مقتطف محمود شاهين - عديقي اليهودي (33) * ما قبل الوداع . (34) * مئات الآلاف في وداع عارف وسارة .

(33)

* ما قبل الوداع .

ما أن تداولت وكالات الأنباء ومحطات الإذاعة والتلفزة نبأ اغتيال عارف نذير الحق وسارة سليمان ، حتى انتشر الخبر في كافة أنحاء العالم ، لتتوالى ردود الفعل المنددة والمستنكرة للحادث . بعض ردود الفعل العربية والفلسطينية اتهمت اسرائيل بأنها وراء الإغتيال ، غير أن ناطقا رسميا باسم رئاسة الوزراء الإسرائيلية أعلن " شجب واستنكار دولة اسرائيل لحادث الإغتيال الفظيع ، الذي تعرض له داعية السلام الكبيرعارف نذيرالحق وصديقته الإسرائيلية سارة سليمان " وأكد على أن الدولة " ستبذل كل جهودها بالتعاون مع السلطة الفلسطينية لمعرفة الجاني ومن يقف خلفه والدوافع وراء الإغتيال "

هذا التصريح للناطق الرسمي أربك جميع الذين اتهموا اسرائيل بالوقوف وراء الإغتيال ، بما فيهم السلطة الفلسطينية التي اتهمت اسرائيل بالوقوف وراء الاغتيال ، وأنها "سعت باغتياله إلى اغتيال عملية السلام نفسها ، بعد أن أصبحت مطلبا للرأي العام في اسرائيل على أثر انقاذ عارف نذير الحق لعشرات الأطفال الإسرائيليين من الغرق "

آخرون اعتبروا الحدث جنائيا وربما أقدم عليه أحد ذوي عارف نفسه " لوقوعه في شباك فتاة اسرائيلية كانت في الغالب تتجسس عليه ، أو أحد ذوي سارة لمعارضته للحب بين يهودية اسرائيلية وعربي من غير دينها " وآخرون عزوه إلى جهات اسرائيلية متطرفة دينيا ، أقدمت على قتل عارف وصديقته لأسباب كثيرة منها "كتاباته الناقدة للتوراة اليهودية وسعيه لإقامة دولة لا دينية تجمع العرب والإسرائيليين "

متحدثون كثر على شاشات التلفزة وعبر الإذاعات أو في مقالات صحفية ، تطرقوا إلى جهات مختلفة لها مصلحة في اغتيال عارف وصديقته اليهودية ، التي أثبتت التحقيقات الأولية أنها لم تقتل بالخطأ ، وأن قتلها كان متعمدا . ومن هذه الجهات بعد اسرائيل :

- المتطرفون الإسلاميون الذين كفّروا عارف واتهموه بالإلحاد ، والإرتداد عن الدين الحنيف .

- المتخوفون من "وصول عارف نذير الحق إلى زعامة السلطة الفلسطينية وقيادة حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية " بعد أن تطرقت مقالات وسرت شائعات تتحدث عن الرئيس القادم للسلطة الفلسطينية بعد رحيل محمود عبّاس.

- المتطرفون الفلسطينيون الذين يريدون " القضاء على دولة اسرائيل وتحرير فلسطين من نهر الأردن والبحر الميت شرقا، إلى البحر الأبيض المتوسط غربا ، وإلقاء ما تبقى من يهود في البحرلتأكلهم أسماك القرش "

- جهات عربية رأت أن " فكر عارف نذير الحق العلماني الإلحادي قد بدأ ينتشر في أوساط الشباب العربي من المحيط إلى الخليج ، وأنّ وجوده يشكّل خطرا كبيرا على تراث الأمة العربية وثقافتها الخالدة "

التحقيقات الأولية أثبتت أن عارف نذير الحق قتل على مسافة أمتارمن عزبة أسرته . وأن القاتل كان يكمن خلف أحد جدران العزبة ، وأنه واحد على الأغلب وليس أكثر . وهذا يعني أن الجهات الواقفة وراء الإغتيال كانت تعرف أن عارف يتردد على العزبة حيث عاش طفولته ، مما يشير إلى أن عارف كان مراقبا من قبلها.

التقريرالطبي أثبت أن جسد عارف قد أخترق بتسع رصاصات من النوع المستخدم في رشاش كلاشينكوف ، وأن سبعا من هذه الرصاصات قد أطلقت عليه من أمام لتخترق مواضع مختلفة في صدره ، وأن اثنتين قد اخترقت إحداهما كتفه الأيمن من أعلاه ، بينما اخترقت الأخرى خاصرته من الخلف ، مما يشير إلى أن الطلقتين قد أطلقتا عليه بعد سقوطه ، وبعد أن فارق الحياة .

جسد سارة سليمان اخترق بعشر رصاصات ، خمس منها من أمام في صدرها وبطنها ، وخمس منها في جنبها وظهرها بعد سقوطها ومفارقة الحياة .

وفي تصريح للراعي علي نذير الحق أدلى به لصحيفة محلية ، اتهم فيه الشاباك الإسرائيلي بقتل عمّه وصديقته سارة سليمان ، مستندا إلى شكّه الكبير في الطائرة المروحية التي اجتازت المنطقة قبل اغتيال عمه ، حين حلقت على ارتفاع منخفض جدا لتختفي في وادي الدكاكين وتعود للظهور بعد دقائق مقلعة نحو الشرق ، مما يشير إلى أنها ربما أنزلت القاتل في مطالع الوادي، ليسير من هناك إلى ملتقى وادي مشتى المخالدة بوادي الدكاكين ، ويصعد معه إلى عزبة أهل عارف نذير الحق ويكمن خلف الجدار المناسب، لرؤية عارف قادما من أعلى جوف الوادي . وأشار علي إلى أن المروحية ربما أنزلت القاتل في وادي الدكاكين لإبعاد الشك عن انزال أحد في وادي المخالدة .

رعاة آخرون كانو يسرحون بقطعانهم في السفوح الغربية لجبل المنطار وهضاب الظحظاح، أكدوا ما قاله علي ، وأشاروا إلى أن القاتل ربما هرب بعد عملية الإغتيال، عبر وادي المخالدة ليتابع جريه عبر وادي الدكاكين ولمسافة تقارب الأربعة كيلومترات، حيث شوهدت الطائرة وهي تعود من الشرق وتحلق على ارتفاع منخفض، لتختفي في وادي الدكاكين مرة ثانية للحظات وتعود إلى الظهور متابعة طيرانها نحو الغرب، واعتقد الرعاة أن الطائرة اختفت للمرة الثانية في المنطقة التي يفترض أن القاتل قد وصل إليها بعد تنفيذ الجريمة ..

راع آخر ربط بين ظهور طائرة استطلاع بعد لحظات من اغتيال عارف وسارة، وتحليقها في المكان وفوق وادي الدكاكين، حيث يفترض أنها تتأكد من عملية الإغتيال وتقوم بتصوير" الشهيدين " بعد مقتلهما ، وتتابع هرب القاتل عبر وادي الدكاكين ، لإخبار طاقم المروحية أين وصل القاتل لالتقاطه . وأكد الراعي أن الطائرة ظلت تحوم فوق المنطقة وربما تصور هروع الناس من مستوطنة كيدار والسواحرة الشرقية إلى المنطقة، من لحظات ما بعد وقوع الجريمة حتى وصول طائرتي الإسعاف ونقل الجثمانين إلى المستشفى .

تصريح علي وإفادات الرعاة زادت الشكوك في أن اسرائيل هي من يقف وراء الإغتيال، مما أربك الشاباك وأجهزة الأمن والإستخبارات ، فراحت بعض تصاريحها تنكر تحليق طائرة مروحية في المنطقة ذلك اليوم، فيما أكدت أخرى مرور طائرة في فضاء المنطقة خلال قيامها بمهمة عسكرية . هذا الإرباك دفع كاتب إلى أن يتساءل بحماقة عمّا إذا كانت اسرائيل لا تملك بنادق حتى تقدم على اغتيال المذكورين ببندقية روسية من طراز كلاشنكوف ! مما يشير إلى أن القاتل عربي بدليل البندقية الروسية التي لا تمتلك اسرائيل مثلها ! أثارهذا المقال ضحك كثيرين ، بل وساهم في ازدياد الشكوك حول الشاباك وإسرائيل .

يعقوب سليمان أدلى بشهادة مقتضبة في المستشفى عن الحادث ، قال فيها أنه سمع إطلاق النار فهرع إلى المنطقة ليجد ابنته وعارف قتيلين . وحين سئل عمّا إذا يتهم أحدا بعينه باقتراف الجريمة ، أجاب بالنفي، مخفيا علاقته بالشاباك ومراقبة عارف بتسجيل محاضراته عن سفر التكوين .

علي أيضا أدلى في المستشفى بتصريح مشابه ، قبل أن يدلي في ما بعد بتصريحه اللاحق متهما الشاباك. قال أنه سمع إطلاق النار وهرع إلى المنطقة ليجد عمه وسارة قد قتلا . وحين سئل عمّا إذا يتهم أحدا بقتل عمّه ، أجاب أنه لا يعرف ، وإن أشار إلى أن أعداء عمه كثيرون حسب ما يعرف .

******

ليس في الإمكان تصويرالحال التي بدا عليها يعقوب سليمان وهو يقرأ بعض المقالات في الصحف أو يستمع إلى الإذاعات ، أو يرقب محطات التلفزة ، فالمتهم الأول وربما الأخير في مقتل ابنته وعارف ، من وجهة نظره ، ليس إلا الشاباك . وهو يدرك تماما أن عاقبة إدلائه بأي تصريح يؤكد أو يشير، إلى أن الشاباك كان يراقب عارف ، وعبره هو شخصيا ، سيؤدي إلى مقتله حتما ، فهل يضحّي بنفسه إكراما لروح ابنته الحبيبة التي طالما أحبها ، وإخلاصا لرجل لم يقدم على قتله حين أتيح له ذلك ، و فتّح عينيه على ما لم يكن يعرفه ، ورسم له طريق الخلاص لحل القضية برمتها ، لتعيش الأجيال القادمة في محبّة وأمن وسلام ؟! خاطبته زوجته وهي تداري دموعها وأحزانها ، وقد أدركت هول ما يخفيه في دخيلته :

- فقدنا سارة يا جاكوب ، فاصبر وتجلد حتى لا نفقدك أنت الآخر! إن كنت تخفي شيئا فقله لي لعل ذلك يخفف من هول فجيعتنا .

راح يعقوب يهتف من أعماق جراحه :

- يخفف من هول فجيعتنا أم يؤججها في بركان يقذف حمماً تدمّر كل شيء يا راحيل ، ليتني أملك صوتا بحجم الكون لأصرخ بما يعبر عن فجيعتي ، ليت ثمة جبلا يحمل قلبا هائلا يضمني إليه لأداري عميق حزني ، ليتني أستطيع أن أصرّح للعالم صارخا بكل أصوات البشرية ، أنا شريك في قتل ابنتي بقبولي التجسس على عارف نذيرالحق لصالح الشاباك . من في العالم يمكنه أن ينقذني من جريمتي . أنا القاتل والقتيل بحق نفسي ودمي . أنا القاتل والقتيل في شخصي ابنتي وصديقي. هل عرفت ذلك يا راحيل . قصّي ضفائرك يا راحيل وشقّي الثياب والبسي السواد . الطمي خديك ودقي صدرك ، واعلني الحداد إلى الأبد ، من يوم هجرة آبائنا من بغداد إلى آخر العمر ! لعل المهاجرين يتوقفون يوما عن القدوم إلى وهم أرض العسل واللبن الممنوحة لهم من الرب الإله .. قولي للعذارى النائحات على سارة ، روح سارة تحلق الأن في سماء كيدار ومعاليه أدوميم واورشليم ، فماذا أنتن فاعلات ؟ قولي لأصدقاء سارة وصديقاتها ، قولي لأبناء السلام الآن ، قولي لليسار واليمين في اسرائيل ، هنيئا لكم بأرض الأسوار والجدران والأنفاق الحاجزة ، التي حولتموها إلى سجن كبير ! هنيئا لكم بسكين يطعن جنديا منكم ، هنيئا لكم بالدم الفلسطيني المسفوك في الشوارع وعلى أسلاك الحدود وفي الساحات وعلى الجدران .. هنيئا لكم برؤية الأطفال الصغار يقادون إلى غياهب المعتقلات، هنيئا لكم برؤية بيوت القدس تتطاير سقوفها وجدرانها على مرأى من عيون ساكنيها .. فانعموا بسجنكم وتنمية الحقد والعدوانية لدى أبنائكم ، لعل ربكم الإله يشفق عليكم ويمطر من سمائه لبنا وعسلا عليكم ، عوضا عن عسل ولبن لم ولن تعثروا عليهما يوما !

ألقت راحيل نفسها على جاكوب وشرعت معه في عويل فظيع ، تناهى إلى أسماع الجيران ، فخرجوا من بيوتهم ونصبوا حلقات حول البيت وراحوا يشاركونهم العويل والندب . ولم تمر سوى دقائق ، حتى كان جميع سكان كيدار يهرعون ويندبون ، ليتناهى عويلهم إلى أسماع سكان معاليه أدوميم ليهرع بعضهم ويشاركوهم الندب والعويل .

*****

أعلن عن تشييع جثمان عارف نذير الحق وسارة سليمان في اليوم الخامس لاغتيالهما ، وأشير إلى أنهما سيدفنان في المكان الذي أوصى عارف أن يدفن فيه ، في أعلى نقطة في ظهرة المغرة على مسافة قد لا تزيد عن الكيلومتر من بيته . وأعلن يعقوب سليمان أنه سيدفن ابنته سارة في قبر واحد مع عارف نذير الحق ، بعد أن عثر في جيب بنطالها على عبارة كتبت باللغتين العبرية والعربية ، توصي فيها بأن تدفن إلى جوار عارف . وقد فسر يعقوب مفردة " الجوار " هذه ، على أنها في القبر نفسه . وقد وافق أخوة عارف وذويه على الأمر ، لمعرفتهم بعمق الحب الذي كان يربطهما . لذلك تم حفر قبر يتسع لتابوت مزدوج ، بعد أن تداول يعقوب وأخوة عارف في الأمر ، واتفقوا على أن يوضع الجثمانان في تابوت مزدوج بدلا من تابوتين ، لاعتقاد علي ويعقوب أن سارة وعارف لن يختارا غير هذا الدفن ، فيما لو أتيح لهما أن يعرفا أنهما سيقتلان معا .

أطفال مستوطنة كيدار ومعاليه أدوميم ، الذين كانوا في غاية الحزن لرحيل منقذهم من الغرق ومحبوبته ، قرر ذووهم أن يقام الحفل - الذي كانوا سيقيمونه على شرف عارف - في تشييع جثمان عارف وسارة .. فراح ذووهم يحضّرون لمشاركة الأطفال بما يليق ويسرعارف وسارة .

والأمر نفسه تم لمسيرة السلام الهائلة التي كانت حركة السلام الآن تعد لها . فأعلنوا أن المسيرة ستتم خلال تشييع جثمان عارف وسارة ، وتمنوا أن يشارك فيها مئات الآلاف من محبي السلام .

اليسار الإسرائيلي أعلن مشاركته بمسيرة ثانية في التشييع تضم عشرات الآلاف من اليساريين الإسرائيليين .

النساء الإسرائيليات قررن المشاركة بمسيرة منفصلة في التشييع تحت شعار" نساء اسرائيليات من أجل السلام "

عرب اسرائيل قرروا أن يشاركوا بمسيرة منفصلة أيضا .. يطالبون فيها بتحقيق السلام .

السلطة الفلسطينية قررت المشاركة بوفد يمثل الرئاسة وكافة التنظيمات الفلسطينية ، إضافة إلى فرقة موسيقية تعزف ألحانا جنائزية في التشييع، الأمر الذي لن يتم بناء على طلب علي وبعض أخوة عارف وأبنائهم ، باعتبار يوم التشييع يوم عرس لعارف وسارة ،ويوم سلام بين الشعبين .

ابناء السواحرة الغربية والشرقية قرروا أن يشارك معظمهم في حفل التشييع ،إضافة إلى الآلاف من أبناء القدس والطور وسلوان والعيسوية والعيزرية وصورباهر والعبيدية وأبوديس..

اليمين الإسرائيلي أدرك أن أكثر من مليون شخص سيشاركون في التشييع ، فقرر أن يشارك بمسيرة تشارك في الجنازة وتدعو للسلام أيضا .. أما ما قامت به الدولة من عمل شبه إعجازي، لتبييض وجهها وإبعاد الشك عنها في مقتل عارف وسارة ، فهو تمهيد المنطقة من أمام بيت عارف حتى ما بعد كيلومتر من ظهرة المغرة ، وشق شارع فيها بعرض مائة وعشرين مترا، ورصفه وتعبيده خلال ثلاثة أيام لا غير! تم العمل بما يشبه المعجزة والناس يرون إلى عشرات الجرافات والآليات المختلفة تمهد المنطقة وتشق الطريق.

ثمة شخص كان صراع فظيع يدور في دخيلته ، حول ما إذا كان سيفجر قنبلة يوم التشييع ، يعلن فيها على الملأ ، أن الشاباك هو المتهم الأول في مقتل عارف وسارة ، كونه شخصيا كان مكلفا من قبل الشاباك بالتجسس على عارف ، لمعرفة ما يدور في مخيلته حول القضية ومستقبلها. ذاك الشخص لم يكن سوى يعقوب سليمان ، الذي حسم الصراع المضطرب في دخيلته ، بأن يطهر روحه من كل هذا العذاب المتأجج في دخيلته، ويعلن عن هوية المتهم الأول وربما الأخير، في مقتل ابنته وحبيبها . هذا ما حسم يعقوب أمره عليه ليريح نفسه ، ويمنحها بعض الطمأنينة ، ولا يظن أن معجزة ما ستحدث ، وتثنيه عن الأمر .

******

(34)

* مئات الآلاف في وداع عارف وسارة .

هل سيسجل التاريخ صفحة جديدة في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بدأ عارف نذير الحق بنسج حروفها، حين خاطر بنفسه لإنقاذ عشرات الأطفال الإسرائيليين من الغرق، ووضعت سارة سليمان بصماتها عليها ، حين دمّرت كل أسوار التابو، وتولهت بحب عارف ، وأوصت أن تدفن إلى جواره في حال رحيلها ، محطمة بذلك اسطورة شمشون ودليلة ، وروميو وجولييت ، وكل أساطير وقصص الحب عبر التاريخ ، لتنقش على جدران الزمن، قصة حب خالدة لن تمحوها العصور وتقلبات الدهر؟!

هل سيسجّل التاريخ صفحة جديدة حقّا ، أم أن الوقائع ستطوى طي الصفحات نفسها ، وأنّها لن تترك أثرا حميدا على واقع الحياة ، لأن كثيرين ممن يظنون أنهم يمسكون أزمّة التاريخ لا يريدون ذلك . هل قدَر داود أن يظل وقودا لصراع دائم مع جليّات ، وهل قدر جليّات أن يظلّ متشبثاً ومطالبا بحقّوقه في بيته الذي اغتصبه داود ؟ استبدل داود المقلاع بالطائرة والصاروخ ، وجرّد جليّات من سيفه ورمحه ودرعه ، ليمتشق المقلاع ! فهل يصبح المقلاع يوما سيفا ، أو صاروخا يواجه جليّات به صاروخ داود ، لعلّ تكافؤاً ما يطرأ على موازين الصراع ؟ أم أن القدر الذي رسمه الممسكون بالأزمّة يأبى ذلك ؟ وإلى متى ستستمر هذه الحال؟ متى يدرك داود أنّه أعدّ ليكون أضحية شرسة لصانعي الأقدار، كما أدرك جليّات أنّه ضحيّة لهذه الأضحية التي تشرع مخالبها دوما متذرعة بالخوف من الذبح والدفاع عن النفس! . من يكسر الحلقة يا ترى ؟ من يهدم أسوار الدائرة الجهنمية التي وجد الطرفان أنفسهما فيها ، ليتقاسما البيت ويعيشا معا بمحبة وأمن وسلام ؟ لقد ضحّى جليّات بأكثر من نصف بيته لداود ، وقبل القسمة الجائرة ، فهل يعود داود إلى رشده ويقبل القسمة ؟! هل يتحوّل الخيال الأدبي إلى واقع حقيقي ملموس يحيا في ظلّه الجميع ؟؟!! التاريخ يقف متفرّجا وينتظرأن تكون بادرة عارف وسارة الطريق إلى الخلاص ، ليجمل صفحاته بسفرٍ جديد يضاف إلى أسفاره الخالدة.

كان بعض هذه الأسئلة يراود مخيلات الآلاف ممن حضروا مبكّرا للمشاركة في تشييع جثماني عارف وسارة ، حتى يعقوب سليمان نفسه، ورغم كل تشاؤمه، لمعرفته ما لا يعرفه أحد غيره ، كان يصارع في دخيلته ما صمم عليه محاولا أن يجد أملا ما في ما يجري، حتى لا تذهب تضحيات عارف وسارة أدراج الرياح، وتذهب دماؤهما هدرا .. فالدولة أحضرت مروحية لتقل الجثمانين من المستشفى إلى مثواهما . وتكفلت السلطة الفلسطينية بتابوت مزدوج ، أعده صانع التوابيت بحرفية عالية ، مع قاعدة أكبر من ضعف حجمه لتكون نعشاً.

شرعت وفود المشيعين في القدوم منذ الفجر، وكان بعضها قد جاء قبل ذلك . وأعلنت السلطتان الإسرائيلية والفلسطينية يوم التشييع يوم عطلة، وعدم استخدام المركبات الخاصة ليتاح لمركبات المشيعيين القدوم من كافة انحاء اسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزّة. ونظرا للإزدحام الشديد في خطوط السير التي امتدت لعشرات الكيلو مترات ، فقد تم حضورالوفود في باصات كبيرة وشاحنات . وقامت الدولة بنقل آلاف مشاركيها في التشييع بعشرات الحوامات الكبيرة المعدّة للنقل، وسمحت لمائة باص القدوم من غزّة . وثمة عشرات الآلاف الذين ذهبوا سيرا على الأقدام من البلدات والقرى القريبة . وكانت بعض الحافلات تعود لنقل المشيعين، بينما يذهب بعضها للتوقف في مرج كبير، أو ينتشر على الهضاب الممتدة من بيت عارف إلى ما بعد ظهرة المغرة ، على مساحة تقارب ثلاثة كيلو مترات . وحين كانت الساعة تقترب من الثانية بعد الظهر، موعد التشييع ، كان مئات الآلاف قد وصلوا إلى المكان، قدرتهم بعض وكالات الأنباء بأكثر من مليون، فيما قدرتهم أخرى بقرابة مليون ونصف.

أشرف على تنظيم سير الجنازة وأماكن وقوف المشيعين ضابط برتبة لواء من السلطة الفلسطينية وجنرال من الدولة . ونظرا لقصر المسافة بين المنزل و هضبة ظهرة المغرة ، فقد اوقف المشيعون على جانبي الشارع الممتد من أمام بيت عارف إلى مابعد هضبة الظهرة ، ليملأوا سهول ومنحدرات الهضاب المحيطة ، رافعين عشرات آلاف الأعلام الفلسطينية ، فيما اختيرت أماكن خاصة في الشارع للوفود الرسمية التي ستسير خلف الجنازة .

أقبلت المروحية التي تقل الجثمانين يرافقها مروحيتان تقلان كبار المشيعيين من السلطة والدولة ، حطت المروحيات أمام الوفود الرسمية الواقفة في الشارع العريض . أنزل جنود وضباط من السلطة تابوت الجثمانين المزدوج ووضعوه على عربة مكشوفة ، أعد لها روافع خاصة لحمل النعش على ارتفاع يتيح لجميع الناس رؤية النعش يعلو المسيرة . أقلعت المروحيات وشرعت الوفود الرسمية في الإنتظام لتنطلق مسيرة الجنازة .

وضِع عشرات أكاليل الورد فوق التابوت المزدوج وإلى جوانبه وأمامه وخلفه، وقد تقدمه مباشرة أربعون " طفلة " من أطفال كيدار ومعاليه أدوميم ، يحملن أكاليل الورد ، بينما وقف خلفه بانتظام أربعون طفلا من معاليه أدوميم يحملون الأكاليل . أمام الطفلات وقفت فرقة الموسيقى العسكرية الرسمية التابعة للسلطة الفلسطينية . وأمام هؤلاء وقفت فرقة كشافة تمثل كشافة القدس وبيت لحم ورام الله ، وتقدم الجميع فرقة عازفي الأراغيل التي أصرعلي على أن تشارك في المسيرة لأن عمه كان يحبّها .

خلف النعش وبعد الأطفال مباشرة وقفت الوفود الرسمية يتقدمها ذوو الراحلين وممثلو السلطة الفلسطينية والدولة الإسرائيلية . ثم ممثلو التنظيمات الفلسطينية والأحزاب الإسرائيلية وحركة السلام الآن وحركة ميرتس وناطوري كارتا " حرّاس المدينة " واليسار الإسرائيلي ، وممثلو الإتحادات والنقابات والجمعيات والمرأة والطلاب والكنائس والطوائف .. كان الجميع يقفون في صفوف منتظمة خلف الجنازة.

عزفت الموسيقى السلامين الفلسطيني والإسرائلي، لتنطلق المسيرة بتؤدة شديدة على وقع ألحان موسيقية غير جنائزية . وكان المنظمون يشرفون على تناوب عزف الفرق الموسقية التي تتقدم الموكب ، فما أن تفرغ فرقة من عزفها حتى تشرع فرقة أخرى في العزف، غير أن المشرفين وبناء على رغبة علي وبعض أخوة وأخوات عارف ، منحوا فرقة الأراغيل النصيب الأوفر من العزف ، إلى حد دفع كثيرين ممن يقفون على جانبي الشارع الذي يسلكه الموكب، إلى الرقص على أنغامها التي كان رجع صداها يتردد من السفوح المحيطة بالمنطقة .

ما لم يتخيله الجميع، ولم يفكروا فيه ، ولم يتوقعوه على الإطلاق ، أنهم في عالم متخيّل أقرب إلى الأسطورة ، لكن ، وحين ظهر سربان من الطيور ، يقدمان من الشرق بانتظام مهيب ، ويشرعان في مرافقة الموكب على ارتفاع بضعة أمتار فوق الجنازة ، أدرك الجميع أنهم يعيشون في أسطورة ، وأنهم مشاركون فاعلون في صنعها ! السرب الأول كان من طيور الحجل الجميلة ، أما السرب الثاني فكان من حمام أبيض أكثر جمالا .. حلّق سرب الحجل فوق النصف الأول من النعش ، وحلّق سرب الحمام فوق النصف الثاني . حلقا ببطء شديد يتلاءم مع سير الجنازة ، بحيث كانا بالكاد يرفان بأجنحتهما ، فتظل مشرعة لتظلل النعش .

تأوّه مئات الآلاف دهشة وهم يرون ما لم يروه من قبل ، وأنهم حقا يشاركون في صنع اسطورة عارف وسارة ، التي سينجم عنها اسطورة فلسطين وإسرائيل !

******

دقّت الأقدام الأرض على وقع ألحان الأراغيل ، واهتزت الخصور ، وعلت الزغاريد ، ورفرفت البيارق والأعلام ، وارتفعت آلاف اللافتات المطالبة بالسلام ، وصدحت مئات آلاف الحناجر والأصوات منشدة للسلام ، كما لم تنشد من قبل ، وكما لم يحدث من قبل ، إلى حد جعل كثيرين ،يتفاءلون بأن السلام قادم حتما ، ولن تذهب دماء عارف وسارة هدرا ، حين قدّما نفسيهما قربانين على مذبح السلام . إلى حد جعل يعقوب سليمان يفكر بجد أن لا يبوح بسر الحقيقة المؤلمة ، التي تؤرق ضميره وتقض دخيلته ، وهو يسير في مقدمة المشيعين ، إلى جانب راحيل التي كانت تتمسك بمرفقه ، فيما شمعون يتمسك بمرفقه الآخر، أمّا يوئيلا فكانت تتمسك بمرفق راحيل ، وتشجعها على الصبر والتحمل . وكانت مئات محطات التلفزة تنقل موكب التشييع الذي لم يحدث مثيلا له في التاريخ ، إلى كافة أنحاء العالم، ليتمنى العالم ولأول مرة في تاريخه ، أن يحل السلام بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي.

******

بلغ الموكب مكان الدفن . ووري الجثمانان الثرى . وأهيل عليهما التراب ، وسربا الحجل والحمام يحلقان على ارتفع منخفض فوق المكان . ووضعت مئات أكاليل الورد فوق االجدث ، الذي سيقام عليه ضريح كبير خلال أيام ، يليق بالراحلين. سيتحول على مر الأيام والسنين ، إلى مزار، فمقام، تتلى فيه صلوات حرّة لخالق عظيم مختلف ، بمفاهيم مختلفة ، تتمثل فيها أسمى قيم المحبة والخير والعدل والجمال ، التي ينشدها الخالق .

شرع بعض المسؤولين في القاء كلمات النعي والعزاء ، مؤكدين على معرفة الجناة ، لينالوا قصاصهم !

وقف يعقوب سليمان حائرا مترددا ، بين الأمل والتشاؤم ، بين أن يقول ما يخفيه أو يبقيه طي الكتمان .. تغلب واعز الأمل بإقامة السلام ، ورجاء راحيل الحزينة ، على واعز التشاؤم ، فلم يقل شيئا ، ووقف كمن يقبض على الجمر، إلى جانب أخوة عارف يتلقى التعازي.

تفرق بعض الناس عائدين إلى بيوتهم ، وغادر سربا الحجل والحمام فضاء المكان . وبقي كثيرون من العرب والإسرائيليين يرقصون ويدبكون ويغنون على وقع الأراغيل في عرس عارف وسارة . وظلوا كذلك حتى ساعة متأخرة من الليل ، أشعلت فيها المشاعل والشموع ، على قمّة الهضبة وكافة السفوح المحيطة بالجدث. وجيء بمئات مناسف الأرز واللحم والثريد ليأكل الجميع، والأمل يحدوهم بأن السلام قادم لا محالة، مشهراً انتصارعارف وسارة على القتلة أياً كانوا.

****

تمّت رواية " عديقي اليهودي " أو، ملحمة عارف وسارة !!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى