حاميد اليوسفي - من ذاقها لن يفلح.. قصة قصيرة

عبد القادر مواطن جزائري بسيط يعيش على الهامش ، معجب بالفريق الوطني لكرة القدم . إذا لعب الفريق الجزائري مع أي فريق من آسيا أو أوروبا أو إفريقيا ، يصفق له بحرارة ، ويحب أن يلعب جيدا ويربح .
هذه الأيام توقفت الكرة ، وبدأ يهتم قليلا بالسياسة . تتبع الحراك في الجزائر . وفرح مثل أي مواطن جزائري عندما تنحى الرئيس المريض ، واعتقلت العصابة التي سيطرت على السلطة ، وصدرت في حقها أحكام بالسجن . سمع الرئيس الجديد ، يؤكد في حوار مع صحفي من البليدة ، بأنه سيسترجع الأموال المنهوبة . قال مع نفسه هذه هي (ترجليت)* . كم حجم هذه الأموال بالدولار ؟ لا أحد يعرف . أي مكان توجد فيه ؟ لا أحد يعرف . سعادة الرئيس لم يصرح بأي معلومة حول ذلك ، لكنه لمّح بتعبير من وجهه ، وحركة بيديه إلى أنها تفوق العشرين مليارا بكثير ، واعتبر الأمر سرا ، سيحتفظ به حتى يسترجع هذه الأموال المسروقة ، ويستثمرها في تنمية البلد ، وتشغيل العاطلين . ثم مرض الرئيس . قالوا بأن المسكين أصيب بالفيروس الجديد ، ونقلوه للعلاج في ألمانيا .
غاب أكثر من أربعين يوما . ولما رجع إلى البلاد استقبلوه ، وفرحوا به . بعد وقت قصير خرجت العصابة من الحبس . وضاعت الأموال المنهوبة وضاعت معها أحلام البسطاء من الناس .
أوّاه ما (بغات) تهضم لعبد القادر . فجأة تذكر قصة سمعها منذ زمن بعيد في أحد الأسواق كأنه يراها الآن تجري أمام عينيه .
توسط الحكواتي الناس ، وطلب منهم أن يقتربوا ، ثم بدأ الحكي :
ـ كان يا ما كان في سالف العصر والأوان
توقف وطلب من الناس أن يصلوا على المصطفى ، فردد الناس خلفه :
ـ الصلاة والسلام على رسول الله .
وضع أصبعه على أذنه موحيا بأنه لم يسمعهم . رددوا مرة أخرى بصوت أعلى من الأول :
ـ الصلاة والسلام على رسول الله .
ثم استأنف الحكي من جديد
كان يا ما كان عالم من العلماء ، لم يجُد بمثله زمان ، شرب من بحر العلم والدين ، وما فاتته نقطة أو فاصلة إلا وألم بهما . سمع به ملك الملوك ، هارون الرشيد ، وطلب حضوره بين يديه . بحثوا في مساجد بغداد حتى وجدوه . قالوا له : مولانا الخليفة يطلب مجيئك في الحال . لبس نعليه ، وتبعهم يفكر في الأمر الذي جعل الخليفة يتذكره . دخل وسلم على السلطان الجبار الذي يحكم إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس ، وبقي وافقا حتى أذن له بالجلوس . بعد الترحاب والأخذ والرد في الكلام ، واستئناس العالم بالمجلس ، مهد السلطان للموضوع :
ـ تعرف أيها الفقيه الجليل ، بأن أحب الناس إلى الخلفاء هم العلماء . بنصائحكم ودعمكم ونور علمكم تستتب الأمور ، وتزدهر الأمم ، ويعم العدل والرخاء ، لهذا أردت أن أطلب منك أمرين ، أرجو على الأقل أن تختار منهما واحدا . قال العالم : اللهم اجعله خيرا . قال الخليفة : أن تتكلف بالقضاء ، وتعلم أبنائي . وقد اخترتك لهاتين المهمتين ، لما بلغني عنك من زهد وغزارة علم وحسن أخلاق . أحس العالم بالحرج ، فهو لا يرغب في منصب ، ولا جاه ، ولا صحبة السلاطين وحاشيتهم . فرفض الطلبين معا بأدب ولباقة .
سكت الحكواتي عن الكلام المباح ، وجمع قليلا من النقود ، وطلب من الناس الصلاة على الحبيب . ردد الناس خلفه بصوت عال :
ـ اللهم صل على المصطفى الحبيب .
ثم استأنف الحكي من جديد :
قال الخليفة ما دمت لا ترغب في أي من الأمرين فلا بأس عليك . لكن لدي طلب ثالث ، ولا أظنك سترفضه . سأل العالم : وما هو يا مولاي ؟ أجاب الملك : أن تتناول طعام الغذاء معي . قال العالم في نفسه هذا الطلب أهون الشرور . سيتناول الطعام ، ويذهب إلى حال سبيله ، ويا دار لم يدخلك شر .
أمر الخليفة طباخه بأن يهيئ لهما أكلة "من ذاقها لن يفلح" .
بالفعل تناول العالم طعام الغذاء صحبة السلطان ، ولزم بعد ذلك القصر ، وقبل تولي منصب القضاء ، وتعليم أبناء الخليفة .

المعجم
ـ (ترجليت) : المروءة
ـ أواه : لفظة تعبر عن شدة الاستغراب
ـ ما (بغات) / لم ترد أو لم ترغب .

مراكش 05 يناير 2021


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى