محمد عارف مشّه - العشق والسُلطة.. قصة قصيرة

..... متى شربت آخر كوب شاي دافئ ؟ بل متى شعرت بدفء الفراش آخر مرّة ؟ يحاول أن يتذكر أشياء كثيرة ، فتخونه ذاكرته المثقوبة . يواصل سيره نحو حافلة الباصات في يوم شديد البرودة ، ( يقص المسمار ) ، كما يقول . الهواء يلفح وجهه وأذنيه ، فتدمع عيناه ، ولا يجد ما يمسح به دموع الصقيع ، سوى طرف كم قميصه المهترئ ، فيرتعش القميص من شدة البرد النازف من أنف الرجل .
يسرع الخطى كي لا يفوته باص الحكومة ، ويضطر لأخذ ( تاكسي بالشيء الفلاني ) . كل ما في جيبه من نقود لا يتعدى عن ثمن ساندويشة فلافل وعلبة سجائر ، بلا كوب شاي أو فنجان قهوة .
فنجان قهوة؟
ما هذا الثراء الفاحش ؟ همس بها لنفسه ، وأضاف : ــ آخر مرة جمعوا من أجل الشاي والقهوة غبتُ عن عملي بحجة مرضي ، فصدّقني الزملاء وعانقني بعضهم فرحا بشفائي . في الشهر الثاني تظاهرت بمغص شديد ومفاجئ ، وقت بدأوا جمع النقود ، فخجل زملائي من طلب المبلغ المترتب علي . إلا أنهم اكتشفوا في النهاية لعبتي .
وصل إلى الساحة وكعادته ، نظر نحو الساعة المثبتة على عامود حجري وسط الساحة الإسمنتية ، لأمثاله الذين لا يزينون معاصمهم بساعات ذهبية ، أو حتى جلدية كالحة اللون . فكان أن خرجت أفعى الوقت ، وعضّته في رأسه ، لتخبره أن الساعة الثامنة والنصف ، وقد مضى من وقت دوامه نصف ساعة ، وعليه أن يستأجر ( تكسي أصفر اللون ) ، يقوده رجل يرتدي نظارات سوداء ، وبفمه سيجارة لها رائحة طيبة ، كي لا يتلوث هواء السيارة ، الذي يضج بعطور تنبعث مع هواء يخرج من مقدمة السيارة ، وعطر تعطّر به السائق ( كل هاظا رح ادفع ثمنه أنا علشان اركب في السيارة خمس دقايق ؟ ) ، وتابع همسه الشارد . منذ متى لم أتغيب عن عملي نكاية بأحد ؟ . آخر مرة فعلتها ، حين كنت في الصف السادس الابتدائي ، لم أذهب للمدرسة نكاية بأبي وبالمعلم وبمدير المدرسة والطلبة ، ونكاية بكل الناس ، وحين علم أبي بعدم ذهابي للمدرسة ، كانت لي احتفالية رائعة من حزامه الجلدي ، الأمر الذي جعلني لم أعد أهرب من المدرسة ، أو اتخلف عن الذهاب إلى المدرسة قط .
أبي الان توفاه الله ومات (ألف رحمة تنزل على روحه) . لماذا لا أناكف المدير ولا أذهب إلى الدوام؟ أليست فرصة أن اجعله يغتاظ يوما كما أغتاظ أنا منه في اليوم ألف مرة ؟ . ولن يضربني أبي بحزامه الجلدي .
ابتسمتُ لهذا الطيف المفاجئ ، وأضفتُ : ــ سأكون اليوم نصابا محتالا ، أو متسولا . ضحكتُ لكلمة متسول ، وتخيلتُ نفسي أجلس أمام المسجد أمدد بيدي متسولا ، لماذا لا أخرج من جلدي ، والوقار الكاذب وأعيش جنوني وتمردي .
لحظات رحتُ أفكر فيها كيف أكون معاقا جسديا ، أكسب بها عطف الناس وأسرق نقودهم ؟ ... المعطف الرمادي ( المجعلك ) ، الذي يسترني من الصقيع ، يستر قميصي الممزق الأكمام تحته ، ويستر نصف ربطة العنق تحت المعطف ... الأرض مبتلة ؟ لا بأس .
خلعتُ المعطف ، القيت به على الأرض ، فكان الماء ينساب تحته ، المعطف قاربي .. ابتسمتُ ، ضحكتُ ، قهقتُ بصوت مرتفع ، نظر المارة من رجل يرتدي قميصا ممزق الكمين ونصف ربطة عنق ، خاف الناس مني ، ابتعدوا عني ، جلستُ على المعطف ، وحركت يديُ أقود قاربي بمجدافيه .سمعتُ ضحكات نساء كثيرات .. لم ارتجف من البرد ، سرتُ بقاربي إلى أن وصلتُ حذاء لامعا . حاولت الابتعاد عن الحذاء ، فاصطدم قاربي بسيقان رجل ، رفعتُ نظري ، رأيته . صرختُ : أهو أنت ؟
لماذا تأخرت عن الدوام ؟ .. صرخ المدير صاحب الحذاء اللامع . نزلت من القارب بقهر ووقار .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى