حسن حلمي - الواقعية الساحرية, والسرد المتدفق في رواية (يا) للروائي محم..د عكاشة رؤية نقدية

. . . . نحن إذن أمام لوحة تشكيلية متدفقة الإيقاع, ثرية الألوان, تصنع الأصوات فيها هارموني ساخن, وتجعل من الشارع الصاخب, الطويل, الممتد, والمتغول في عمق المدينة مدينة كاملة عتيقة الطراز, تأخذ لب المتلقي إلى آفاق بعيدة, ربما إلى أبعد من حارات نجيب محغوظ أو جمال الغيطاني, أو حتى أبعد من لوحات محمود سعيد والرزاز, رغم ما يدور فيها من أحداث متكررة, ورتيبة, وحاشدة, ومتوهجة في آن معاً, حيث يأخذنا الفنان التشكيلي محمد عكاشة في عمق الشارع الذي لا يفرق عن أي شارع في مدينة مكتظة من مدن مصرية عديدة تعاني الإهمال الحضاري والخدمة العامة, والتي تُجمع الضرائب لها ولغيرها من مدن مسكوت عنها طواعية, دون أي شعور إنساني محض في عيني الحكومة . يتقدم الشارع الجامع الكبير, بينما تقبع السينما في آخره . تتنوع فيه الحِرف التقليدية الشائعة في الحارة المصرية ( سنان السكاكين ـ صانع الفيشار ـ الجزار ـ الخياطة ـ الفلافل ـ بائع الجيلاتي ـ البائعين السريحة ـ أحمد الفيلسوف ـ عادل بتاع الحقوق ـ جمال الدولي المحامي الفاشل ـ حسن نفيسة الشحات . . . . , حتى بائعة الهوى " الحاجة سعاد" التي تهيئ ـ فقط تهيئ ـ ملاذاً آمناً في الخفاء لطالبي المتعة . . ) . لقطات عفوية لشارع يحوي حياة مليئة بالمتناقضات, تنتهي الحياة فيه فجأة كأنه عقاب إلهي . . . .
مشاهد سينمائية شديدة التركيز, حيث تقترب بؤرة عدسة الزووم على الشخصيات الأكثر بؤساً, بينما يصخب الشريط الصوتي المصاحب للصورة, ليصنعا صورة زاعقة في عمق هذا الشارع البائس, الذي يشبه تماماً كثير من الشوارع والحارات المصرية .
الواقعية الساحرية
يستخدم الروائي أزميله وسكينة معجونه في نحت أجسام حية هامشية هاشة ترصد الواقع المعاش بطريقة دراميتيكية أشبه بمشاهد المخرج السينمائي صلاح أبو سيف وتوفيق صالح, لكنه يتخطى السرد المنتظم عندهما, ويقوم بتقطيع المشاهد بأسلوب يوسف شاهين, بينما يأخذ تكنيك الصوت الزاعق, الشاف, الواصف, بعيداً عن الموسيقى التصويرية لتلك المشاهد ليصنع منها موسيقى خاصة لمشاهده , تماماً كتكنيك محمد خان في أفلامه الأولى . تتناغم الأصوات من أول المقدمة ( صوت كلب المعلم برهومة ـ صوت زمارة عوض بتاع الجيلاتي ـ صوت خبط أنابيب البوتاجاز لأبو أمل ـ صوت طاسة قلي الطعمية . . . . . . . . . ) حيث يسرد الصوت كبطل من أبطال روايته ( نداء ينطلق من أفواه كثيرة متلاصقة, ينطلق في آن . . ليضج الفراغ ـ صوت ينادي, تشوبه إستغاثة, ألم, صوت آخر تشوبه قوة وغضب, صوت فيه ليونة وانكسار يدغدغ حواسك ـ منادة أسمعها يملؤها الشبق تعلن على الملأ غرضها دون خجل, . . . . .
يستخدم الروائي ( ضمير المتكلم ) في سرد رؤيته الإبداعية على ألسنة أبطاله المتعددين, كلٌ يروي على لسانه : وصفه وكنيته وأسلوبه في العيش, وسط هذا الخضم الحاشد من كائنات بشرية هامشية تماماً يبدأها بـ جمال الدولي خريج كلية الحقوق, وأشرف جوابات وأحمد الفيلسوف, ثلاثتهم هم الجيل الجديد الذي تعلّم, لكنهم فشلوا تماماً في الخروج من هذ ا الشارع الطويل الممتد إلى آفاق أكثر رحابة, بل تفاعلوا معه كأنه كل حياتهم, وإنغمسوا في مغامراتهم اليومية في مشاكسات لا تعرف طريق العقل النفعي, وكأن سقف حياتهم هو إنهاء يومهم المتكرر دون ملل, فها هو ( حسن نفيسة ) الذي يعيش حياة بوهيمية يبحث عن مكان ما خلف الجامع ملاذه الأخير للنوم بعد أن أنهكه الدوران في اللاشيء . عاشور بائع الخضار زوج بهية بائعة الفاكهة وعالمه الخاص به, والذي يعود بنا إلى عصر الفتوات في روايات نجيب محفوظ, لكنه ليس فتوة بالمفهوم المحفوظي ـ لسان بس على قول بهية له, لا يمارس فتونته إلا على ( حسن نفيسة ), وعلقاته المتكررة لزوجته بهية, وعشقها لهذه العلقات, حتى إذا غاب قليلاً عن ضربها تثيره حتى تحس أنها زوجة . حتى دورة المياه العمومية الملاصقة لدكان سمير العجلاتي لم تسلم من الكلمات والرموز البذيئة . الشارع الطويل الممتد يحتوي على الجامع, والسينما, والقهوة, والسوبر ماركت, والمدرسة الثانوي, وهي كلها مكوّنات لشارع تقليدي, وقد أغفل المؤلف المستشفى أو عيادة الطبيب, أو مركز شباب, رغم أنه شارع طويل وممتد, ربما لكي يصنع ميلودراما منغمسة في البؤس والقهر . لكن يبقى الحلم الجنوني الذي إنتاب ( جمال الدولي ) المحامي الفاشل في أن يرشح نفسه رئيساً للجمهورية . . هكذا فجأة . وبدأ في تعليق اليفط والإعلانات التي كتبها بنفسه, وعاش الدور ـ كما يقولون عنه ـ لدرجة أن ( حسن نفيسة ) نهره, ورفع بيده قدمه العالية حتى ينزلها, ويقول له : (نزّل رجلك يا سيادة الريّس ) .
تضافر السرد والوصف معاً
( أمل تشاهد . . الولد أشرف جوابات وعادل بتاع حقوق وفريد يجرون ناحية الجامع الكبير تجري وراءهم جمالات وثناء ورقية وبيومي الجزار وكلبه يلهث وراءه وزعيق وصراخ أسمعه من بعيد يجري من أمامي حسن نفيسة رافعاً ديل جلبابه ممسكاً به بين فكيه فبان سرواله الممزق من أسفل الإليتين, يرمي سعيد الفوال الكبشة تضحك جمالات وهي جالسة بجوار أم أحمد تقول شارع مجانين . . . ) هذا سرد مدهش, دفقة واحدة, يجعل القارئ يلهث وراءه . لقد تعمد الروائي أن يتناول السرد بهذه الطريقة التي تجعل من النص سيناريو فيلم, حيث تجري فيه الأحداث حول أربعة وعشرون شخصية محورية, بائسة . . نعم , لكنها تحمل حياة متوهجة . بينما يُجري المؤلف على ألسنة شخصياته وصفاً دقيقاً لأشكالهم وأنماطهم, حيث يتضافر الوصف والسرد معاً دون تغليب أيهما على الآخر, بلغة هي أقرب إلى اللغة السينمائية حيث الصورة والحركة والحوار والموسيقى التي أخذها المؤلف من تتدخل الأصوات المتعددة ( الفونيكس ), تلك الأصوات البشرية حتى من حيوانات أليفة هي أيضاً صورة مكملة للشارع ( نباح كلب المعلم برهومة الجزار, نهيق حمار المعلم عاشور الذي يتظاهر بالفتونة, ومواء قطة أمل . . ) .
تتعدد الأصوات السردية بضمير المتكلم ( أربعة وعشرون سارد بالإضافة إلى السارد الأخير بضمير الغائب العليم والذي يربط بين كل هذه الشخصيات, وذلك بسرده المشهد الأخير لتلك الرواية العجائبية حقاً, والذي يعد المشهد الأكثر مأسوية ودموية وغرائبية في هذه الرواية . حيث يبدو السرد هنا دائرياً منغلقاً على ذاته, لا تتدخل فيه أيدي خارجية, إلا في الرمق الأخيرمن الرواية . الأصوات ( الفونكس ) هي البطل الحقيقي للرواية رغم تعدد الشخوص فيها, وتدفق السرد . يلعب الروائي بالصوت من أول المقدمة حتى نهاية الرواية الأكثر صخباً ومعاناة وألم .
الزمن المتشظي والمكان الواحد
( الرواية هي فن الزمن ) كما يصفها " النقاد ", يتنوع الزمن في أي رواية بين أزمنة خمس (1) :
1 ـ الزمن المتواصل ( الزمن الكوني ) .
2 ـ الزمن المتعاقب ( الزمن الناسخ لنفسه ) .
3 ـ الزمن المتقطع, أو المتشظي ( الحلزوني ) .
4 ـ الزمن الغائب ( الزمن الجنيني ـ زمن الغيبوبة أو زمن النوم ) .
5 ـ الزمن الذاتي( النفسي ) .
والزمن في جميع أطواره موضوعي في ذاته, وهمي لكنه يمكن إدراكه . والأصل في بناء أي زمن سردي أن يعتمد في إمتداده على الطولية المألوفة, بحيث ينطلق من الماضي إلى الحاضر, ومن ثم إلى المستقبل إذا أراد الروائي ذلك . إلا أن الروائي هنا قد إستخدم زمنين من أنواع الأزمنة الخمس في السرد, وهما الزمن المتعاقب, والزمن المتشظي أو الحلزوني . وهي طريقة في السرد نراها في بعض الروايات العربية والأجنبية ( الحرافيش لنجيب محفوظ : مثالاً ), إلا أن الروائي محمد عكاشة قد كرر بتعمّد إستخدام زمنين بعينهما لبعض سارديه ( أحمد الفيلسوف ـ أمل المُخْ ), حيث ينساب الزمن في سردهما في ألق, ليجعل من حلزونية الزمن المتقطع دفقات لا شعورية, ويمنح بعض التفاؤل بتضافر الفلسفة والعقل, وليضيف مشاهد جديدة, جديرة بسردها حتى يكتمل البناء السردي, ويغوص أكثر في محنة الشارع الموبوء, ويمهّد للحدث الجلل الذي يختم به روايته بزمن قصير متواصل . لم تختلف مقدمة الرواية عن نهايتها, فبدأها بمطاردات صوتية تنبئ عما سيحدث, وختمها بنفس الأصوات, ليُخرج لنا مشهد الفينالة بلغة سينمائية تحتاج إلى عدسات وزوايا خاصة وإضاءة أكثر خفوتاً ( صفير ونفخ وزوابع , وتساقط أوراق وملابس كانت معلقة , وحقائب وأكياس طارت . . . . ) . مشهد لا يحتاج إلى أي موسيقى معبرة غير تلك الأصوات التي تصف وتشف وتنبئ بالقطع عن مستقبل منقطع عن نسقه الممتد لحياة دمرتها قوى غاشمة لا ترى إلا الخوف على مستقبل رئاسة مهدد حتى من حلم ( جمال الدولي ـ ليسانس حقوق ) فشل في ممارسة مهنة المحاماة, ليصرخ أحد رجلي الشرطة . . . يا . . يا .
أخيراً . . . محمد عكاشة صوت جديد متمكن من آليات السرد الروائي, يضاف إلى أدباء القليوبية, وإضافة جديدة لعالم السرد العربي الحديث, والمتفرد بريشته التي تسبق قلمه في سرد الواقع المعاش باقتدار وحرفية .


حسن حلمي ــ قها قليوبية

ــــــــــــــــــــــــــ

إحالات
1 ـ في نظرية الرواية . د. عبد الملك مرتاض . عالم المعرفة العدد رقم 240
3 ـ فضاء التأويل . د . عبد السلام المسدي . دبي الثقافية عدد 68
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى