كنانة حاتم عيسى - قراءة انطباعية في نص ّقبرٌ من زجاج" للأستاذة إيناس جعيتم

* القراءة

وإن كان أحد ما قد كتب عن العشق ولحظة التجلي في عوالم موازية لا تكاد تظهر للعين العادية، فأبدع في خلق تلك الصورة السحرية الخيالية التي لم يستحضرها أحد من قبل، فهي الكاتبة المذهلة إيناس جعيتم لأنها خلقت عالما بديلا لا يتكرر ولا يكاد يحيط بالقارئ حتى يثير فيه تلك المشاعر المختلطة من رفض عقلي واستسلام حسي، مناجاة ذاتية منفردة بين الساعية المريدة وبين الولي المغيب، عشق من طرف واحد، لا يمت للعقل بصلة، ولا يُدرك بحاسة سادسة إنما يلهب الذات الإنسانية ويحلق بها في عوالم غيبية غريبة،تغيب فيها سطوة الزمان كإطار للحدث والشخوص و يتشخصن المكان فيها بثقافة الموروث المجتمعي المرفوض،ويلتصق بالحب الروحي ذاته و يفيض بإنسانيته المغرقة بالألم ،فهو الرابط الخفي والممسوس
بين برزخ زجاجي هش ومفترض وبين واقع بائس يُفقد فيه الإيمان الحق وتعمى فيه البصيرة.
وتنفرد فيه اللغة الموحية بزخم حيوي متفرد ومبدع.
إذا نرى لغة السارد متفاقمة بأفعالها المتتالية التي ترفع
حس المتلقي بدلالات تصويرية لشخصية المكان وتفاعلها مع مشاعر السارد
أترنح، أحوم ،توخز، يتجمعون
وفي لحظة اللقاء بالحبيبة الفاقدة تختلف ذاتية السرد من الأنا المتعالية إلى تواضع المحب و رقة نفسه فتفيض بعذوبة إنسانية لا تواءم هالة الأولياء وأصحاب الكرامات
تناجيني.... أطالعُها ولا أستطيعُ مسها وكأنني أراها من داخلِ كرةٍ زجاجية، تأتيني ساعيةً... آه لو تدري بأنني لو أستطيعُ السعي ما فارقتُ خطواتَها،
هي المتعلقة بالدعاء، الغارقة بالرجاء، تبحث عن ابنها المفقود، تعترف بهزيمتها وانكسارها أمام أزمة غيابه ويعترف بشوقه وعشقه المحموم في برزخه الزجاجي
معذبًا بآنات الزائرات ومعاناتهن وأوجاعهن المعلقة، متنازلًا عن مكانته المقدسة، مرهقًا بطقوس يرفضها ، غارقًا في ضعفه البشري كمخلوق بلا حول ولا قوة أمام عشقه العجيب و كينونته المجهولة الخارقة للطبيعة ،ممزقًا بين قطبين متناقضين:
حبه لتلك السيدة المثقلة بالألم و وجوده النوراني المحبوس في أبعاد مادية خارجة عن الزمان والمكان لتجعل مكونات السرد حميمية، منسجمة ومتآلفة بكل تناقضاتها.
تطلق الكاتبة رفضها الأخلاقي لسيطرة الخرافة المدنية
ولتشويه المفهوم الديني بانسيابية وذكاء على لسان السارد ،في جمل محددة انتمت للمتن وامتازت عنه
مثل
(صوت المؤذن يريحني من همهماتكم)
(أغمض عينيه عاجزًا عن مساعدتِها)
(لكن صوته لا يصل إليها)
هو نص عن سمو الحب، يقرأك فلا تقرأه، ويتغلغل فيك فلا تقدر على منعه، ويثير لديك جدلية التفكير بالمقبول والمرفوض،القابل للتصديق والواقعي لحد الألم، في مجتمعات نهشها البؤس والقهر وتكالبت عليها الآلام فأنهكتها ولا خلاص لها إلا بالعوده لرمز الحب المطلق...
دام إبداع الكاتبة المذهل

كنانة حاتم عيسى


******

النص:

* قبرٌ من زجاج

حول المقامِ أحومُ تحملني أدخنةُ المباخر، أترنح مثقلًا بأناتٍ ونحيبٍ يزيدون عجزي، يتجمعون حولي مستنجدين متباكين متوددين، كفوا كفوفَكم عن سياجي الذهبي، عيونُكم المتضرعةُ توخزُ خضارَ مخملي فأغمضوها، صوتُ المؤذنِ يريحني من همهماتِكم والشمسُ الغائبةُ تقربُ مبتغاي.
يا الله.. كم أتوقُ إليها!..
عيناها الحزينتان تزينانِ أسوارَ سجني الأبدي، أهيمُ بين الوجوهِ باحثًا عنها، أتتني منذ زمنٍ لا أستطيعُ تمييزَه من مرقدي، تلتجئ للمقامةِ بين الأضواءِ الخضراءِ باكية، تناجيني.... أطالعُها ولا أستطيعُ مسها وكأنني أراها من داخلِ كرةٍ زجاجية، تأتيني ساعيةً... آه لو تدري بأنني لو أستطيعُ السعي ما فارقتُ خطواتَها، تلتمسُ الراحةَ بكنفي وألتمسُ الحياةَ بهمسِها، هيا اخرجوا وافسحوا لها ركنَها المفضل، لا تثقلوني بشكواكم... مالكم عندي غير أذنٍ تصغي...
دَخَلت على استحياءٍ لحِمى المقامةِ تجرجرُ ساقيها نحو الضريح:
يالله...المقامُ الليلةُ مزدحم، كيف لي أن أنفردَ وحدي بمناجاتِه...أحمدُك ربي ها هى فرجةٌ ضيقةٌ لكنها تكفيني.
سيدي يا صاحبَ المقامِ العالي..... أكل الوجعُ قلبي، توقي له يفوقُ احتمالي، هو يا سيدي حيٌ أعرفُ ذلكَ جيدًا، لم يُذهبُ الحزنُ عقلي بعد إنما هو قلبي المقترنُ نبضَه بنبضِ من سُلبَ من حضني، أرجعه لي سيدي... اسال اللهَ أن يقربَ بيننا، ما عدتُ أشكو وجيعتي لغيرك، حتى أباه وصمني بالجنون، ما عاد يريحنُي إلا أن أفضي إليك...
أسندت رأسَها المثقلَ للمقامةِ وأغمضت عينيها، مد يديَه يريدُ احتضانها فما استطاعت أن تمسَها، أسند ظهرَه وطأطأ رأسَه أغمض عينيه عاجزًا عن مساعدتِها، يعرفُ مكانَ فقيدها، يراه، يهمس لها، يصرخ فيها، لكن صوته لا يصل إليها.
ايناس سيد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى