عبد المنعم عجب الفيا - أشباح ماركس أو في إنتظار عودة المسيح ...

استوحى الفيلسوف الفرنسي التفكيكي الأشهر جاك دريدا ( 2919- 2004 ) عنوان كتابه
(أشباح ماركس 1994) Specters of Marx من أول جملة في البيان الشيوعي الذي أصدره ماركس وانجلز قبل أكثر من نحو مائة وستون سنة خلت (1844) إبان تصاعد الثورة الصناعية الرأسمالية في أوربا الغربية وصاغا فيه تصورهما للعدل بين بني البشر وتجسيد حلمهما المؤود باقامة جنة الأرض وفق ذلك التصور حيث يبدأ البيان بهذا النذير : " هنالك شبح يتهدد أوربا ، إنه شبح الشيوعية " .
غير أن دريدا يقول إن التوافق بين عنوان الكتاب وأول جملة في البيان الشيوعي حدث لا شعوريا ، إذ أنه لم يدرك حقيقة هذه الإستعارة غير المباشرة ، إلا بعد ان فرغ من وضع العنوان . (1)
والكتاب في الأصل ، ورقة شارك بها جاك دريدا في المؤتمر الذي نظمته جامعة كالفورنيا سنة 1993 تحت عنوان " الماركسية الى اين ؟ "Whither Marxism? . جاءت الندوة في أعقاب سقوط الانظمة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي واوربا الشرقية وكانها كانت بمثابة رد على كتاب فوكوياما " نهاية التاريخ 1992" الذي هلل فيه للانتصار النهائي والحاسم للديمقراطية الليبرالية وإقتصاد السوق الحر ، على الإشتراكية الماركسية وسائر مذاهب الحكم والاقتصادات الأخرى.
ولكن ما دلالة الحديث عن أشباح الموتى في ندوة مكرسة للتساؤل عن مصير الماركسية ؟ هل هو مجرد ترديد للوعيد الذي وجهه ماركس إلى أوربا في البيان الشيوعي ابان صعود الثورة الصناعية الرأسمالية ؟ أم أن دريدا قد حسم الإجابة على سؤال الندوة بتأكيد موت الماركسية ولم يعد أمامه سوى الحديث عن أشباحهها ومناجات أطيافها ، ومن ثم يكون " أشباح ماركس " إعلانا للحداد على موت الماركسية و بشارة ونذارة في ذات الوقت ببعثها من الموت وعودتها من جديد ؟
إن هدف دريدا من الكتاب ليس التبشير بعودة الماركسية على المستوى النظري والتطبيقي وإنما ترميز للوعد بتحقق العدل الذي يتجاوز كل المفاهيم والتصورات الماركسية عن العدالة الاجتماعية ويتماهي مع مفهوم مجيء المسيح في المعتقدات الدينية.
والكتاب بذلك لا يمثل شهادة رمز يساري كبير حول مصير و مستقبل الماركسية وحسب، بل يمثل تراجعا جذريا عن فلسفة التفكيك التي بنى عليها دريدا مجده وشهرته. وهذا التراجع هو جزء من تراجعات ما بعد الحداثة ، في محاولاتها رد الاعتبار للحداثة التي دشنتها فلسفة التنوير الأوربية والتي كانت قد أستهدفتها ما بعد الحداثة ، بالنقض والتفكيك.
ولعل القاريء المطلع على كتابات دريدا ، يلمس ذلك التراجع من خلال اللغة التحليلية والمنطقية المباشرة التي كتب بها (أشباح ماركس ) فهي غير اللغة (التفكيكية ) التي ميزت كتابات دريدا السابقة والتي كانت تستهدف تقويض أسس التحليل المنطقي والاستدلال العقلي والمعرفة المتبادلة.
فيما يخص الماركسية ، يؤكد دريدا على أن السؤال عن مصير الماركسية ليس جديدا وانما سؤال قديم جرى طرحه منذ خمسينيات القرن العشرين. طرحه هو وزملاؤه " الذين كانوا يعارضون الماركسية أو الشيوعية المطبقة على مستوى الواقع كما تجسدت في نموذج الإتحاد السوفيتي والتنظيم العالمي للأحزاب الشيوعية وكل ما تمخض عنهما. " (2)
فالحديث عن النهايات : نهاية الفلسفة ، نهاية الماركسية ، نهاية التاريخ ، نهايات الإنسان ، والانسان الأخير ، كانت في الخمسينات ، كما يقول دريدا بمثابة خبزنا اليومي. (3) وكانه يرد هنا على فوكاياما ولسان حاله يقول نحن سبقناك الى التبشير بنهاية الماركسية و( نهاية التاريخ ) بأربعين سنة.
اذن نهاية الماركسية كما يقول دريدا : " نهاية شكل معين من الماركسية وأركز على كلمة معين ، لم تكن في إنتظار إنهيار الإتحاد السوفيتي وإنهيار كل ما يعتمد عليه على إمتداد العالم . فكل ذلك بدأ في الإنهيار منذ بدايات الخمسينيات . لذلك فان السؤال الذي جمعنا اليوم في هذه الأمسية : مصير الماركسية ؟ هو تكرار لسؤال قديم . "(4)
غير أن دريدا يشدد على أن الماركسية كنظرية نقدية جذرية لم تنتهي بل يصر على ضرورة بقاء هذه الروح النقدية التحررية " فسوف يظل الركون إلى بعض الروح النقدية الماركسية ضروريا من غير تحديد وذلك بغية تضييق الشقة بين الواقع والمثال إلى أقصى حد ممكن .إن هذه النزعة النقدية الجذرية ، لا تزال مؤثرة إذا أحسنا إستثمارها أو توظيفها في معالجة الأوضاع الجديدة في الإقتصاد والعلوم والمعرفة و القانون الدولي وما يستجد من قضايا المواطنة والحقوق المدنية وغيرها." (5)
ويرجع دريدا هذه النزعة النقدية للماركسية التي يشدد على الإبقاء عليها " إلى عصر التنوير الأوربي الذي يجب علينا ألا نشجبه " (6)على حد تعبيره . وهذا يعد تراجعا في موقف دريدا السابق ورد إعتبار لفلسفة عصر التنوير العقلانية التي عملت ما بعد الحداثة ومنها التفكيك – بوجه خاص - على نقضها وتفكيكها .
بل أن دريدا يذهب إلى ضرورة التمييز بين الروح النقدية العقلانية للماركسية التي ورثتها عن فلسفة التنوير كما يقول وبين " التجليات الأخرى للماركسية التي تحيلها إلى مجموعة مباديء ميتافيزيقية أنطولوجية كلية تتبدى في المادية التاريخية أو المادية الديالكتيكية وتتجسد في المفاهيم الاساسية مثل مفهوم العمل ووسائل الإنتاج والطبقة الأجتماعية وديكتاتورية البروليتاريا ومفهوم الدولة ونظام الحزب الواحد والإستبداد السياسي .. ". (7)
ومؤدى ذلك أنه إذا كانت الماركسية حسب دريدا قد إنتهت كنظرية سياسية وإقتصادية إلا ان روحها الملهمة دوما للتغيير والإحتجاج في سبيل البحث عن العدل المطلق لم تنتهي. فدريدا لا يرفض الديمقراطية اللبيبرالية ولكنه يرفض أن تكون قد تحققت في صورتها المثالية المرجوة، أو أن يكون النظام العالمي الجديد الذي تتسيده الولايات المتحدة الأمريكية ، نهاية للتاريخ ، أو قل نهاية سعيدة لتاريخ كدح الإنسان إلى العدل المنشود على النحو الذي صوره فوكوياما .
من هنا يأتي تعلق دريدا بالنزعة الطوباوية التيليولوجية teleology للماركسية بحتمية تحقق الوعد بالعدل. وهو ما يمثل إنقلابا في إستراتيجة التفكيك خاصة ، وتراجعا في مفاهيم " ما بعد الحداثة " عموما. فهو رغم تأكيده على نهاية الماركسية كنظرية سياسية ورفضه الجانب العملي والثوري فيها فانه يؤمن بتحقق العدل المطلق كغاية غير قابلة للتفكيك.
بل إنه يماهي بين حتمية تحقق العدل الذي بشرت به الماركسية وبين الإيمان بعودة المسيح في الأديان الكتابية. يقول :" إذا كان هناك أمر واحد تجدني غير مستعد على رفضه وإستنكاره في الماركسية إلى جانب النزعة النقدية التساؤلية ، فهو ، الحتمية المسيحانية messianic affirmation . " (8)
لذلك فهو يؤكد على :" أن الروح النقدية للماركسية يجب ان تحمل معها دائما - رغما عن إعتراض كثير من الحداثيين وما بعد الحداثيين - الوعد بمجيء المسيح messianic eschatology " . (9)
واسكاتولوجي هي الإعتقاد بوجود نهاية او غاية للعالم فيما يعرف باليوم الآخر أو القيامة أو هي القول بان تاريخ الإنسان والعالم يسير إلى غاية نهائية تحقق فيها البشرية الكمال الإنساني، وهو ما يعرف بالسيرورات الكبري grand narratives .وكانت ما بعد الحداثة قد إستهدفت ، أول ما إستهدفت ، هذه الغايات الكونية بالنفي والتفكيك .
من هنا تأتي إشارة دريدا في الإقتباس السابق إلى إعتراض الحداثيين وما بعدهم ، على الروح الغائية للماركسية التي يعول عليها ويقرن بينها وبين فكرة مجيء المسيح آخر الزمان الذي يملأ الأرض عدلا ويقيم جنة الأرض . ولهذا السبب يعلن دريدا رفضه لقراءة ( لوي ألتوسير ) وأشياعه للماركسية ، والتي تجرد الماركسية من البعد الايديلوجي الغائي التليولوجي المتمثل في النزعة الإنسانوية بحتمية تحقق العدل والسلام على حد تعبير دريدا .
إن الوعد التحرري بمجيء المسيح messianic eschatology "الذي يملأ الارض عدلا" هو ما يبقي غير قابل للتفكيك حسب دريدا ، فهذا المجيء يمثل فكرة العدل الذي يسمو فوق الحق و القانون بل ويمثل فكرة عن الديمقراطية يتجاوز مفهومها كل ما عرفناه عن الديمقراطية السائدة اليوم، كما يقول دريدا .
إذن أن الربط بين تحقق العدل ومفهوم عودة المسيح ( الشخص الذي يحق العدل المطلق ) لم يكن بالنسبة لدريدا مجرد أمر عارض إقتضته معالجة رمزية الشبح وإنما صار مسألة "مركزية " في كتابات وأحاديث دريدا المتاخرة .
ففي محاضرة له نظمت بعد سنة من نشر كتاب أشباح ماركس يقول دريدا موضحا مفهومه لعودة المسيح : " حينما ركزت في كتابي (أشباح ماركس ) ، على مفهوم إنتظار عودة المسيحthe messianicity وفرقت بينه وبين عودة المسيح بالمعنى الديني ، كنت قصدت بذلك أن أثبت ان إنتظار عودة المسيح مفهوم كوني وليس قاصرا على الديانات الكتابية . فان مخاطبة الآخر ، والانفتاح على المستقبل ، في إنتظار مجيء شخص ما ، هو إنفتاح لللتجربة ، تجربة إنتظار أحد ما ليأتي هنا والآن. وبمجيئه يأتي العدل والسلام الموعودين ." (10)
لكن رغما عن هذا التفريق الذي يحاول أن يقيمه دريدا بين مجيء المسيح بالمعني الديني وبين مجيئه الذي يرمز لتحقق العدل المطلق، إلا انه يقر بأن الإستدلال بفكرة عودة المسيح كما تجلت في اليهودية و المسيحية مهم جدا في توضيح دلالة هذه العودة عنده.
لذلك فهو يستشهد في بعض كتبه ومحاضراته كثيرا بهذه القصة حيث يقول في المحاضرة المشار إليها : " دعوني أحكي لكم قصة قرأتها مؤخرا وأوردتها في كتابي " سياسة الصداقة " الذي سينشر في الأيام القليلة القادمة . يقول موريس بلانشو الذي أورد القصة : كان المسيح Messiah Theيقف على أبواب مدينة روما متنكرا في ثياب رثة إلا ان رجلا يتعرف عليه ، فيدنو الرجل من المسيح ويساله قائلا : متى ستأتي؟! " (11).
ويعلق دريدا أن هذه القصة ذات دلالة عميقة على كيف يكون إنتظار الذي يأتي في المستقبل . إنه انتظار الهنا والآن . إنتظار لمن جاء ، ولم يجيء ! وبهذا المعنى يلقى علينا الانتظار المسؤولية في العناية والانشغال بالحاضر حتى لا يكون إنتظارنا إنتظارا في فراغ .
وبذلك فان الحديث عن عودة المسيح ، يتتجاوز كثيرا دلالة إستدعاء مسرحية هاملت لوليم سكشير التي أرتكز عليها دريدا كثيرا في معالجة الربط بين الشبح ومفهوم العودة في كتابه موضوع الحديث . فقد جعل دريدا ديباجة الكتاب جملة مقتبسة من مناجاة لهاملت يظل يرددها كلازمة نغمية بطول الكتاب وعرضه : " لقد صار الزمان مضعضعا " time is out of joint ويستهل الفصل الأول من الكتاب بمقطع مقتبس من هاملت ويختتم الكتاب بالتماس من هاملت إلى صديق له بان يخاطب شبح أبيه الملك فهو أعلم منه بذلك . وفي كل فصول الكتاب ، لا يفتا دريدا الاتكاء على مسرحية هاملت في تعزيز فكرة عودة الشبح في الدلالة على الحلم بتحقق العدل .
تبدأ مسرحية هاملت لوليم شكسبير بظهور شبح ملك الدنمارك المقتول مطالبا ابنه هاملت بالثار له .وكان أخ الملك ،قد تامر مع والدة هاملت لقتل الملك بأن صب السم في أذنه ثم أعتلى العرش وتزوج بالملكة (أم هاملت) . ويتجدد ظهور الشبح أكثر من مرة مطالبا هاملت بضرورة الإنتقام له من أخيه الملك الغاصب. لكن هاملت يفشل في الأخذ بالثار من عمه الملك رغم تمكنه من الإختلاء به أكثر من مرة وذلك بسبب تردده الوسواسي.
و أقول ان فكرة العدل المستحيل الذي لا يتحقق إلا عبر عودة أشباح الموتى لها ورود ملحوظ في الأدب العالمي وكنت قد أشرت الى ذلك قبل سنوات ، في قراءة لقصص بشرى الفاضل القصيرة . ففي قصة ( العباءة ) لنيكولاى غوغل ، يعود شبح بطل القصة ، ذلك الموظف المسحوق ، ليطارد الناس في الشوارع ويختطف منهم عباءتهم إنتقاما لموته من البرد بسبب سرقة معطفه الجديد في اليوم الذي اشتراه فيه والذي كلفه الكثير .
و في قصة "حملة عبد القيوم الانتقامية " للقاص الكبير ، بشرى الفاضل ، يقوم عبد القيوم ، الذي أودت بحياته سيارة فارهة ، من قبره ، ويتوجه شبحه إلى أقرب بلدوزر ليمتطيه ويتوجه به إلى قلب الخرطوم حيث يبدأ في دهس الناس والعربات الفارهة في الشواع ويظل يدهس ويدعس ساحبة نهاره ، فلا قوة توقفه ، كما المسيح الدجال .
وفي هذا الأفق نفسه يقول دريدا في حواره مع اليزابيث رودينيسكو : " حاولت ان أكون وفيا لأحد أشباح ماركس وهو شبح يتحرك بالهام فكرة عن العدل تظل مستعصية على كل إخفاقات الشيوعية " . (12)
الجديد في طرح دريدا هذا ، هو تصوره للعدل ، كفكرة مستعصية ، متعالية( ترانستندال ) transcendental كغاية حتمية (اسكاتلوجي )eschatology، غير قابلة للتفكيك ، سواء تجسدت هذه الغاية بمجيء المسيح أو بتحقيق جنة الأرض بالمفهوم الماركسي. وهذا بلا شك يعد تحولا وتراجعا جذريا لجاك دريدا عن استراتيجية التفكيك.
فاذا كانت فلسفة دريدا تقوم على تفكيك أو نقض الميتافيزيقيا : (الأصول والمباديء الأولية للتفكير العقلاني والمفاهيم والقيم والأفكار المركزية والسيرورات الغائية واليوتوبيات ) فان دريدا إنقلب على نفسه في هذا الكتاب بل و في غيره من كتاباته وحواراته ومحاضراته الأخيرة وصار هو الآخر ، ميتافيزيقيا بامتياز ! يناجي الأشباح ، ويحلم بعودة (المخلص ) الذي يأتي ولا يأتي!
المراجع :
1- Jacques Derrida, Specters of Marx ; The state of the Debt, the work of Mourning, and the New International, translated by Peggy Kamuf. New York: Routledge, 1994.
2- Deconstruction in a Nutshell: A Conversation with Jacques Derrida, Edited by John D. Caputo, Fordham University Press, New York 1997. P. 22-24
3- ماذا عن غد – محاورة جاك دريدا مع اليزابيث رودينسكو – ترجمة سليمان حرفوش -داركنعان – ط 1 2008 ص 153
الهوامش :
1 - Jacques Derrida, Specters of Marx, page 2
2- المصدر السابق ص 15
3- المصدر السابق ص 16
4- المصدر السابق ص 15
5-المصدر السابق ص 110
6- المصدر السابق ص 110
7- المصدر السابق ص 110 و111
8- المصدر السابق ص 111
9- المصدر السابق ص 111
-10Deconstruction in a Nutshell: A Conversation with ...p 22
11- المصدر السابق ص 24
12- ماذا عن غد – محاورة جاك دريدا مع اليزابيث رودينسكو – ترجمة سليمان حرفوش -داركنعان – ط 1 2008 ص 153 .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى