أمل الكردفاني- دنيا الرغاوي- قصة

الشخص الغريب الذي التقيته على الفيس، كان شاباً نحيلاً من دولة عربية لا أتذكرها، كان شديد الصراخ الذي تسمعه من بين الحروف المكتوبة، فقد تعرض في طفولته للتحرش والتنمر المستمر في المدرسة، كان يشتكي لوالديه لكنهما لم يكترثا وأجبراه على الذهاب إليها ليزداد تعرضا للتحرش والتنمر. ويبدو أنه كبر في السن ولكنه نشأ مدمراً نفسياً.. حاولت توجيهه للحصول على علاج نفسي، لكنه كان يزداد صراخا وعويلاً ثم اختفى...اختفى تماماً..
...

يظن الكثيرون أن الحكايات الجادة هي التي تتحدث عن الموت، وأن الفلسفات عظيمة لأنها تطرح تساؤلات وجودية او سرديات كبرى كما يقال. لكن من الواضح أن الجيل الجديد يفهم أن القضايا الجادة لابد أن تتعلق بالمال. وأن الموت نفسه لا معنى له عندما يكون خارج سياق البزنس. فالبزنس الحقيقي هو الذي يحيط بكل شيء، بالمال والسياسة والرياضة والفنون والآداب وباختصار بالسلطة أو بالنفوذ داخل السلطة. بل ولا يجوز أن نسمي البزنس بأي مسمى آخر لا أعمال ولا تجارة .. البزنس هو البزنس..البزنس هو مجموعة لا متناهية من الأنشطة التي تصب في ضخ المال وليس الربح، إن الربح مصطلح تاريخي، أما ضخ المال فهو مسألة تفوق تلك المفاهيم القديمة والساذجة عن البيع والشراء...فالبيع والشراء لا يصنع التاريخ، لكن حرب القطن بين الشمال والجنوب الأمريكيين هي التي أفضت إلى انتصار الشمال الصناعي على الجنوب الزراعي، وبالتالي انتصار أوروبا الرأسمالية، مما افضى لعدم حاجة اوروبا ولا امريكا للعبيد كما كان في السابق.. وتم إلقاء مئات الآلاف من العبيد على شواطئ ليبريا كقمامة..
البزنس أذن يجب أن يحرف التاريخ عن مساره..وأن ينشئ مسارات اخرى كإنشاء مشروع الجزيرة في السودان خوفاً من تداعيات حرب قطن أخرى في الولايات المتحدة الأمريكية..إن العالم مترابط بالبزنس
...


قبل خمسة واربعين يوماً، كان هناك ركض محموم في الشوارع الرئيسية، ذلك أن منظمة دولية إنسانية أقامت ماراثون لدعم المتضررين من المجاعة التي اجتاحت البلد من شمالها وحتى جنوبها، كان عدد المشاركين مأتين اثنين وسبعين راكضاً، مات منهم مأتان ونقل واحد وسبعون إلى العناية المكثفة وبقى واحد فقط حيا حتى استطاع الوصول لخط النهاية، وحصل على الجائزة وهي ثلاثة جوالات دقيق وزجاجة زيت من حجم أربعة لترات وأرز وعدس وفول تم إلقاؤها جميعا من طائرة مروحية. لكنه مات بعد أربع وعشرين ساعة بسبب الجفاف الشديد. واستردت المنظمة الدولية الإنسانية هباتها تلك وغادرت بعد أن الصقت على موقعها في الانترنت وعلى صفحاتها بوسائل التواصل صور الماراثون، والرجل الفائز وهو يحمل زجاجة الزيت وعيناه تدوران داخل محجريهما من العطش والإرهاق. وهكذا ضمنت استمرار حصولها على الدعم من الدول المانحة الكبرى. فاحتفل أمينها بذلك الإنجاز العظيم في غرفته بفندق من درجة السبعة نجوم، وتقارع مع الموظفين الدوليين الكؤوس نخباً لذلك الإنجاز الإنساني العظيم. ثم انفرد به مبعوث دولي على جنب وطلب منه إتمام مهامه الأخرى في نقل الأسلحة إلى دول أفريقية تعاني من الحرب الأهلية على وجه السرعة، وقد اندهش أمين عام المنظمة لأن نفس هذا المبعوث كان وسيطا للتفاوض وقد تم توقيع اتفاقات سلام بين الفرقاء تحت وصايته. فأحمرت عينا المبعوث وجز أضراسه، فخاف الأمين العام ولوح بيديه وهو يغمض عينيه ليؤكد أنه سينفذ التعليمات بلا تساؤلات.
...
استلمتُ سلاحي وأنا في الخامسة عشر من عمري، وعبرت الأدغال مع فرقة صغيرة، وقاتلت وقُطعت ثلاثة أصابع من يدي اليُمنى بسبب رائش طيار من القنابل غريبة الشكل. فتم نقلي إلى المعسكر ومن المعسكر تم تهريبي إلى دولة أفريقية مجاورة، لأنضم لجيش العدو كقائد على أكتافي نجوم عديدة مطرزة بخيط من التيل المذهب. لتبدأ رحلتي التي استمرت لسبع سنوات انتهت بعلاقة شاذة مع مدير إحدى المنظمات الدولية، نقلني على إثرها إلى بلده، وهناك تعرضت لتنظيف شامل من الأوساخ وقمل الرأس وعثة الجسد ليتم تدريبي على تطوير مهاراتي المدنية. لغات وحاسوب، وآداب وفنون..لكنني فشلت في كل ذلك، بل ساءت علاقتي مع عشيقي فتم الطلاق بيننا لأحصل على مبلغ لا بأس به كتعويض، وقد دفعه بطيب خاطر تعبيراً عن تقديره للأيام الخوالي وهو يغمز لي مشيراً لمؤخرته.
....

كانت الفتاة تبتسم وهي تشاهد دهشتي، وكنت مندهشا حقاً وأنا اجلس معها في ذلك المقهى. قلت لها بأنهم يرسمون أشكالا على ذلك السحاب، أخبرتني أن ذلك يسمى رغوة وليس سحاباً، رغوة تتم صناعتها للمشروبات. بل ولأشياء أخرى مثل إطفاء الحرائق، وألعاب الأطفال، ولحشو بعض عجلات المدرعات الحديثة بها. لقد أثارت تلك الرغاوي فضولي، وطلبت منها أن تمدني بمزيد من المعلومات عنها، لكنها فقط فتحت حاسبها وسردت لي كل ما كتب عن الرغاوي بشكل علمي. كانت مندهشة بدورها من اهتمامي بذلك الشيء الذي تراه يومياً دون أن يلفت انتباهها.
....

عندما انظر إلى كوب البيرة، وأرى الرغوة البيضاء تنفتح وتنغلق كرياتها دون توقف، كميلاد وموت الكائنات، أمد كفي ذا الأصابع المقطوعة وارفع الكوب لأعلى فتنفذ اشعة الشمس من خلالها وتزداد الرغوة تلألؤاً..، "ليست سحاباً" إنها أجمل من السحاب يا "بريتي"..، وأنا أؤكد لك ذلك..، ثم أُخرج عدستي، وأقربها من الرغوة فأرى شكلاً منتظماً من ملايين الخلايا..."تسمى بالخلايا المفتوحة" حيث يحاصر السائل جيوب الغاز كجيش كبير في غابة كثيفة.
...

كما أسلفت فإن الموت نفسه يكون مجرد تهريج كوميدي إن لم يرتبط بالبزنس، لقد أدركت ذلك مبكراً ومن هنا كان لابد لي أن أربطه بالبزنس..فدائماً هناك أشخاص يجب أن يفقدوا أرواحهم قبل أن يعلن الأحياء انتصارهم...وكان لا بد من ربط عالم الرغاوي بالموت، وكليهما بالبزنس. فالمسألة ليست بسيطة. مبدئياً لا يمكننا تكوين رغوة صغيرة إن لم يكن هناك عامل ميكانيكي، وأدوات لخفض التوتر السطحي، ومنع تكسر الفقاعة الرغوية، وزيادة التشتت، وتغيير معامل الضغط في السطح البيني..هذه المسألة ستظل ترفاً يهتم به العلماء المهووسون بالمعرفة، أولئك البؤساء دائماً، والذين يَنفَقون كما تنفق الأبقار العطشى في صحراء أفريقيا الجافة دون أن تشرب من لبن ضرعها.
عالَم الرغاوي هو عالمنا تماماً، فالفقاعة الرغوية تزداد هشاشة بالضغط الازموزي من صفائحها، وبالجاذبية من أسفلها وبعوامل متعددة..هكذا كأعصاب الإنسان التي تزداد هشاشة بعد أن تبلغ مداها بالمراهقة ثم يبدأ الهبوط...وهكذا بدأنا في صناعة سلاحنا الرغوي..السلاح الذي ينفذ إلى الجسد دون أن تخرج قطرة دم واحدة، ثم يلف بروتينَيْ الهيموغلوبين برغوة صغيرة..
...

لقد ذبح والديه العجوزين، وفر هارباً، لكنه بالرغم من ذلك لم ينجح في مدواة آلامه، بل ازداد اضطرابه العقلي. لا يمكننا أن نلومه ولا يمكننا ايضاً أن ننفي المسؤولية عنه. لا شيء من هذا حقيقي. فكل الأشياء يمكنها أن تكون مبررة سلباً وإيجاباً، كما يمكن نفي أي مبرر لها، تماما كالإنقلاب العسكري، الذي هو جريمة إن فشل، ونصراً باهراً إن نجح، وكما تلعن الشعوب الإنقلابي الفاشل وتضربه بالنعال، فإنها أيضا ستلتف حوله وترميه بالورود إن نجح ولو في أزاحة دموقراطية فاشلة أفضت إلى الفوضى والجوع.
من يصنع الحقيقة والخطأ هو الإعلام والإعلام يصنع المال، والمال هو البزنس، ولم يكن يملك المال، لذلك كان كل الإعلام ضده. كل ما رآه الناس هو جثتين مذبوحتين إحداهما في المطبخ وثانيتهما في الفراش. لقد خرجت قوة تدميرية هائلة من الماضي كما يحدث من فوهة المدفع. وانتشرت صور الفتى في كل مكان، وخاف زملاؤه القدامى المتحرشين والمتنمرين على أنفسهم وأبنائهم فغذوا الإعلام بالمال. لقد تمتعوا دائما بميزة تجعلهم متفوقين عليه وهي ميزة امتلاكهم للسلطة..اي للبزنس..أما ميزته الوحيدة التي امتلكها فكانت مطاردة الماضي له عبر جسده الذي به كل علامات الخزي..
...

لن تكون تجربة عابرة أبداً، فالإنسان الرغوي هو قمة ما امتلكه من قوة..هكذا سنضعك على آلة الرحمة.. دماغك الدهني ستنفذ إليه الرغاوي التي ستخفض من نقل الكهرباء عبر الخلايا العصبية إلى جهازك العصبي.. و.نعم.. سينتهي كل ذلك الألم بسرعة. لتضحى كائنا مسالماً ككلب مقطوع الذيل..
...

نصف وجهه مضيء والآخر مظلم..عيناه مرتخيتان، وحين يسعل يمسح فمه وانفه فيمتلئ منديله برغوة لزجة بنية اللون. ثم تنسكب رغوة من عينيه المنهكة فيمسحها كذلك..
"سجارة؟!"
"أشكرك"..
"هل تعرفني؟"
"لا أكاد أتذكرك"
"هذا أفضل"..
يمضي ويتركه، فيدخن بصمت..
يكاد يرى زهوراً، لكن الصورة تموت بسرعة..ويعرف أن مواعيد نومه قد حانت...
وهكذا يتحرك جميع البشر من تحت أعمدة الإنارة في مواعيد نومهم، يبتلعون قرصاً مخثراً للرغاوي..وينامون بارتياح..أجهزتهم العصبية الرغوية لا تعاني أبداً من أي انفعال...في الفجر يستيقظون ويتوجهون في صفوف طويلة نحو المصانع الضخمة، حيث يمضون أربع ساعات في العمل المتواصل، ثم تأتي دفعاتٍ أخرى، فهم يتناوبون بحيث لا يستهلك العمل رغاويهم الباردة..
وبعد أسبوع يتجه كل فرد نحو الفحص الدوري، حيث تُفتح عدسات عيونهم الثابتة، وتقاس الرغاوي العصبية،ويتم ضخ ما نقص منها.
"مالذي تحلم به؟"
"لا شيء"
"تنام جيداً؟"
"نعم"
"هل تمارس الجنس؟"
"نعم"
"هل تشعر باللذة"
"نعم"
"هل تأكل جيداً"
"نعم"
"ما نوع طعامك المفضل؟"
...
يحتاج الانسان للشر أيضاً، وحينما يُنزع عنه الشر يصير عبداً...لكننا ننزع عنه الشر..إن ذلك التكامل بين الرغبات البنائية والهدامة هو الذي يعطي لذة للحياة..لذلك فالشر ليس شراً بل عنصراً من عناصر المعنى الكلي للإنسان..لكي يكون حُراً..
وقد نزعناه، ليكون كائنا رغوياً...
لم نعد نحتاج للإعلام الموجه الذي يستخدم المصطلحات الرنانة كالدموقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير وكل تلك الاكاذيب التي لا تفهم غالبية البشر عمق جدلياتها السياسية المصطنعة..لم نعد بحاجة لذلك..فالإنسان في دنيا الرغاوي..محكوم عليه بأن يكون رقماً إحصائياً باردا...وحين نظرت لعينَيْ طفلي لم أرَ فيهما ذلك الجزع الذي كان يغمر طفولتنا ونحن نسمع صوت انفجارات القنابل.. توقفت كل مصانع السلاح في العالم...وصار طفلي لا يبكي أبداً.. لقد انتهى عهد البكاء وبالتالي انتهى عهد الضحك أيضاً..
...

توصلتُ إليه، ووجدته يقف تحت عمود الإنارة يمسح إفرازات جسده الرغوية عن وجهه وأذنيه..
"سجارة؟!"
"قلت له"
أجاب:
"أشكرك"
سألته مرة أخرى:
"هل تعرفني؟"
"لا أكاد اتذكرك"
قلت:
"هذا أفضل"..
كان هذا أفضل بالفعل بالنسبة له..لقد تجاوز إلام ماضيه..لا تحرش ولا تنمر ولا أبوين جاهلين...وبالتأكيد انمحت صورة ذبحهما من ذاكرته..
تركته دون أن أترك مراقبته وهو يطفئ سجارته متوجهاً نحو النوم بعدها سيستيقظ عند الفجر متوجهاً نحو المصنع الكبير.. كباقي جموع البشر..

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى