مهدي عيسى الصقر - عنق الزجاجة

علي ان أقول في البدء _ لكي لا يفاجأ أحد بعد ذلك_ أنني لا أقوى على المشي، وانني، منذ الحادثة، اقضي معظم ساعات نهاري مشدودا الى هذا الكرسي المعدن ذي العجلتين الكبيرتين، جالسا في الظل الكثيف لشجرة الكالبتوس الضخمة_ التي زرعها جدي عند باب الدار _ أراقب السيارات والمارة بذهول مريض في طور النقاهة، يتامل الاشياء من حوله بنظرة متأنية، وبعجب شيخ يجلس مسترخيا في عربة يجرها حصان عجوز عبر دروب مدينة غريبة، الشارع الذي يطل بيتنا عليه هو أحد المداخل الكثير الى مركز المدينة المزدحم الصاخب، عرضه اربعون مترا، وعلى أحد جانبيه _سدة طويل من البيوت الواطئة يتوسطها بيتنا ، وعلى الجانب الاخر سدة ترابية مرتفعة تتمدد فوقها سكة قطار مهجورة منذ زمن، تبدو وراءها الاجزاء العليا لعدد من البيوت الحديثة باشجارها الخضراء، و واجهاتها الملونة، انني أبدا نهاري في السادسة والنصف، قبل ان يبدأ الموظفون اعمالهم بوقت طويل، اغصان الشجرة الطويلة تتهدل فوق راسي في صمت فالعصافير تكون قد غادرت أوكارها في مثل هذه الساعة من النهار، اين تذهب !؟ لا اعرف تماما، لعلها تعبر الشارع وسكة القطار المهجورة والبيوت المقابلة لتنشر في البساتين المطلة على النهر وراء البيوت، أو ربما هي ترحل صوب مركز المدينة. انني ابدا نهاري _ وأنهيه_ مثل كل يوم .. مثل امس، وأمس الاول واليوم الذي قبله.

الموجة الاولى

الشارع يكاد يكون خاليا ، سيارات منفردة تخطف باتجاه مركز المدينة في فترات متباعدة، اسمع دويها المكتوم المقترب قبل ان يومض زجاجها تحت أشعة الشمس في مدخل الشارع. ويرتفع الدوي وصوت احتكاك العجلات على الاسفلت وهي تقترب، ثم تمرق الكتلة من امامي في اندفاعها العجول تسحب هديرها معها، ويخلو الشارع من الكتلة والصوت مرة أخرى حتى تقتحمه سيارة ثانية، وربما سيارات في وقت واحد، وعندئذ لا بد ان يحصل بين السيارتين سباق، (أقول لابد لانني طوال جلساتي اليومية مارأيت سيارتين تدخلان الشارع وتجد انه مفتوحا امامهما ولاتتسابقان باستثناء حالات نادرة لا تستحق الذكر كان أحد السائقين او كليهما لا يبديان فيها الرغبة في وضع قدراتهما الميكانيكية على المحك) وتندفع السيارات المتسابقتان، وسطوحهما الصقيلة تلمع في الشمس .. الواحدة وراء الاخرى، ثم تتجاوران .. تنطلقان جنبا الى جنب في رفقة متناحرة .. تكادان تتلامسان في اندفاعهما الوحشي .. ثم يرتفع هدير ماكنة احدهما وهي تسبق الاخرى منتصرة باذلة اقصى جهدها الالي، وتصغر وهي تختفي في البعد ، تتبعها الثانية في غيظ في محاولة يائسة للحاق بها ثم تختفي هي الاخرى. في مثل هذا الوقت من النهار لا أستطيع تمييز الوجوه فالملامح لاتبين.

قصة " عنق الزجاجة"
من مجموعة (حيرة سيدة عجوز)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى