محمد عبد الله الهادي - أدباء بعد الستين..

"أدباء بعد الستين"، أدباء لم يكتبوا أعمالهم الإبداعية، ومن ثم لم ينشروها أو يطبعوها، ولم يعرفهم القراء إلّا بعد هذه السن، هي ظاهرة ملفتة للنظر بالطبع، رغم وجودها، خاصة إذا كانت أعمالهم المتأخرة هذه متميزة بالقدر الذي يلاقي قبولًا واستحسانًا من الوسط الأدبي، بل وأحيانا ما تحظى أسماء هؤلاء الأدباء بشهرة واسعة، تفوق أحيانًا شهرة أقرانهم ممن سبقوهم في الكتابة والإبداع بعقود. عادة ما تطرح هذه الظاهرة ـ حال ظهورها في الوسط الأدبي ـ أسئلة تختلف حسب كل حالة من قبيل: هل كان الأديب الستيني هذا يمتلك قدرًا من الموهبة التي تمكنه من التعبير قبل هذه السن المتأخرة، لكنه تحت وطأة ظروف وعوامل حياتية مختلفة، لم تتمكن موهبته من الإفصاح عن نفسها؟ أم أن وجود الموهبة أستلزم كي تفصح عن نفسها أدوات وطرائق لم تكن متوفرة أو قادرة في حينه؟ هذا أو ذاك وارد، وربّما العكس أيضًا، لا شيء ينبت من فراغ، هذه القاعدة صحيحة هنا،أحيانًا ما نصادف قارئا مثقفًا ونهما في الإطلاع على منحى معين من مناحي الأدب، الرواية أو الشعر أو القصة القصيرة أو المسرح أو قصة الطفل ، بل ونجده أحيانا عاشقا لهذا المنحى بالدرجة التي يمكن أن يعد مرجعًا لها مع مرور السنوات وتراكم الخبرة، وأحيانا ما يفاجئنا بعض هؤلاء بمحاولات جادة للكتابة في سن متأخرة، وغالبًا ما نفاجأ ـ إذا ما سنحت الظروف لظهورها ـ بنصوص إبداعية متميزة. من أدبائنا العرب القدامى الشاعر العربي الكبير "النابغة الجعدي" الذي هبطتْ عليه موهبة الشعر بعد الستين، ويقال بعد السبعين، وربما قبل ذلك، حتى عرف بين قومه بالنابغة، من المؤكد أنه ظل قبل هذه السن عاشقا للشعر سماعًا وإطلاعًا وحفظًا وترديدًا قبل أن ينتقل لمرحلة الإبداع متأخرًا، وذاعت شهرته عندما ألقى قصيدة شهيرة أمام الرسول محمد ﷺ ، وكان معمرًا. في الغرب كتبت الكاتبة "بينلوب فيتزجيرلاد" روايتها الشهيرة (الطفل الذهبي 1977) كوسيلة لتسلية زوجها المريض كأول عمل خيالي لها بعد الستين. أما كاتبة الأطفال "ماري ويسلي" لم تكتب روايتها الأولى (القفز في طابور 1983) إلّا عندما بلغ عمرها 71 عامًا، بعد أن رحل عنها زوجها تاركًا إيّاها أرملة فقيرة، الغريب أنها أعقبتها بعد ذلك بكتابة رواية تقريبًا كل عام وهي في عقدها الثامن. و"هارييت دوير" التي كتبت ( أحجار إيبارا 1984) وعمرها 74 عامًا. و"جوزيه سارماجو" الذي حصلت روايته الشهيرة (العمى) على جائزة نوبل، كأول كاتب بالبرتغالية، لم يكتب أول رواية له (بالتزار وبليمودا) إلّا بعد سن الأربعين. والكاتب المغربي الشهير "محمد شكري" لم يعرف أديبًا إلّا بروايته التي كانت ممنوعة في معظم أقطار الوطن العربي؛ "الخبز الحافي"، التي كان يطلق عليها الكتاب الملعون وذلك بعد ظهورها بالعربية عام 1982م، وأتذكر أيامها أننا ظللنا نبحث عنها، مع بعض الأصدقاء الأدباء، في معرض الكتاب بالقاهرة، حتى حصلنا عليها بطريقة سريّة من جناح الحاج مدبولي رحمه الله.
بالطبع هناك آخرون بدأوا بعد الأربعين أو الخمسين أو الستين أو بعد ذلك.
إذن الأمثلة كثيرة عمن بدأوا الكتابة في سن متأخرة ونطلق عليهم مجازًا "أدباء بعد الستين".
هل توجد هذه الظاهرة أيضا بين أدبائنا العرب المعاصرين؟ بالطبع نعم، وأكثر الأسماء لفتًا للنظر بين هؤلاء في مصر، على سبيل المثال لا الحصر، "توفيق عبد الرحمن" وروايته الشهيرة (قبل وبعد)، و"خليل حسن خليل" ورباعيته الشهيرة أيضا (الوسيّة)، و"عبد الرشيد الصادق محمودي" وروايته (بعد القهوة) الفائزة بجائزة الشيخ زايد 2014م.. وهناك آخرون غيرهم ربّما لم ينالوا حجم الشهرة التي حظي بها هولاء الثلاثة، وحظيتْ بها أعمالهم الروائية. الغريب أيضًا، وربّما هي صدفة بحتة، أن هؤلاء الثلاثة نشأوا في منطقة جغرافية واحدة هي محافظة الشرقية، وتعرضوا في رواياتهم للقرى التي ولدوا فيها، وعاشوا طفولتهم على أرضها، وهي القرى المصرية القديمة المتشابهة لحد كبير قبل أن يدهمها التغير والتبدل السريع في السنوات الأخيرة، كتابة روائية تشبه أيضًا السيرة الذاتية دون تصريح صريح.
لم ألتق بالروائي "توفيق عبد الرحمن"، رغم أنه بلدياتي من فاقوس، ورغم أنني أعرف معظم أفراد عائلته (عائلة جمعه) بقريته "ميت العز"، حيث كنا نتغنى صغارا: ميت العز بتاكل وز.. وترمي الريش علي كفر شاويش (قرية تقع جنوبها) .. إلي آخر الأغنية الساخرة، هي نفس المناطق الريفية التي تناولها بواقعية صادقة في شبه سيرة ذاتية في رواياته كلها، لم أعرفه أديبًا، شأني شأن الوسط الأدبي، إلاَ بعد دخوله الحياة الأدبية برواية "قبل وبعد" بعد سن المعاش، لكن أزمة الروايات الثلاث التي فجرها الإخوان المسلمين بمجلس الشعب عام 2001م، سلطتْ الضوء علي اسمه وروايته، وسحبت وزارة الثقافة مضطرة روايته الأولى من الأسواق مع الروايتين الأخرتين، لأنها كانت أمام طريق مسدود، ومثقلة في ذلك الوقت بأزمة سابقة هي أزمة رواية "وليمة لأعشاب البحر" للكاتب السوري حيدر حيدر، إلّا أن "توفيق عبد الرحمن" أعاد طبعها في دار نشر خاصة، فبحثت عنها كالآخرين وقرأتها، فكانت الأزمة في صالح الرواية حيث أضفت عليها مزيدًا من الشهرة والانتشار. والجدير بالذكر أن أحد محامي التيار الإسلامي رفع قضية جنحة ضد الكاتب مدعيّا أن الرواية تتعرض لعلاقة زنا بين زوجة مسلمة وعشيقها، وتصف تفاصيل العلاقة، وهذا ما تؤثمه أحكام القران والسنة والشريعة الاسلامية كما جاء في عريضة الدعوى، لكن محكمة العجوزة التي نظرتْ الدعوى أصدرت حكما بليغًا وتاريخيًا ينحني له كل مثقف، إذ قضت بأن الأعمال الفنية لا يتوفر فيها عنصر القصد الجنائي الخاص، ومن ثم رفضت قبول الدعوى لأن هذا عمل أدبي يخضع لقوانين الأعمال الأدبية لا الي نصوص قانون العقوبات المصري.
كان اسم "توفيق عبد الرحمن" يتردد أمامي كثيرًا من قبل بين أعضاء نادي الأدب بقصر الثقافة، خاصة خلال فترة تولّيه إذاعة القناة وهي إذاعة إقليمية علي موجةFM ، وإتاحته الفرصة لكثير من شعراء النادي لإلقاء أشعارهم بصفة شبه دورية بالإذاعة. في مرّة طلب منا مدير القصر مسرحيات من ذات الفصل الواحد لتقديمها لإذاعة القناة لإنتاجها كمسلسلات بناء علي فكرة "توفيق عبد الرحمن"، فأعطيته مسرحيتي (الأخوان) ـ وهي مسرحية تعتمد علي قصة الأخوين الشهيرة في التراث الفرعوني، وتم إنتاجها في سباعية ناجحة كتب حوارها الشاعر أحمد أبوسمرة وقدم موسيقاها التصويرية الفنان الراحل محمد نوح، بالطبع اتصلت بتوفيق عبد الرحمن تليفونيا شاكرًا صنيعه. مات توفيق عبد الرحمن في حادث مأساوي وعبثي، ورأيت صور الرجل الذي لم ألتق به وجها لوجه، وأخرجت روايته "قبل وبعد" من مكتبتي وأعدت قراءتها مرة أخرى، وتعجبت من حال حياتنا الأدبية والثقافية، فالضجة التي أثارها الإخوان ليس لها معنى حول رواية جيدة اتسمت بالصدق إلي أبعد الحدود، والرجل الذي نشر بعدها حوالي سبع روايات لم يحتف بها أحد، أو يسلط ضوء نقدي عليها يلفت انتباه القارئ لها، فيداهمنا هذا الحادث البشع ونحن صائمون في رمضان ويلفت انتباهنا لعناوين نقرأ عنها لأول مرّة.
أما "خليل حسن خليل" الجندي الذي أصبح أستاذا جامعيا للاقتصاد السياسي كما هو مدون على غلاف روايته الوسية، من قرية الرباعي إحدى قرى مركز كفر صقر، كتب خليل روايته الوسية في أربعة أجزاء هي الوسية والوارثون والسلطنة والخلاص. تعرض في "الوسيّة" لسيرته الذاتية والفقر والظلم الاجتماعي الذي عانى منه قبيل ثورة 1952 حيث كانت مصر وسيّة كبرى. أما "الوارثون" تتعرض للفترة بعد 52 حيث تعرض للحالة الاجتماعية بعد الثورة التي تعددت فيها الوسايا. و"السلطنة" تتناول الفترة من رحيل عبد الناصر حتى رحيل السادات، وتتعرض للتطورات التي صاحبت هذه الفترة. ثم أخيرًا "الخلاص" التي يرسم فيها رؤيته وأفكارة للخلاص نحو مجتمع متحرر لا يعاني من الفقر أو الظلم. وتعد رواية "الوسية" واحدة من أفضل الروايات العربية كما أجمع كثير من النقاد والتي تجمع بين السيرة والقص في إبداع أقرب لأدب الاعترافات، ولقد نالت الرواية شهرة عظيمة بعد تحويلها لمسلسل تليفزيوني ناجح من إخراج إسماعيل عبد الحافظ وبطولة أحمد عبدالعزيز وشيرين ومحسنة توفيق ومحمد الدفراوي وعبدالرحمن أبو زهرة وحمدي أحمد وغيرهم.
أما "عبد الرشيد محمودي" رغم أنه مفكر وكاتب لعدد من المؤلفات الفلسفية والفكرية، مثل طه حسين بين السياج والمرايا، عندما تبكي الخيول، اللورد شعبان، زائرة الأحد، ركن العشاق، الموسوعة الفلسفية.. وغيرها. إلّا أن الوسط الأدبي لم يعرفه روائيًا إلّا بعد تقاعده من عمله بمنظمة اليونسكو في النمسا وعودته لمصر، وظهور روايته "بعد القهوة" وحصولها على جائزة الشيخ زايد للآداب. البطل "مدحت" الطفل الريفي الذي نشأ بقريته القواسمة بالقرب من مدينة أبوكبير خلال رحلة حياتية طويلة ما بين القرية وأبوكبير والإسماعيلية وفيينا. تنقسم الرواية لثلاثة أجزاء هي: قاتلة الذئب والخروف الضال والبرهان، ولعل الجزء الأول الذي يتعرض فيه الكاتب للقرية المصرية في الأربعينات والخمسينات هي أكثر الأجزاء حميمية وقربًا من عقل وقلب القارئ كونها تعود به الزمن الجميل، ولقد ذكر المؤلف في حوار له أنه كتب الجزء الأول في فترة سابقة عن الجزئين الآخريين، أي أن هناك فترة زمنية تفصل بينهما. تُبرز الرواية الخبرات والتجارب والأحداث التي مرّ بها البطل منذ طفولته بقرية مصرية فقيرة وحتى وصوله لأوروبا والغرب، ومن خلال الحكي والسرد المميزين للرواية يعبر البطل عن وجهة نظر الكاتب في قضايا عصرية كالحب والعلاقات الشخصية وعشق الموسيقى والتنوع الثقافي واحترام الآخر.
بالتأكيد هناك آخرون غير هؤلاء لم نعرفهم أدباء إلّا بعد الستين، لكننا توقفنا أمام هؤلاء الثلاثة، ربما لأنهم كانوا أكثر شهرة، وأن أعمالهم كانت بحق ملفتة للنظر في هذه الظاهرة.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى