د. محمد سعيد شحاتة - جدلية الأنا والآخر اءة في قصيدة (تبــــًّا لي) للشاعرة حنان ماهر (الجزء الثاني)

الرؤية الفكرية وتشابكات الدلالة:
تعدُّ الجملة (راقبت نبضة هربت باللوعة ورجعت لقلبي بالحنين) شاهدا واضحا على التشابك الدلالي بين الأنا الشاعرة والآخر، وقد أشرنا سابقا إلى إن التاء في الفعل (راقبت) يمكن ضبطها بالضمة وبالفتحة، فإذا ضبطت بالضمة أصبحت الدلالة منصرفة إلى الأنا الشاعرة؛ فهي التي راقبت نبضة هربت باللوعة، ومن ثم تصبح هذه الأنا غير قادرة على الفعل أو إيقاف الأثر السلبي لتلك التجربة، بل تبدو راغبة في الاستسلام؛ فهي تكتفي بالمراقبة ولا تفعل شيئا يوقف هذه النبضة التي هربت باللوعة، ولكنها عادت إلى قلبها محمَّلة بالحنين، وإذا ضبطت التاء بالفتحة فإن الدلالة تنصرف إلى الآخر الذي يراقب لوعة الأنا الشاعرة من خلال نبضاتها، ولكنه يكتفي بالمراقبة ولا يفعل شيئا يخفف عن هذه الأنا الشاعرة لوعتها، وهو يمتلك القدرة على فعل ذلك؛ لأنه الطرف الآخر الذي تكتمل به التجربة الشعورية، والتي تسعى الأنا الشاعرة إلى التمازج بين مشاعرهما، ولكنه يكتفي بالمراقبة، وقد تحمل المراقبة أكثر من دلالة إذا اكتفت الشاعرة بالوقوف عند هذه الجملة، ولكنها لم تكتفِ؛ كي تحمِّل المراقبة هنا الدلالة التي أرادتها في النص، وهي أن هذا الآخر كان يراقب من أجل ألا يتأثر بهذه اللوعة التي تحملها الأنا الشاعرة، والتي كانت بادية في كل تصرفاتها، وقد أكدت الشاعرة هذه الدلالة من خلال السطور التالية مباشرة (فاض الحزن/كاد أن يبلل حذاءك/تراجعت بكل خفة) عندما فاض الحزن وكاد أن يبلل حذاءه تراجع في خفة هربا من تحمل مسؤولية هذا الشعور لدى الأنا الشاعرة، وهو ما يؤكد أن المراقبة هنا كانت من أجل الابتعاد في اللحظة المناسبة دون تحمل مسؤولية التجربة أو فشلها، ومن ثم فإن التشابك الدلالي هنا يعبر عن تشابك آخر أكثر أهمية، يتمثل فيمن تقع عليه مسؤولية فشل التجربة، إن الضبط الإعرابي للتاء قد كشف عن التنازع بين الأنا والآخر في تحمل المسؤولية، فكل منهما يلقي بالمسؤولية على الآخر، ومن ثم جاء ضبط التاء معبِّرا عن ذلك، فالأنا الشاعرة ترى ضرورة ضبط التاء بالفتحة؛ لكي يتحمل الآخر مسؤولية الفشل، في حين يرى الآخر أن الأوفق هو ضبط التاء بالضمة؛ لكي يحمِّل الأنا الشاعرة مسؤولية هذا الفشل، وبذلك يكون التصوُّر النحوي منشئًا تصوُّرا معرفيًا، وموجِّهًا للدلالة، ودالا على المعنى المراد.
منظومة الاستلاب في النص:
قد يبدو للوهلة الأولى أن النص يعرض لقصة علاقة بين المرأة/الأنا الشاعرة والرجل/ الآخر، ولكن المتأمل للبناء الدرامي في النص وتموجاته يدرك أنه يتجاوز تلك النظرة الضيقة إلى أفق أوسع بكثير؛ فقد وجدنا النص ينتقل من الآخر/الرجل إلى الآخر المجتمع؛ إذ أوردت الشاعرة في المقطع الأول من القصيدة قولها (كحصاةٍ أمسكتَها وألقيتَها في مجرى الحزن/تستمتعُ برؤيةِ الدوامَّاتِ/لم تعبأ لغرقي) وهنا يتجلى الآخر/الرجل بملامحه الذكورية المتعارف عليها في مثل هذه المواقف، ويزداد هذا الحضور والتجلي حين تقول (فاض الحزن/كاد أن يبلل حذاءك/تراجعت بخفة/هنيئا لك) فلا شك أن الحديث هنا ينصبُّ على ذلك الرجل/الآخر الذي تخلى عن المرأة/الأنا الشاعرة، وهرب حين لاحت في الأفق بوادر تحمل المسؤولية، ولكن التطور الدرامي للنص ينتقل إلى زاوية أخرى حين تقول (كلما رتقتُ قلبي جاء من يفكُّ الرتق/من يجد لذته في الضغط عليه/من ينثر عليه الملح/لا يُسْمَعُ تأوُّهٌ أو يُرى دمعٌ/يدافع عن صياد الحزن بالجرح/ألمي مشاع/يكتب على حوائط/ أرى من يبصق عليه/من يبكي من يضحك/لم يكترث أحد بي/تبًا لي) فقد انتقلت الشاعرة من الآخر/الرجل إلى الآخر المجتمع في تطور درامي ملحوظ؛ لتكشف بذلك عن تجذُّر المشكلة في الذاكرة المجتمعية من خلال الانتصار لصياد الجرح بالحزن حينا، ونشر القصة على الحوائط ومنصات التواصل الاجتماعي، أو المنتديات الذكورية حينا، أو نثر الملح على الجرح حينا، أو من يجد لذته في الضغط على جرحها حينا، أو تناول مأساتها بصورة لاتليق بمعاناتها حينا إما بالضحك في إشارة إلى التندُّر أو البكاء، وهنا نجد أنفسنا أمام صورة مجتمعية مشوَّهة، فلا أحد ينتصر لها، وهنا تتجلى قضية المعاناة بملامحها المتنوعة في النص، وتتقاطع أشكالها ومحمولاتها الرمزية؛ لتشكل زاوية مهمة من زوايا الرؤية؛ فالنص يرسم صورا محددة، ويضعها في متن الرؤية، ويرسم استنطاقها الخطوط العريضة للرؤية الفكرية في النص، وهذا يعني أن منظومة الاستلاب التي يضعها النص في مركز الرؤية تتكون من عنصرين يتبادلان الموقع والفعل، وهما الآخر/الرجل، والآخر المجتمع، ولكننا لا نستطيع إهمال دور الأنا الشاعرة كأحد عناصر منظومة القهر من خلال استسلامها؛ لتكون حصاة في يد الآخر/الرجل يمسكها/يتحكم فيها، ثم يلقيها في مجرى الحزن، لتستسلم لقدرها الذي أراده لها الآخر/الرجل، وكذلك استسلامها للطرف الثاني من أطراف منظومة الاستلاب، وهو الآخر المجتمع؛ إذ إنها اكتفت بمجرد رصد الأحداث التي مارسها هذا المجتمع تجاهها متجاهلا إياه، ومتعديا على مشاعرها واختياراتها، ولم تملك الأنا الشاعرة سوى الحكي لما حدث لها، ولمعاناتها، ولا يبدو في النص ما يدل على أنها قد قاومت هذه النظرة المجتمعية لها بأي شكل من أشكال المقاومة، ولكنها اكتفت بإلقاء اللوم على نفسها في صورة دعاء مليء بالمرارة والعجز، والشعور بالاستلاب والقهر، وسوف نتوقف أمام هذه الملامح تفصيلا من خلال النص، ولكننا لابد من الإشارة في البداية وانطلاقا من هذه الرؤية، إلى أن الشخوص في القصيدة قد خرجت من صورتها الفيزيائية إلى صورة تجريدية –وتلك إحدى الملامح المميِّزة لقصيدة النثر –أنها تتخطى الشخصي إلى العام، وتتجاوز المتون التقليدية إلى الهوامش، وتجلبها إلى متن الرؤية؛ لتصنع بذلك متونا جديدة تتوافق مع الواقع المعاش، وتشابكات أحداثه بعيدا عن تهويمات الخيال، وهلامية الرؤى.
1 –السلطة الذكورية: وتتمثل هذه السلطة في الرجل/المحبوب، وقد بدأت الشاعرة نصها من حيث انتهت العلاقة بينهما؛ ليتوافق ذلك مع العنوان، فلم تتحدث عن بدايات العلاقة، ولا عن إغواءات السلطة الذكورية لها؛ كي تقع في حبائلها، ولكنها ابتدأت القصيدة بقولها (كحصاةٍ أمسكتَها وألقيتَها في مجرى الحزن/تستمتعُ برؤيةِ الدوامَّاتِ/لم تعبأ لغرقي) وهنا تتجلى الملامح المكثفة للسلطة الذكورية في مخيِّلة الأنا الشاعرة، فهذه السلطة ذات ثلاثة ملامح: السيطرة (أمسكتَها) ثم التخلي الاستغناء بعد السيطرة (ألقيتَها) ثم عدم الاكتراث بما آلت إليه نتائج هذا التخلي والاستغناء (لم تعبأ لغرقي) ويتعانق مع عدم الاكتراث صفة أخرى أشد قسوة، وهي الاستمتاع بمشاهد الغرق، وهنا تصل الأنا الشاعرة إلى النتيجة التي استنتجتها، وهي لوم نفسها؛ لأنها لم تكتشف الفخوخ التي نُصِبَتْ لها من قبل السلطة الذكورية/الرجل/المحبوب، وهو ما يدل على أن العلاقة من جانبه لم تكن صادقة منذ البداية، وبذلك تفقد علاقة الحب قيمتها؛ فالطرف الأهم في هذه العلاقة/الرجل ينظر إليها على أنها مغامرة الهدف منها إثبات قدرته على التحكم في المرأة/الأنا الشاعرة ثم التخلي عنها، وهو ما يعبر بطريق غير مباشرة عن صدق الأنا الشاعرة في مشاعرها ورغبتها في استمرار هذه العلاقة مهما تحملت في سبيل ذلك من حزن وألم، وهنا يأتي لومها لذاتها (تبا لي) لا معنى له؛ لأنها كانت صادقة، ولكن الآخر كان على قدر كبير من الخداع والمراوغة بحيث استطاع التحكم فيها (أمسكتَها) والسيطرة على مشاعرها.
2 –السلطة المجتمعية: تتشكل السلطة المجتمعية من مجموعة هائلة من الأنسجة المتداخلة والمتراكمة عبر مئات السنين المتلاحقة، والتي تبلورت من خلالها منظومة قيم حاكمة لسيرورة المجتمع، ومتحكمة في تصرفات أفرادها، وقد تحدث تشققات في هذه السلطة المجتمعية نتيجة الاهتزازت التي تتعرض لها المجتمعات لأسباب مختلفة، ومن ثم فإن السلطة المجتمعية تمثل توجهات أفراد المجتمع تجاه قضايا معينة وأحداث محددة، ومن المفترض أن تحمي السلطة المجتمعية أفراد المجتمع ممن يعتدون عليهم إما بلومهم أو تقبيح أفعالهم وتسليط الضوء على ما يقومون به باعتباره مخالفا لمنظومة القيم الحاكمة للمجتمع والمتحكمة في تصرفات أفراده، ولكن السلطة المجتمعية في القصيدة قد بدت منحازة للصياد على حساب الفريسة، لتقدم الشاعرة بذلك تصورا لهذه السلطة منحازة لمن اخترق منظومة القيم فيها، وقد عبرت الشاعرة عن ذلك بقولها (كلما رتقت قلبي جاء من يفكُّ الرتق/من يجد لذته في الضغط عليه/من ينثر عليه الملح/لا يُسْمَعُ تأوُّهٌ أو يُرى دمعٌ/يدافع عن صياد الحزن بالجرح/ألمي مشاع/يكتب على حوائط/أرى من يبصق عليه/من يبكي من يضحك/لم يكترث أحد بي) ويمكن تقسيم النظرة المجتمعية لما آل إليه حال الأنا الشاعرة إلى عدة أقسام، والنظر إلى تجربتها من عدة زوايا:
هناك من يعيد فتح الجرح مرة أخرى (كلما رتقت قلبي جاء من يفكُّ الرتق) وفتق الرتق يمكن أن يُفهَم على أكثر من معنى، فمن المتلقين من يفهمه على أنه إعادة نصب الشباك حول الأنا الشاعرة للإيقاع بها مرة أخرى فريسة للعب بمشاعرها وإلقائها في مجرى الحزن، الاستمتاع برؤية الدوامات، ولا عبأ لغرقها، ومن المتلقين من يفهم فتق الرتق على أنه إعادة إحياء ذكرى التجربة الأولى بتذكير الشاعرة بها دائما، وأنها أخطأت وما كان لها أن تقع فريسة لاستغلال مشاعرها، ويتوافق ذلك مع قولها بعد الجملة السابقة مباشرة (من يجد لذته في الضغط عليه/ من ينثر عليه الملح) على أننا نرى أن من يفعل ذلك لا يفعله من قبيل النصيحة الخالصة والرفض لاستغلالها، والتلاعب بمشاعرها، ولكنه يفعل ذلك بهدف التلذذ بالضغط عليها، وكأنه نوع آخر من التنكيل بها وبمشاعرها، وقد أكَّدت الشاعرة ذلك بقولها (لا يُسْمَعُ تأوُّهٌ أو يُرى دمعٌ) لتعبر بذلك عن أن الهدف الأساسي هو السخرية منها، والتلذذ بنثر الملح على جرحها من أجل أن يزداد شعورها بالألم، دون الانتباه لما تعانيه؛ فهي تتألم بدون تأوُّه، وتبكي دون دموع، وهذا أشد أنواع المعاناة.
وهناك من يدافع عن الصياد الذي أوقع بها في شباكه، واستغل مشاعرها، وأوهمها بحبه، وصدق مشاعره، وهو في الحقيقة يتلاعب بها، وكلما حاولت الخروج من التجربة ازداد تلاعبه حتى سيطر عليها تماما، ثم القاها في دوامات الحزن والألم وهو يستمتع بما يرى دون أن يكترث أو يعبأ لغرقها (يدافع عن صياد الحزن بالجرح) ومن ثم فهي لا تجد نصيرا، أو مدافعا عنها، وهي بذلك تدين السلطة المجتمعية التي يُفترض أن تحمي المجتمع ومنظومة قيمه من أولئك المتلاعبين بها.
وهناك من ينشر قصتها، وتخذ منها عبرة لغيرها، وفي ذلك إهانة لها ولمشاعرها؛ فقد أصبح ألمها مشاعا (ألمي مشاع/يكتب على حوائط/أرى من يبصق عليه/من يبكي من يضحك/لم يكترث أحد بي) وفي هذا الجزء من القصيدة يتنوع النظر إلى ألمها، وما تعانيه، وفي جميع الأحوال هي توجهات سلبية؛ فهناك من يبصق على ألمها في إشارة إلى الاستهزاء بها وبمشاعرها، وهناك من يضحك على قصتها، وهناك من يبكي عليها، وكلهم لم يكترثوا، في إدانة واضحة من الشاعرة للمجتمع بجميع فئاته؛ إذ إنها لم تشر من قريب أو بعيد إلى أن أحدا تعاطف معها، أو حاول مواساتها أو حتى توجيه اللوم لمن اتخذها صيدا، ونصب شباكه حولها، وهو يعلم أنه يتلاعب بها وبمشاعرها.
لقد بدت السلطة المجتمعية مدانة تماما من وجهة نظر الشاعرة في إشارة إلى أن المجتمع لا يعترف للمرأة بالحب، وإن اعترف للرجل بذلك، ونسي أن العلاقة هي بين طرفين، فلا يمكن أن تكون علاقة شعورية من الرجل إلا إذا كانت هناك أنثى كطرف ثان للعلاقة، وهنا تبدو سلبية المجتمع تجاه المرأة.
3 –هل المقهور جزء من منظومة القهر والاستلاب؟ من الملاحظ أن الأنا الشاعرة بدت في القصيدة مستسلمة، تميل إلى الحكي دون أن تبدو منها أية إشارة إلى أنها حاولت أن تتمرد على الواقع الذي تعاني منه، أو السلطة الذكورية/الرجل/الآخر/المحبوب حين بدا متلاعبا بمشاعرها، لاهيا بألمها، مستمتعا بدوامات الحزن وهي تغرق فيها، وقد مالت الأنا الشاعرة إلى الحكي، واستعطاف المتلقي، وقد بدا ذلك واضحا في قولها (أنا السمكة التي صادفت عصا موسى فشقتني نصفين/أنا البقرة الفاقع ألمها/ذبحوها وسلخوها ما إن وجدوها/أنا الصيد البريء/تعقبني الصياد أصابني في مقتلى/أُعَيَّرُ بجرحي كأنه سبة/لم أجرح نفسي يا قوم وكيف؟) إن الجمل تحمل الكثير من الألم، ولكنها أيضا تحمل الكثير من الاستعطاف للمتلقين، وقد يفشر البعض ذلك بأنها تشارك في القهر والاستلاب باستسلامها بهذا الشكل والاكتفاء بالحكي، ولكننا إذا أمعنا النظر في الشرائح المجتمعية التي عرضناها سابقا، وموقفها من تجربتها وعلاقتها من الآخر سنجد أن الحكي الذي تقوم بها الأنا الشاعرة هنا ليس استعطافا بقدر ما محاولة لتغيير وجهة نظر السلطة المجتمعية المسؤولة عن وصولها إلى هذا التردي من خلال تعاطفها مع صياد الحزن الذي نصب شباكه حولها، كما أن هذه السلطة إذا لم تظهر بعض شرائحها التعاطف مع الآخر فإنها تمارس نوعا آخر من الاستلاب وهو الاستهزاء بتجربتها حينا، والتلذذ بتجديد ألمها حينا آخر، وهنا تبدو معركة الأنا الشاعرة ليست مع الآخر/الرجل، ولكنها مع السلطة المجتمعية، ومن ثم فإنها تتوجَّه إليها بالحديث المنطقي؛ لإقناعها بتغيير تعاملها مع الأنثى ومشاعرها، وتجاربها الإنسانية، والنظر إليها على أن من حقها أن تمارس حياتها الإنسانية مثل الآخر/الرجل تماما، وبدت منطقية الحديث في قولها (لم أجرح نفسي يا قوم وكيف؟) بعد قولها (أُعَيَّرُ بجرحي كأنه سبة) ففي تعييرها بجرحها كأنه سبَّة إدانة للمجتمع الذي يعيِّرها بجرحها رغم أنها لم تجرح نفسها، ومن ثم كان الأولى أن يعاقبوا من جرحها بدلا من تعييرها بجرحها، وهي بذلك تعيد التأكيد على إدانة السلطة المجتمعية التي وصفت أفعالها تجاه المرأة بقولها (ذبحوها وسلخوها ما إن وجدوها) هي كلمات قاسية جدا، ولكنها تتناسب مع ردود أفعال تلك السلطة تجاه آلام المرأة ومعاناتها من الآخر، لتنهي الشاعرة حديثها بقولها المنطقي (لم أجرح نفسي يا قوم وكيف؟) وكأنها توجِّه أنظار السلطة المجتمعية إلى منطقية حديثها والبحث عمن جرحها؛ ليكتشفوا حقيقة معاناتها.
الثنائيات الضدية ودورها في إنتاج الدلالة:
تسيطر على النص مجموعة من الثنائيات الضدية التي تتحكم في إنتاج الدلالة، فمنذ اللحظة الأولى يخبرنا النص أننا أمام موقفين متضادين، كل واحد منهما يسير في اتجاه عكس الآخر تماما، ولا يمكن أن يلتقيا، وقد بدا ذلك على المستوى اللفظي في (تبًا لي – هنيئا لك) إن هذه الثنائية الضدية قد أنتجت مجموعة من المتواليات التابعة لها؛ إذ أنشأت أنا شاعرة صادقة، ولكنها منتهبة المشاعر، متلاعَب بها، ومقهورة من الآخر/الرجل ومن المجتمع كذلك، كما أنشأت آخر متلاعبا، ومستمتعا بهذا التلاعب، وغير عابئ بمعاناة الأنا الشاعرة، وقد رصد النص مجموعة من الألفاظ التي تكشف ملامح هذه الثنائية الضدية، ففي جانب الأنا الشاعرة وردت مجموعة من الألفاظ معبرة عن صدق التجربة، وبراءة الأنا الشاعرة (أنا السمكة – أنا الصيد البريء – أنا البقرة الفاقع ألمها – أرسلت همسة) وفي المقابل استخدم النص ألفاظا تعبر عن الطرف الآخر من الثنائية الضدية تبزر ملامحه (تستمتعُ برؤيةِ الدوامَّاتِ – لم تعبأ لغرقي – تبني قلاعًا من ورق – ذبحوها وسلخوها ما إن وجدوها – يجد لذته في الضغط عليه – ينثر عليه الملح – يدافع عن صياد الحزن بالجرح – يبصق عليه/الجرح – لم يكترث) ومن الملاحظ امتداد ملامح الآخر على مستوى فضاء النص بالقياس إلى حضور ملامح الأنا الشاعرة، وقد تحدثنا عن هذه الثنائيات الضدية بالتفصيل، وأثرها في إنتاج الدلالة أثناء حديثنا عن حركة المعنى في النص.
تبــًّا لي
حنان ماهر
كحصاةٍ أمسكتَها وألقيتَها في مجرى الحزن
تستمتعُ برؤيةِ الدوامَّاتِ
لم تعبأ لغرقي تبًا لك
راقبت نبضة هربت باللوعة ورجعت لقلبي بالحنين
فاض الحزن
كاد أن يبلل حذاءك
تراجعت بكل خفة
هنيئًا لك الهروب
كان القمر يطل خجولًا من بين غيوم شرودي
وأنت تبني قلاعًا من ورق
أرسلت همسة تناهي
لا تُنطق من شفتين
بل من جرح ارتطامي بالقاع
يا لحظي
أنا السمكة التي صادفت عصا موسى
فشقتني نصفين
أنا البقرة الفاقع ألمها
ذبحوها وسلخوها ما إن وجدوها
أنا الصيد البريء
تعقبني الصياد أصابني في مقتلى
أُعَيَّرُ بجرحي كأنه سبة
لم أجرح نفسي يا قوم وكيف؟
كلما رتقت قلبي جاء من يفكُّ الرتق
من يجد لذته في الضغط عليه
من ينثر عليه الملح
لا يُسْمَعُ تأوُّهٌ أو يُرى دمعٌ
يدافع عن صياد الحزن بالجرح
ألمي مشاع
يكتب على حوائط
أرى من يبصق عليه
من يبكي من يضحك
لم يكترث أحد بي
تبًا لي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى