. الزمن الذي غيّر كل شيء فينا. ودمّر كل شيء. الزمن الذي انتزع منا كل إحساس جميل، وقلبَ كل الموازين، صرنا نلتفت للخلف، لتلك الأيام برغم مرارتها نراها أجمل. صرنا نترحم على ما كنا عليه بعدما عشنا ما نحن فيه. هذه هي التفاهات التي تقصدها، وليس هذا التمثال.
(البياض في جانب آخر يقف بين الفردي والزوجي)
البياض:
تتعاركان على أمر لا يعنيكما.
الفردي: وكيف لا يعنيني؟
الزوجي: بل يعنيني أنا.
البياض: ها قد عدتما بما بدأتماه. عليكما ايقاف هذه الاسطوانة المشروخة (بصوت أعلى) قلت لكما بلغة واضحة. أنا لست لك (يشير الى الفردي) ولست لك أيضا (يشير الى الفردي)
الفردي:
كيف يكون هذا. لا يمكن أن تعيش دون ان تنتمي
البياض: ومن قال لكما ليس لي انتماء.
الزوجي: (بابتسامة صفراء) أكيد تنتمي لي.
الفردي: (يدفع الزوجي بقوة) بل ينتمي لي. ألم تره حين قالها كانت عينه عليّ.
البياض: لا أعرف بأي لغة أتحدث معكما. يبدو انكما للآن لم تفهما ما قلت. لا أنتمي لهذا أو ذاك، أنا أنتمي لنفسي. لامتدادي الطبيعي في البياض المبني على الحب. والألفة.
الزوجي: أنا امتدادك الطبيعي. سأغدق عليك بالحب والألفة كما تريد.
البياض: الحب بتكلف ومصلحة ليس حبّا.
الفردي: (وكأنه اكتشف شيئاً) ها. أرأيت. الحب والمصلحة لا يلتقيان. (يقترب منه أكثر) وأنا أحبك بلا مصلحة.
الزوجي: ليس من مصلحتك أن تبقى عائماً هكذا، بلا سند. لابد أن تتكئ عليّ لأحميك.
الفردي: ومن يحميه غيري. قوتي أكبر واتباعي كثيرون.
الزوجي: لي من الاتباع ما لم تقدر على ان تحصيهم.
الفردي: بل اتباعي هم الأكثر.
الزوجي: بل أنا.
الفردي: أنا.....
البياض: (صارخا بهما) أنت أو هو.. اذهبا بعيداً وتناطحا بعيداً عني. دعوني وشأني.
الفردي: شأنك يهمني.
الزوجي: أنت قطعة مني.
الفردي: بل هو الأقرب مني.
البياض: (غاضبا) لست قطعة منك ومنه. ألا تفهمان ما أقول. افهما لغتي. بأي لغة اخاطبكما لكي تفهمانني؟
الفردي: أنت وحيد. لا صوت لك. كن معي فصوتي هو من يعطيك القوة.
البياض: أنا قويٌّ بنفسي وامتدادي. لا أريد أن أسلمكما نفسي.
الزوجي: هكذا ستزول.
الفردي: ويأكلك الآخرون.
البياض: لست عدوا لأحد. أتعامل مع الآخرين بما لا يسيء لي ولهم.
الفردي: ابتعادك عني اساءة.
الزوجي: واساءة لي أيضا.
الفردي: بقاؤك معي يزيدك قوة.
الزوجي: بقاؤك معي يزيدك رفعة.
البياض: لا أعرف ما الذي يجعلكما أن تتدخلا بشأني. ما الذي يجعلكما تطمعان بي.
الفردي: أطمع؟ لست طامعا بك.
الزوجي: لا شأن لي بشأنك. الحب أيها البياض يقرّبني اليك.
(الأول والثاني في جانب آخر)
الأول
: ما الذي يحببك فيه؟
الثاني: أنت تعيد اسئلتك، وتكررها.
الأول: لم أبتغِ الا مصلحتك.
الثاني: مصلحتي في أن يقف هذا التمثال ثانية. يعود اليه ألقه. نستظل به، ونستعيد به زهو أيامنا، وأخلاقنا. مصلحتى في أن يكون تمثالنا في كل بيت غاب عنه الفرح، لكي يعيد له الابتسام. مصلحتي في أن يمدّ هذا التمثال يداً على كل مدننا، لتنعم بالأمان.
الأول: أنت تريدنا أن نرجع الى الوراء، نعيد دموع الثكالى، وحزن الايتام. تريدنا أن نعود الى الوراء لكي نموت في المواضع بحروب لا طائل منها. تريدنا أن ننسى ما حلّ بنا. يوم كنا نركض خلف رغيف الخبز، حتى امتلأت كل مدن الأرض باولادنا. هذا ما ترغب فيه؟
الثاني: يبدو أنك لم تفهم ما أردت. أنا يا فهيم، لا أرغب في عودة الأمس. أنا أرغب في عودة أخلاق الأمس. تلك التي نسيناها. يوم كانت أبوابنا بلا أقفال، وآباؤنا مصانون، وأمهاتنا نراهنّ كقديسات. هذا ما أردته أنا وليس ما ذهبت أنت اليه.
(الفردي والزوجي والبياض في مكان آخر)
الفردي: (الى الزوجي)
تعال نتفق.
البياض: (باستغراب) تتفقا!
الفردي: (الى البياض) ابقَ أنت هنا (يلوك الجملة) ايها الحبيب! سيأتيك الصافي.
البياض: أيُّ صافٍ هذا؟ تتفقان عليّ دون استشارتي. عليكما أن تخبرانني عن كل ما تضمرونه لي.
الفردي: قلت لك ابقَ بمكانك. لن نضمر لك شيئاً. كل شيء سيكون على ما يرام.
(الفردي يتضايق ويسحب الزوجي بعيدا عن البياض)
الفردي: (هامساً في أذن الزوجي)
اسمع يا هذا. العراك لا يفيدك ولا يفيدني. لنتقاسمه وبهذا ستكون المصلحة مناصفة بيننا.
الزوجي: هل تريد أن تقتطعه؟
الفردي: جزء لك والآخر لي.
الزوجي: (مفكرا) هل تراه سيقبل؟
الفردي: ليس له شأن بهذا. المهم أن توافقني. نحن من يقرر وكل ما عليه أن يقبل بكل ما نمليه عليه.
الزوجي: أراك واثقاً من أنه سيوافق.
الفردي: عليه أن يوافق بارادته او دونها. المهم أن نتحد نحن وسيهابنا. ألم تسمع (بنعومة) أن في الاتحاد قوة.
الزوجي: كيف تريدني أن أثق بك؟
الفردي: عليك أن تثق بي. لا طريق لك الا في اتباعي. الحل في أن نتقاسمه لنتجنب العراك، والخصام، أنت تبحث عن مصلحتك، وأنا كذلك، وما عليك الا ان توافقني.
البياض: (يصيح عليهما من بعد) ها. هل انتهيتما.
(الفردي والزوجي يقتربان منه. الفردي يشير الى جزء من البياض للدلالة على حصته، بينما الزوجي يبادله الاشارة في النصف الآخر من البياض)
البياض: (مستغربا)
ما الذي تشيران اليه؟
الزوجي: انتظر. كل شيء نفعله هو من أجلك.
الفردي: وتأكد يا صديقنا البياض أن كل شيء سيدر الخير لك.
البياض: صديقكما؟ ما هذا التغيير المفاجئ. كنتما قبل لحظات تتعاركان، وتتصايحان. ما سبب هذا التغيير؟
الفردي: لأنك ما رضيت بعراكنا، وصراخنا، ولأننا نريد مصلحتك تركنا العراك جانباً. كن معنا، وكلانا سنكون بخدمتك.
الزوجي: وستكون في مأمن!
البياض: (مبتسماً) يا لها من طرفة ساذجة. أتظنان أنكما تقنعانني بهذا؟ ما من شيء أخاف منه لأكون في مأمن. أنا لا أعادي أحداً. ولا أحد يعاديني.
الفردي: أنت في زمن صعب. زمن لا تستطيع أن تبقى فيه وحيدا. عليك بالاختيار اما ان تنجو وأنت معنا أو أن تنتهي. هذا هو زمننا. زمن لا يمكنك المضي فيه دون سند.
البياض: صدقت. هذا هو زمنكما. وهو زمني أيضا. أعرفه جيداً، لولاكما لما صار بائساً، مُرّاً، وقاسياً.. أنا لا احتاج الى سند. سأعتمد على نفسي.
الزوجي: لا يمكنك الاعتماد على نفسك. أنت مجرد بياض.
البياض: هذا البياض كان مصدر اشعاع للكون. به تفتّحت البصائر، وانجلت العتمة. ومنه بدأ نبض الدنيا! هذا البياض كان أملاً لكثيرين، وفاتحة خير لآخرين. هذا البياض الذي تعيّرني به كان سبباً لوجودكما، ومن سبقوكما.. لهذا لا أريد أن أشوّه جسدي بنقاط سود. أنا سعيد ببياضي مثلما انتما سعيدان بتلك الندب السود.
الفردي: البياض قابل للاتساخ.
البياض: لن أدع أحداً أن يوسّخني.
(الأول والثاني في جانب آخر)
الأول:
خير لك أن تترك هذه الوساخة.
الثاني: خيرٌ لك أن تتركني أعمل.
الأول: عمل غير مجدٍ، هدر للوقت، وجهدٌ لو قمت به بعمل آخر لحصلت على مال.
الثاني: ما الذي أجبرك على أن تتبعني. كنت تقول أن تجارتك رابحة، وأن يديك منجمٌ للمال. ما الذي أتى بك إليّ بعد تلك القطيعة. تخلّيت عنّا سنيناً طوال، لم تسأل عن اخوتك يوم أكلهم الحصار. ولم تسأل عن أمك وهي تحصد السنوات كي تراك. دفعنا ثمناً باهضاً لغيابك، انتظرناك، لم تكلّف نفسك ببريد واحد. والآن جئت كي تعبث بأحلامي، وتبدد سعادتي، وتجبرني على أن استمع لك.
الأول:
كلما أردت نسيان الأمس ها انت ذا تذكرني به كان عهدي بك هكذا، صرت تبغضني.
الثاني: لو كنت أبغضك ما سمحت لك أن تبقى معي. أنت تغيّرت كثيراً، كل شيء لديك يباع ويُشترى. لم تبقِ شيئاً لم تربطه بالمال.
الأول: حياتنا هكذا، بيع وشراء.
الثاني: وتريدني أن أبيع تأريخاً مليئاً بالفخر. أبيع أرضاً لم تنشف فيها دماء أخوتنا. ما زال بكاء أمهاتنا يسمع في كل الأرجاء.
الأول: تخلى يا أخي عن كل ما يعكر صفو مزاجك. (يشير الى التمثال) وتخلّى عن هذا التمثال أيضاً لأنه مصدر كل تعاستك.
الثاني: تعرف أني لن أتخلى عن تمثال نحتته يدي.
الأول: يمكنك أن تنحت غيره.
(الزوجي والفردي والبياض في جانب آخر)
الزوجي: (ضاحكا بخبث)
أنت تعيش في عالم لا تدري ما فيه.
البياض: أعرف كل شيء. ان كنت أنت لا تدري سأعلمك من أنا.
الزوجي: حقّاً؟! هيا علّمني من أنت؟
البياض: أنا من علمك أن تستخدم لسانك هذا. وما أنت عليه الآن.
الفردي: أنت من فعل هذا بي؟ (يضحك بسخرية)
البياض: (واثقاً)
وهل تنكر؟
الفردي: لم أفهم ما تعنيه.
الزوجي: يقصد أن بياضه كان سبباً لقوتنا وسلطتنا.
الفردي: (الى البياض) هذا ما قصدته؟
البياض: لأنك لا تفهم لغتي......
الفردي: (مقاطعاً) فهمت.. فهمتك. وهل وجدتني غبيّاً لهذا الحد؟ (بنبرة حادة) اسمع ايها البياض، نحن قررنا وما عليك الا الاذعان لنا.
البياض: تقرران دون استشارتي؟
الزوجي: ومن تكون أنت حتى نستشيرك؟
البياض: لو لم أكن لما تكالبتما وتصارعتما عليّ. لو لم أكن لما عقدتما العزم على ابتلاعي وسلب ارادتي. لو لم أكن لما حملتما أنفسكما، وجئتما لاستباحة تأريخي، وتغيير مظهري، لأبدو هجيناً متسخاً بأدرانكما.
الفردي: غلط. أنت تفهمنا غلط. ما جئنا الا لمصلحتك.
الزوجي: ولم نجيء الا من أجلك.
البياض: أعرف مصلحتي أكثر منكما. لا ما نع في أن أكون صديقاً لكما دون أن تمسّا كرامتي.
الزوجي: كرامتك في الحفظ والصون.
الفردي: سنحافظ على كرامتك ما دمت مذعناً لنا.
البياض: ومن أنت حتى أذعن لك؟
الفردي: أنا من يمتلك مفاتيح عالمك هذا، ولا يمكن أن يحدث أي شيء الا بأمر مني.
الزوجي: (متردداً) أنا اختلف عنه. الغرور ليس من شيمي. أنا لا أجبر احداً على شيء الا اذا كان بارادة منه، أو حين أشعر أن جزءاً منه يشبهني، لهذا اخترتك.
البياض: (غاضبا الى الفردي) لا أنت تجبرني على أمر لا رغبة لي فيه. (يلتفت الى الزوجي) ولا أنا أو جزء مني يشبهك. أنا لا أشبه الا نفسي، ولا انتمي الا لها. تلك المساحة التي لا تدركها ابصاركما، ولا عقولكما المليئة بالخبث. قبلكما كنت، ابتدأ الزمان بي، وبيّ امتد. كنت وما زلت بياضاً ناصعاً. ليس كمثل نتفة بياضكما الملطخة بتلك البقع السوداء. لست منكما، ولن أكون. ولست معكما، ولن أكون. أنا مع نفسي، وأهلي. لا أضع يديّ بأيدٍ ملوّنة. أنتما لا تشبهانني ، وأنا لا اشبهكما. عليكما انهاء المهزلة.
(الأول والثاني في جانب آخر)
الثاني:
يا لها من مهزلة، هل رأيت وجهك في المرآة؟ تغيّر فيك كل شيء حتى وجهك لم يعد يحمل لون الأرض.
الأول:
لا أحد يبقى على حاله. تلك هي سنّة الحياة.
الثاني: (واثقاً) إلّا الأصيل، لا يمكن أن تغيّره سلطة ولا مال.
الأول: لو تخلّيت عن مثاليتك، لعرفت أن الزمن الذي تحفر فيه نفقك المظلم، وتجمع شتات تمثالك، ليس كما تراه. هذا زمن السلطة، والمال، دونها أنت قشّة في بحر!
الثاني: من جاء بالبحر كي يفسد علينا حياتنا؟ من أسدل ستار الفرح عن المدن الآمنة؟ هل سألت نفسك؟ اسألها ان استطعت لتعرف مدى الكره الذي وزعتموه على الناس. جعلتمونا أشتاتاً، طوائفَ وأفراداً، وبعتمونا على هذا وذاك، حتى اذا ظهر خبثكم، وبانت نجاستكم، صنعتم لأنفسكم آلهة تحكمون بإسمها، وتسرقون بإسمها، وتقتلون بإسمها.
الأول: هل اكتفيت؟ تأكد أن كل ما قلته لا يسمعه منك أحد حتى لو صرخت. هذا هو الواقع، ولا عودة للخلف. لا عودة لما تحلم به. الفأس وقع بالرأس (باستهزاء) هذا ان كان لكم رأس. ستبقون هكذا، خائفين مهزومين، تأخذكم أوهامكم الى أوهام أشد قسوة. ستبقون تركضون خلف تأريخ زائف، وأسماء لا وجود لبطولاتهم الا في أساطيركم، وحكايات جدّاتكم.
أصوات متداخلة: مات الدوشيش.. مات الدوشيش.. مااااات الدوشيش..
يافطة كبيرة تنزل وقد كتب فيها : Game over
صوت
: مثلما بدأنا ربما ننتهي.. ولكن في اللعبة الخطيرة لن ينجو إلا الجبان، فلا تكن أنت هو.
اظلام- ستار
البصرة المظلومة 20 كانون الاول 2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى