مقتطف محمود شاهين - عديقي اليهودي (31)* نوم عذري! 32 * قبلات بلا حدود!

(31)

* نوم عذري!

- ألا تفكر بكتابة سيرة حياتك حبيبي ؟

- راودتني الفكرة كثيرا لكني كنت أهرب منها ولا أعرف لماذا ، ربما لأنه ليس في مقدوري أن أتطرق بصدق لكل شيئ عشته . سأفعل كما يفعل الكتاب ، عدم الدخول في العمق ، سأكتب عن تشردي من القدس إلى عمان، ثم إلى لبنان فسوريا فعمان من جديد، ومن ثم محطتي الأخيرة العودة إلى الضفة بمساعدة السلطة الفلسطينية .

- منذ متى عدت إلى الضفة .

- منذ قرابة ستة أعوام . غادرت دمشق على أثر الأحداث التي نشبت فيها ، تاركا خلفي تعب أربعين عاما من المؤلفات والمخطوطات واللوحات والمنحوتات والتحف والكتب .. مكثت في عمان بضعة أشهر إلى أن أتيح لي القدوم إلى هنا .

- لكن لماذا ليس في مقدورك الدخول في العمق إذا ما كتبت عن حياتك ؟

- غير ممكن حبيبتي . الحياة التي يكتب عنها المؤلفون ، هي ليست الحياة التي يحياها المؤلفون أنفسهم أو الناس الذين يكتبون عنهم . عندي رغبة في أن أكتب عن الإنسان كما هو ، وبكل تفاصيل حياته وتطورها ، وليس كما يصوّرها الكتاب في مؤلفاتهم . وهذه دون شك مسألة صعبة وخاصة فيما يتعلق بالحياة الجنسية وبعض الجوانب الإجتماعية والسياسية للشخصيات . لن يتقبل الناس رؤية أنفسهم على حقيقتها . ذات يوم جاءني قارئ برواية لي وقد مزقها إلى نصفين لأنه رأى فيها ما يذكره بنفسه في حالات يكرهها ! على أية حال إن كتبت سأركز على تطور فكري مما هو أقرب إلى الصفر حتى المطلق الذي لا يحدّه شيء .

- وهذا هو المهم حبيبي !

- لا أعرف الزمن يدركنا بجبروته ، بحيث لا نجد متسعا إلا لقول ما نراه الأهم في كل مرحلة من أعمارنا .. ثمة روايات كثيرة لم أكتبها لأن الظروف لم تتح لي ذلك . أحيانا كنت أكتب عن مسألة وأنا أفكر في أخرى ينبغي الكتابة عنها ، لأجد نفسي أتجاوز مسائل كثيرة لأكتب عما أفكر فيه . لذلك تجدين لي روايات شرعت في كتابة فصول فيها ثم تخليت عنها . وثمة روايات كتبتها ولم أنشرها .. وهناك مقالات وأبحاث لم يتقبل أحد نشرها تتعلق بالمعتقدات ، نشرت بعضها على النت فيما بعد .. الرسم أخذ قرابة عقدين من عمري لأنني كنت أعيش منه بكرامة ، عكس الكتابة التي تذهب فائدتها إلى الناشرين ، هذا إذا كان هناك فائدة ! وبالكاد يحصل الكاتب على ما يرفع معنوياته لأن يستمر فيها ! دعينا نرى ماذا يجري في العالم .

كان صدى انقاذ الأطفال الإسرائيليين ما زال يتردد في الصحافة العالمية وعلى الشبكة العنكبوتية بعد مرور قرابة ثلاثة أسابيع عليه . أطرف المقالات تحدث عن " عارف نذير الحق الرئيس القادم للسلطة الفلسطينية بلا منازع "! شرع عارف في الضحك، فهو لم يفكر يوما في أن يكون زعيما ، ولا يعرف كيف فكر الكاتب في الأمر فيما لو قام هو بترشيح نفسه ! مقال آخر يتحدث عن التأثير الإيجابي الذي ما زال يتفاعل في المجتمع الإسرائيلي ، ليؤثر في الرأي العام الذي بدأ يطالب باستئناف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية . مقال آخر لا يعرف كيف سرب إلى الصحافة ليثير ردود فعل مختلفة " حفل على شرف نذيرالحق يقيمه ذوو الأطفال الإسرائيليين " تساءل عارف:

- من قام بتسريب هذا الخبر حسب رأيك سارة ؟

- لا أعرف . ربما له غاية !

- ماذا يمكن أن تكون ؟

- يريد أن يرى ردود الفعل . أليس هناك مصدر للخبر ؟

- حسب ما يتردد بين سكان كيدار ومعاليه أدوميم ! كما أنه لم يحدد تاريخ الحفل إلا بالإشارة إلى الأيام القريبة القادمة .

- هذه إشارة إلى أنك لم توافق على الحفل بعد .

- ممكن ! وهذا خبر عن حركة السلام الآن يتطرق إلى أنها بدأت تحشد للقيام بأكبر مسيرة في تاريخ اسرائيل تطالب بالسلام وإقامة الدولة الفلسطينية .

- جيد ! سأتصل بكل صديقاتي وأصدقائي لنساعد في الأمر . هل ستشارك معنا حبيبي ؟

- لا أعرف ! ممكن !

- وماذا بعد ؟

- هناك مقالات تتطرق إلى احتمال اغتيالي من قبل جهات متعددة اسرائيلية وعربية، لأنني بدأت أشكل خطرا على أطراف مختلفة حتى خارج فلسطين !

- حبيبي أخفتني ! لماذا لا تطلب حماية من السلطة ؟

- حتى لو وافقت السلطة على حمايتي ، فلن يكون في وسع الحماية أن ترافقني أينما ذهبت ، ثم إنني لا أرغب في ذلك ، تصوري أن يكون معنا أنا وأنت حماية ترقب كل حركة نقوم بها، وربما تحصي القبلات التي سنتبادلها، حين نذهب إلى التجوال في البريّة !

- غير معقول حبيبي .

- أريد شيئا الآن قبل أن أنسى !

- ما هو حبيبي ؟

- أن أكتب وصيتي لعلها تنفّذ!

ضمت سارة عارف وعانقته " حبيبي إنك تخيفني"

- لا تخافي حبيبتي . ينبغي أن تواجهي الأمر بشجاعة .

- ماذا ستكتب في الوصية ؟

- أن أدفن في أعلى مكان في ظهرة المغرة . وأن تحضرالسلطة من دمشق محتويات بيتي من لوحات ومنحوتات وتحف ومخطوطات ومؤلفات وكتب، وتحتفظ بها في بيتي هذا .

نهض عارف وجلس إلى مكتبه وشرع في كتابة الوصية على ورقة ، وسارة تقف إلى جانبه . وما أن فرغ منها حتى استأذنته سارة بإضافة جملة إليها. تساءل عارف عمّا ستكتبه في وصية تخصه ، فكررت رجاءها . أعطاها عارف القلم ، لتنحني وتكتب أسفل ما كتبه، وباللغتين العبرية والعربية :

"وأرجو أن أدفن إلى جوار حبيبي عارف نذير الحق في حال وفاتي"

وكتبت كامل اسمها " سارة يعقوب سليمان " ووقعت أسفله .

وكتبت العبارة نفسها على ورقة مستقلة وضعتها في جيبها ..

ضم عارف سارة إليه ، وعانقها بحرارة ، وهو يتساءل عن اصرارها الذي لا يصدّق ، ودمعتان تنزلقان من عينيه ، لتخالجا الدموع التي راحت تهطل من عيني سارة .

مر على عناقهما وتحاضنهما لحظات أكبر من الكلمات لأن تعبر عنها . همس عارف :

- تأخر الوقت حبيبتي . يجب أن ننام لننهض مبكرا .. اشتقت إلى البريّة ، سنذهب غدا لنمرح في الربيع ونلتقي مع الحجل !

وهمست هي:

- غدا مساء سأعود إلى منزلي لأنني سأذهب في اليوم التالي إلى الكليّة لأنظر في أمر استئناف عملي. لي عندك رجاء هذه الليلة !

رفع عارف رأسها لينظر في عمق عينيها متسائلا . همست :

- أريد أنام في حضنك !

همس وهو يعيد ضم رأسها إلى رأسه:

- ليت لي قلبا بحجم حضن لأحتويك فيه لما تبقى من عمر.

نهضا إلى السرير. مد عارف يده اليسرى على المخدة . ألقت سارة رأسها عليها وهي تمد يدها اليمنى لتحضن رأس عارف ، وتطوق جسده بيدها اليسرى ، وهو يطوق جسدها بيده اليمنى . ويخلدا إلى النوم متحاضنين ، ليناما كما لم ينم عاشقان عذريان من قبل !

*****

32* قبلات بلا حدود!

تألقت الشمس أعلى قمم الجبال الشرقية مرسلة خيوط أشعتها لتتكسر على أبراج الكنائس والمآذن وقبة الصخرة في المدينة المحاصرة بأسوار الفصل العنصري وعشرات الحواجز العسكرية التي أحالت المدينة إلى سجن كبير، فيما كان عارف نذير الحق يعدو خلف سارة محاولا اللحاق بها وهي تعدو جامحة كمهرة قطع عنانها ، عبر بطاح زهت بألوان الأقحوان وشقائق النعمان ، وأينعت فيها النباتات والأعشاب لتعبق متفوّحة برائحة الزعتر والميرمية والشيح والقيصوم !

توقفت سارة مراوحة في مكانها إلى أن لحق بها عارف . أشرعت حضنها له فألقى بنفسه عليها وهو يحتضنها ويقبلها محاولا التقاط أنفاسه .

- تعبت حبيبتي !

- هل تحب أن نستريح قليلا ؟

- لا حبيبتي ! سأمشي بخطى سريعة أو أجري حسب استطاعتي ، وأنت بإمكانك متابعة جريك إن شئت ، لكن لا تحرميني من قبلك بين مسافة وأخرى !

" حبيبي "

وشرعا في تبادل القبل !

لفت انتباههما صوت طائرة مروحية قادمة من الغرب على ارتفاع منخفض. توقفا للحظات وهما يرقبان الطائرة تمرعلى مسافة غير بعيدة عنهما متابعة طيرانها نحو الشرق ، وكان في مقدورهما أن يريا أكثر من شخص فيها ..

تساءلت سارة عما إذا كانت هذه طائرة استطلاع وإلى أين تذهب .

- لا أعرف ! ربما متجهة إلى أحد المعسكرات في الخان الأحمر أو البقيعة .

تجاوزت الطائرة مستوطنة كيدار وتابعت توغلها وانخفاضها نحو الشرق لتختفي في وادي الدكاكين كما بدا له! شك عارف في أمرها وما لبث أن تجاهلها، حين رآها بعد لحظات تظهر وتتابع طيرانها نحو الشرق ، لتختفي ثانية خلف هضاب المنطارالشمالية في اتجاه جوايف شرف والبقيعة والبحر الميت .

تابعا طريقهما .. شرعت سارة في الجري هرولة . انطلق عارف بخطوات سريعة تارة وهرولة تارة أخرى . كانت تتوقف بين كل مسافة تقطعها وأخرى، وتراوح في مكانها إلى أن يلحق بها عارف. تعانقه وتهرول إلى جانبه للحظات ثم تعدو بضعة أمتار لتسبقه وتنتظره ..

كان علي يسرح بقطيعه على سفح الهضبة التي يجتازانها .. تساءلت سارة عما إذا كان هذا قطيعه . أجابها عارف إنه هو . راحت تعدو نحوه . صافحته وراحت تبحث عن خروف صغير تداعبه . نجحت في الإمساك بخروف .. حملته في حضنها وشرعت تقبله على رأسه . وصل عارف.

- سلامات يا علي.. يعطيك العافية .

- هلا يا عم . الله يعافيك ! أين تمضيان يا عم ؟

- سنصل إلى عزبتنا ونعود بعد العصر .

- ألن تتغديا ؟

- لم نحضر طعاما يا عم ، سنأكل حين نعود .

- غداؤكم علي اليوم يا عم . سأذبح لكما خروفا أو جديا ، حسب طلبكما .

- يكثر خيرك يا عم ، يكفي ما فعلته للمهنئين !

- ذبائح غداء المهنئين دفعت لي ثمنها يا عم . أريد أن أقدم ذبيحة على شرف سارة لأفرح بكما !

- تشكر يا عم ! سأسأل سارة !

- حبيبتي علي يدعونا للغداء ما رأيك !

- يسعدني أن ألبي دعوته حبيبي!

- شكرا سارة . أنا سعيد بصداقتك لعمي.

- يجعل أيامك كلها سعادة يا علي.

- هل تحبان أن نحضر لكما الغداء إلى العزبة .

- ممكن لكن ليس قبل الساعة الثانية . وإذا غيرنا رأينا وعدنا قبل ذلك، سترانا ، فإما أن نذهب إلى بيتكم أو تحضروا الغداء إلى بيتي .

- حسنا يا عم . ماذا تفضلان ؟

- ما تريده أنت يا عم .

- سأذبح خروفا .

- ليكن ياعم . خاطرك .

- في رعاية الله يا عم . هل تفضلان الخروف مقليا أم مشويا ؟

- كما تشاء يا عم ، إلى اللقاء.

إلى اللقاء

*****

تلقت سارة مكالمة من أبيها يسألها عمّا إذا كان عارف قد وافق على الحفل. فأخبرته أن ليس بعد ، وأنها الان مع عارف في جولة رياضية في البريّة ، وأنهما الآن على مقربة من كيدار !

تابع عارف وسارة رياضتهما ليجتازا مستوطنة كيدار نحو الشرق . لم يتوقفا إلا عندما بلغا بئر امداسيس. جلسا متجاورين على صخرة شبه مستطيلة إلى جانب فوهة البئر، التي علت محيطها قاعدة مستديرة من الإسمنت المسلح والصخور، إلى جانب حوضين صخريين يسكب فيهما الماء لإسقاء المواشي والأغنام . وكانت قناتان تمتدان بعيدا على سفح هضبتين متقابلتين غربا وشرقا ، لتجلبا مياه الأمطار إلى مصفاة البئر، لتلج منها عبر كوّة في القاعدة إلى عمق البئر . كانت القناتان تستندان إلى حجار كبيرة نسبيا مرصوفة إلى جانبيهما لتمنعا تسرب الماء إلى خارجهما .

هتف عارف وهو يلقي نظراته على الحوضين والمصفاة وباب البئر الذي كان مغلقاً بباب حديدي.

- لو أردت أن أحدثك عن ذكريات الطفولة على هذه البئر لربما احتجت إلى أيام لأرويها كلها . هذه البئر شهدت الكثير من المشاجرات بين العائلات على الماء، والمغازلات بين العشاق ، وخيانة بعض الزوجات والأزواج ، وغسيل الملابس وأكياس الخيش ، وورود القطعان والمواشي ، واستقاء الماء، وصيد العصافير ، والإستحمام ، والسباحة في البئر ، وصلوات الإستسقاء، ورضع الحليب من أضرع المعز، وحلب النعاج لتناول الغداء ، وقيلولة الأغنام على صدرالبئر ومزبلتها ، وممارسة لعبة الأزواج والعريس والعروسة والعادة السرية بين الأطفال ، ونكاح الخيول والحمير والأغنام في فصل السفاد ، وثغاء المعز والنعاج ، ونباح ومشاجرات كلاب الرعاة ، وغير ذلك كثير، مما يمكن أن يروى ، ومما لا يمكن أن يروى حتى لو كان الكاتب أنا !!

راحت سارة تضحك وهي تردد :

- أي تاريخ شهدته هذه البئر .

- مكانك هنا يا حبيبتي كانت تجلس فاطمة لتشمر ثوبها عن فخذيها البضين وتسألني وأنا أقف في مواجهتها على أرض المصفاة.

- كيف افخاذي؟ حلوين ؟

فأقول وأنا الطفل المراهق الخجول المتأجج شهوة " حلوين " ولوأنني كنت قادرا على مواجهة خجلي لقلت " طيروا عقلي من حلاتهم "

وفي هذه المصفاة يا حبيبتي كنت أكمن بنقيفتي للعصافيرالتي تأتي في حرالقيظ لتشرب الماء . فما أن يقف العصفور على حافة الحوض أو على فوهة البئرأو حتى على حجر في القناة على بعد أمتار، حتى أنقفه بحصوة من نقيفتي ترديه صريعا . كنت ماهرا في الصيد بالنقيفة ويندر أن أخطئ عصفورا ، ومعظم إصاباتي كانت في الرأس! الله لا يسلمني كم كنت سفّاحا للعصافير !

ضحكت سارة وهي تتساءل:

- أين حجلاتك يا حبيبي لم أرها اليوم ؟

- أعتقد أنها لم تستشعر وجودنا بعد ، ثم إنها تفضل الأودية والأخاديد والجوف. نحن على مسافة مئات الأمتار من عزبتنا .. سنرتاح قليلا فيها ونفكر إن كنّا سنبقى لنتغدى هناك أو نعود.. أعطني قبلة !

*******

أطرق عارف للحظة وعاد لمعانقة سارة ثانية بحرارة، وتقبيل عينيها ووجنتيها وعنقها ويديها وهو يردد " أحبك " . في الليلة الماضية لم تسعفه أحضانها من حلم عابر، رأى فيه بوادراغتياله لتطرقهما إلى الإغتيال قبل النوم . فقد رأى رجلا يلوح في وجهه بمسدس ويقول له " منيتك قربت يا عارف " لم يكترث للحلم ولم يخبر سارة عنه ، لكنه تذكره الآن وهما يهمان للذهاب إلى العزبة .

أحست سارة بأن عارف واقع تحت شعور مقلق .

- حبيبي هل تشعر بشيء .

- لا حبيبتي مجرد شعور سخيف . هيّا للنهض.

- حبيبي أرجوك انس الإغتيال . لن يقدم على اغتيالك وأنت في أوج شهرتك إلا أحمق .

ابتسم عارف وهو يردد:

- المشكلة أن معظم القتلة حمقى يا حبيبتي!

انطلقا نحو مدخل وادي عزبة مشتى المخالدة .. شرعت سارة في البحث عمّا يمكن أن يؤكل بين الأعشاب والنباتات البريّة التي عرفتها من جولة سابقة ..كان عارف يسبقها بضعة أمتاردون أن يبحث عن شيء بين الأعشاب. فاجأتهما بضع حجلات تفر مذعورة في اتجاه معاكس . بعض الحجلات كاد أن يصطدم بعارف . لم تكن الأم مع الطيور كما يبدو وإلا لتوقفت عنده .. لوحت سارة للحجلات وهي تتجاوزهما لتحط على مسافة خلفهما ، واستغرب عارف هذا الأمر غير المعتاد، وتابع سيره، فيما تابعت سارة بحثها بين الأعشاب خلفه. وحين أصبح عارف أمام باب كهف أحمد خليل، في مواجهة جدران عزبتهم، على مسافة تقارب خمسين مترا، أطلقت عليه زخّة رصاص من مدفع رشّاش ، كان مطلق النار يكمن خلف أحد جدران العزبة . ترنح جسد عارف دون أن يسقط ، وقد اخترقته ما لا يقل عن عشر رصاصات. ألقت سارة ما في يديها من أعشاب وهرعت صارخة نحو عارف. تهاوى جسد عارف على الأرض فاقدا الحياة . انطلقت بضع رصاصات أخرى لتخترق جسد سارة .. سقطت على مقربة من عارف . حبت بكل ما بقي فيها من أثر لحياة، لتتمسك برجلي عارف وتزحف عليهما ، لتلفظ أنفاسها الأخيرة ووجهها على وجهه . وليطلق القاتل زخة رصاص أخيرة على الجسدين . وينطلق هاربا في الوادي نحو الشرق.

******

سمع علي صوت اطلاق النار وعرف مصدره ، وهو يدرك أن عمه وسارة هناك ، وأنهما على الأغلب من استهدفا بإطلاق النار. صعد إلى قمة هضبة وشرع ينادي الأقارب وأبناء البلدة .. تنادى الرعاة وتناقلوا نداءه من راع إلى راع ليبلغ أسماع الناس . وسمع سكان مستوطنة كيدار وعلى رأسهم يعقوب سليمان ، الذي راح يتمنى في دخيلته أن لا تكون النار قد أطلقت على عارف وسارة . أخبر زوجته بالأمر وراح يعدو نحو الشرق . فيما كان علي يعدو بدوره .

سبق علي يعقوب في الوصول إلى الجثمانين . توقف يبكي ويندب عمه الحبيب الذي ستفتقد البريّة وقع خطاه بعد اليوم. وحين وصل يعقوب شرع معه في البكاء دون أن يعرف أحدهما الآخر. غير أن علي أدرك من القبلات التي طبعها يعقوب على جبين سارة وهو يردد اسمها أنه والدها ..

خابر يعقوب راحيل لتطلب الإسعاف . وهرع كثيرون من المستوطنة ومن أقارب عارف .

كانت بركة دماء قد تشكلت حول الجسدين .أشار يعقوب إلى الجميع أن ينتظروا قدوم الإسعاف ليقل الجثمانين إلى المستشفى .

أقبلت مروحية اسعاف بمرافقة مروحية شرطة جنائية بعد قرابة ساعة . حملت مروحية الإسعاف الجثمانين بمرافقة يعقوب وعلي إلى مستشفى هداسا ، فيما راح رجال الشرطة يبحثون عن الرصاص مكان القتيلين، وعن الطلقات الفارغة في المكان الذي أطلقت منه النار... وتفرق باقي الناس عائدين إلى بيوتهم ، ليرفع ذوو عارف الرايات السود على أسطح منازلهم حدادا على فقيدهم الكبير.

*******

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى