د. السيد إبراهيم أحمد - قراءة في رواية رحلة في الذاكرة للحبيب الحميدي

أعد الروائي والناقد التونسي الحبيب الحميدي عدته الزاخرة باللغة الرصينة، والبليغة، والمتماسكة سبكا رائقا، ضاربا في أعماق العصور العربية التي مر عليها دارسا وقارئا نهما، وآثر أن لا تنفك عن سرده في روايته “رحلة في الذّاكرة" في جزئها الأول والتي صدرت عن مطبعة التّسفير الفنّي في تونس عام 2018؛ فجاء النص ملغما بالألفاظ الدالة على بيئتها بحسب مرور بطل الرواية في جغرافيا العالمين العربي والإسلامي، وبحسب ثقافته ـ أي البطل والسارد معا ـ في اللغة العربية وآدابها شعرا ونثرا، كما اغترف في بعض أبنيته وتراكيبه آيات من الذكر الحكيم أتت لتضيف جديدا أو تخلق لغة جديدة تعانق تساؤلات البطل ودهشته، وتعليقه على الأحداث المروية بعلم ووعي.​

كما أعد الكاتب حمولة ثقيلة من الوقائع التاريخية العربية والإسلامية سواء من عبق تاريخ الأمجاد، أو من هوامش ذكريات الخيبات والهزائم التي منيت بها الأمتين العربية والإسلامية، وتوازت تلك الأحداث التاريخية بالأحداث الراهنة لبطل النص لتخلق في عقلية المتلقي وعيا جديدا، وتفسيرا منطقيا أو غير منطقي بما يعاصره وبين ما مضى، وتفجر في ذهنه أسئلة تتحدى بلاهته، أو غباء قيادته السياسية، أو لا معقولية الواقع العربي المأزوم عبر العديد من دول العالم العربي، وهو ما يعني أن الحميدي كان عامدا في الأساس لانتهاج هذه الحيلة الخفية في سوْق الحوادث بأسماء شخوصها دون التعليق عليها أو تفسيرها.​

يشكل المكان والزمان عاملا مهما في بناء تلك الرواية، غير أن التعدد هو السائد في النص من حيث تعدد الأمكنة والأزمنة بحسب تنامي عمر البطل الرئيس للرواية، وبحسب اتساع رحلته وسياحته الفكرية والواقعية ومساحتها الزمنية الضاربة في أعماق التاريخ رأسيا وأفقيا من قريته إلى القيروان إلى طرابلس "ليبيا" ثم أزمير بتركيا وانتهاءً ببغداد.​

غير أن الكاتب قد نجح في تفكيك أوصال ذكريات رحلة البطل طبقا لأسلوب الرواية العربية الجديدة التي تعتمد في تصميم بنائها على إطار هندسي التركيب في بدايات الرواية وذروة سنامها، والوصول بأحداثها إلى الانفراجة في نهايتها، من خلال فهمه الكلي بواقعية الأحداث الواقعية المعيشة أو الأحداث التاريخية المستدعاة من ذاكرة البطل التي تشكل معينا فياضا بالخبرات والمكنونات والأحاسيس التي (أثارت فيه ذكرى لتاريخ قديم لا يسليه عن مستقبل غامض وحاضر مشؤوم؛ لذلك تلوح في ذهنه صورًا وهاجة، وخواطر شتى، وأشواق مجد غابر تباهت به كتبه وأثلت دفتره يحمله بيمينه).​

ونقطة الانطلاق في رحلة الذاكرة وإن كان بدايتها الجغرافية تونس وتحديدًا "القيروان" إلا أن الحلم والهدف هو الوصول إلى بغداد "ساحرة الشرق القديم" التي عاشها في بدايات صفحات الرواية راسما لها صورة من واقع قراءاته الضاربة في عمق التاريخ والأدب، والتي ستفاجئه ـ عند الإبحار في منتصف رحلة الذاكرة في صفحات الرواية ـ عند دخوله حي "الوزيرية" الواقع في الجهة الشرقية لنهر دجلة وسط بغداد (لا شيء مما توقع، لا شيء في المدينة يجلب النظر) ويتقاطع الواقع مع المحفور في ذاكرته لتنفجر أسئلة الخيبة سردا ذاتيا باطنيا في أعماقه: (أين خزائن العصور؟ أين الذهب والعاج والديباج واللؤلؤ والمرجان والفانوس السحري؟ أين السجاد الطائر؟) وفي لمحة ينقلنا إلى واقع الحي الشعبي بفقره وطيبة ناسه من كافة الجنسيات العربية.​

استطاع الكاتب أن ينقلنا من نقطة الارتكاز في رحلة بطله المنطلقة من عاصمة تونس تقله سيارة خاصة إلى طرابلس التي نقل فيها أجواء احتفالات ليبيا بثورة الفاتح من سبتمبر، ومغادرة الأجانب لها ولقائه بصديقه الذي افتتح به صفحات الرواية وسينهيها معا عبر رحلة السنوات الطوال التي رشرش بها صفحات الرواية ذكريات يضن بها على قارئه في التعرف عليها دفعة واحدة، وسيسردها سردا استخدم فيه تقنيات وجماليات الحكي الروائي من حيث المزج في المشاهد كسيناريو الأفلام، والانتقال من اللحظة الآنية إلى لحظة ماضوية تماثلها من خلال تقنية الفلاش باك أو الاسترجاع، والوصف البلاغي والواقعي الذي يمازج بين السخرية والمقارنة بأسلوبٍ تزيا فيه الكاتب هيئة علماء الاجتماع ومراقبة التطور والتغير الاجتماعي والثقافي والأنثربولوجي للناس والمجتمعات، وامتلاك أدوات التحليل التاريخي والسياسي، وقراءة الواقع الديموغرافي من خلال المقارنات بين الأبنية المعمارية في الشرق والغرب، والتاريخ والواقع، وانتصار الغالب على المغلوب في خليط الزي الذكوري العربي، وفحص الواقع العربي الذي ينادي بالوحدة العربية وهو أول من يدهسها، والحرية التي تم اعتقالها وسحقها وخنقها إنسانا وصحيفة وقيمة إنسانية.​

برع الكاتب في سرد الأحداث عبر قطارين انطلق أولهما من اسطنبول متجها إلى بغداد، وانطلق الثاني قافلا نحو مدينته أو قريته بعد أن تحسنت أحواله وكبر سنه، غير أن بين الرحلتين ذكريات لا يمكن إيجازها لأنها تخل بالبنيان المعماري الذي راوغ به الكاتب المتلقي، وراهن على صبره في استجلاء الأحداث، ومدى ارتباطها، كما راهن على علم القارئ بلغة القص التي انتهجها وستشكل عند البعض متعة في قراءتها بينما ستشكل عند البعض الآخر جنادلا وشلالات قد يعبرون فوقها لاتقائها والتمسك بأهداب السرد حتى لا تتفلت منهم وقائعه.​

إن الرؤية السردية عند الحميدي حافلة في التجاور النصي، والتزامن بين الحدث القائم وبين الاستدعاء التاريخي وشواهده القصصية، والتضمين الشعري مما سيخلق في ذهنية القارئ العربي الكثير من التوازيات الجميلة، والمقارنات المدهشة، والمرويات التي قد يجهلها واستخرجها الكاتب من أعماق المجلدات، وقد ساعده في هذا محبته للغته التي تشع نورا من قبس الأولين، ونسجا محبوكا منطقيا من حكايات معاصرة نقلها على لسان من حكاها، وقراءة كوميدية ساخرة تعري مجتمعاتنا العربية، ووصفا ماتعا وموجعا للحالة الاجتماعية التي يعيشها المواطن العربي أيًا ما كان موقعه، وسياحة فكرية وتاريخية وجغرافية وسياسية عبر سهول وهضاب وأفكار ورؤى وأحلام الشباب العربي في زمن ذاكرة بطل الرواية، وما يضارعها من واقع الشباب العربي الراهن.​

(لم يكن يعرف أو لعله لم يشأ أن يعرف أن ما به من هم ليس يمنحه أي إحساس بالمحبة لما حوله ولهذا العالم، كان كقلب ميت وعقل بليد) هذا ما انتهى به الحال ببطل الرواية (لقد صبر وصابر واحتمل، ينتظر يوما تتغير فيه الأحوال والظروف والإمكانيات، فيرى نفسه وقد كبر وامتد وطال وعلا حتى صار طودًا شاهقا، قل علمًا في رأسه نار، كان يشعر بامتداد كبير كامتداد هذه البلاد، متنوعا كتضاريس هذه الأرض التي لم يغيرها الزمن كما غيره)، بلغ الخمسين من عمره وانتهى به المطاف أستاذًا للحضارة والأدب وكان أمله أكبر من ذلك، ويضيف مُخبرًا عن نفسه:(أنا ماضٍ طويل من الحب والحرب والعشق والموت لا تُدرى بداياته ولا يُدرى كيف يُحْتَسَب؟! أبأيام العمر أم بأيام الانتماء.. تاريخ قديم موصول، لا يحس له نعتا ولا وصفا، ليس جميلا كله ولا رديئا كله). إنها رواية قد تتقاطع أحداثها مع أحداث من يقرأها سواء من أبناء جيل بطل الرواية أو الأجيال اللاحقة له أو المعاصرة؛ فالواقع العربي لم يتغير كثيرا.​

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى