فهد العتيق - هذيان مريض.. هذيان جميل

حياة الآخرين جزء من حياتنا، وحياتنا جزء من حياتهم، التي تكتمل في ذاكرة جمعية واحدة، مقابل ذاكرة فردية قد تعطب في أية لحظة تاريخية، حتى سيرتك الذاتية لا يمكن أن تكتمل دون الآخرين الذين عاشوا قريبا، أو حتى بعيدا من حياتك.
ليس المهم ما نكتبه لكن الأكثر منه أهمية كيف نكتبه.
أحيانا تشعر وأنت مستلق في فراشك في حال التعب، أنك تداخلت هكذا دون إرادتك، مع حياة أناس آخرين، تنتظر النوم الذي يطل خفيفا وبطيئاً، مختلطا بأصوات تعرفها وأصوات لا تعرفها، ومن بينها صوتك أو صوت جارك أو زميلك في العمل، تتذكر حياتك الماضية وحياتك الحاضرة وتخفق في استعادة أشياء كثيرة، في حين تفرض نفسها صور كثيرة على رأسك، وعندما تنظر إلى نفسك، ترى نفوسا كثيرة متداخلة بعضها مع بعض، فتوقن تماما أننا نمضي جميعا، ولا نمضي واحدا فقط .
هذا ما شعرت به وما خرجت به من هذا النص الروائي القصير والموحى والمكثف والمبدع حقا.
رواية هذيان للكاتب الإيطالي أنطونيو تابوكي عن حياة الشاعر البرتغال الكبير فرناندو بيسووا.

هذيان هي رواية الايجاز والتكثيف والعمق والابداع والاثارة والتخييل الذاتي وحوارات التفاصيل الصغيرة الممتعة . في وقت لا زلنا نقادا وكتابا وصحفيون نبحث عن موضوعات ضخمة لرواياتنا العربية التقليدية والانشائية الطويلة في الغالب. رواية قصيرة وصغيره الحجم لا تتجاوز ستين صفحة من القطع المتوسط ولكنها تثير من أسئلة الحياة ما لا يمكن أن تثيره رواية من مئات الصفحات الانشائية ، وهذه هي الكتابة الحديثة التي تركز على الكم وليس الكيف. وهذا هو الفن الروائي الذي يفك العقدة التقليدية ويكسر ترتيب السرد التقليدي لكن ببدائل وطرائق فنية جديدة مبدعة فعلا، يغوص بداخل الشخصيات ولا يتعلق بظاهرها، يحطم الزمن السائر في خط مستقيم لكي تتعدد مستويات الأزمنة، مثلما تتعدد مستويات الواقع والحلم، وصولا إلى تلك المنطقة الغامضة التي يسميها أدوار الخراط ( ما بين الذاتيات) والتي يرى أنها تحل الآن محل موضوعية مفترضة .

المكان غرفة بمستشفى والموضوع عن الأيام الثلاثة الأخيرة للشاعر البرتغالي الكبير فرناندو بيسووا الذي مات بعد ثلاثة أيام من دخوله مستشفى في لشبونة. ثلاثة أيام عبقرية من المتعة والجمال في رواية قصيرة وصغيرة حجما وعظيمة الأثر، أستدعى فيها الكاتب الإيطالي بكل شغف حياه واحد من أكبر كتاب القرن العشرين.

وهكذا يرحل الشاعر البرتغالي بيسووا بطريقة سردية حين أمضى ثلاث أيام في مستشفى لشبونة على سرير الموت استقبل خلالها بدلاءه الذين كانت أصواتا تتداخل بعضها مع بعض وتتحدث داخله، عندما حاور الشاعر تلك الأشباح التي رافقته طوال حياته. هذه الحال كانت واضحة جدا مع الشاعر فرناندو بيسووا الذي دخل المستشفى، ولم يمكث بها سوى ثلاثة أيام حتى وافته المنية، لكنه خلال هذه الأيام الثلاث الأخيرة، دخل في حياة ربما أكثر ثراء من حياته القصيرة التي عاشها بسبب مرض في الكبد.

يجب أن أحلق ذقني أولا، قال، لا أرغب في الذهاب إلى المستشفى بذقن نابتة منذ ثلاثة أيام، أرجوكم نادوا الحلاق، السيد مانا سيس ، إنه يسكن على ناصية الشارع.

قالوا له لا أهمية لذلك، ولكنه يجيبهم بأن الوقت لدينا دائماً، يريد أن يحلق ذقنه كما لو أنه ذاهب إلى حفل. لكنه بالفعل كذلك.

خلال ثلاثة أيام فقط ، هي مدته في المستشفى، قابل أغلب أصدقائه، الذين لم يرهم منذ زمن طويل، حدثهم وحدثوه، رغم أنه لم يرهم، منهم الطبيب والشاعر والمعلم والفيلسوف، الذين كانوا بدلاءه، كما لو كان الأمر بمثابة مسرح هذيان كبير . كان بدلائه، أشخاصا غيرة. كانوا أصواتنا تتحدث داخله، وعرفوا حياه مستقلة، وسيراً ذاتية مستقلة، تحدث إليهم شاعرنا المريض، غاص عميقا في حياتهم وفي حياته، سألهم وسألوه، مثلما تحاور مع الأشباح التي رافقته طوال حياته.

حين مرت سيارة الشاعر المريض، وهي متجهة به إلى المستشفى، بأحد الشوارع، تذكر حبه الكبير والوحيد ( أفيليا )، وحين حاول النوم على سريره في المستشفى، دنت ساعة الأشباح، وكان الوقت منتصف الليل، حين بدأ توافد البدلاء والأصدقاء القدماء، بعد أن اخذ إبرة منومه، ومع ذلك ظل في المنطقة الوسطي ما بين النوم والصحو.

دخل أولا ( ألفاروا ) فسأله الشاعر المريض : لماذا جئت ؟

قال له: إن لدينا بعض الأمور لنتحدث بها قبل أن نغوص سويا في الظلام، فأنت منذ زمن طويل لم تعد تكلمني بصيغة الاحترام .

فأجابه الشاعر المريض بيسووا : إنك يا ألوراوا دخلت حياتي، وأصبحت بديلا مني، لأنك كنت السبب في قطع علاقتي ب(أ وليفيا ) .

ورد ألفاروا : لقد قمت بذلك لصالحك، لان تلك الشابة المتحررة لم تكن تلائم رجلا في مثل سنك، حيث سيفشل زواجكما . ثم إن رسا ئل الحب التي كتبتها لها كانت سخيفة، وهنا أكون قد أنقذتك من السخف، وأتمنى أن تشكرني على ذلك.

قال الشاعر بصوت باك حزين: لقد أحببتها.

رد ألفاروا : انه حب سخيف ( بنبرة عالية ) .

طال الحوار بين الشاعر(بيسووا) المريض، وألفا روا، ودخلوا عميقا ً في حياة بعضهما البعض وذكرياتهما، حتى قال ألفاروا كامبوس : إنني أحن إلى الحقبة التي كنت فيها شاعراً منحطا .

ثم يقول أيضا للشاعر المريض في همس: (ربما رسائل حبك ليست كلها سخيفة)، ثم خرج وأغلق الباب.

بعد أن قابل الشاعر المريض ( بيسووا ) صديقة (ألفارو) أولا ، ها هو الآن يتلقى معلمه (كايرو)، الذي يرفض أن يكون معلما لهذا الشاعر الكبير، و( بيسووا ) يصر على أن ( كايرو ا) أ أستاذه، لكن كايرو المعلم يرد : أنني تقريبا شخص بلا ثقافة، كانت حياتي بسيطة جدا وأنت عشت حياة كثيفة، وأبدعت تيار الحسية، وقد ترددت على المقاهي الأدبية، في حين كنت أقضي أمسياتي بعد العشاء بلعب الورق على ضوء لمبة من النفط، فكيف يعقل أنني صرت أباك ومعلما ًلك .

يجيب الشاعر المريض بيسووا، (كنت دائما بحاجة إلى دليل، وبدونك كانت حياتي قد تطايرت كالشظايا، وبفضلك تماسكت، وفي الواقع أنه إنا من انتخبك معلما). لكن الشاعر المريض قد أخذ إبرة ثانية، ولم يعد يشعر بألمه في الجهة اليمنى، وكان يجد نفسه في سلام غريب، كما لو أن ضبابا كان قد نزل عليه، في الوقت الذي كان فيه يفكر بالآخرين. قرأ المعلم كايرو، بعض الأبيات النثرية على صديقه الشاعر المريض، قال بيسووا : إنه شعر رائع، أشكرك يا معلم كايرو.

سمع بيسووا طرقا على الباب فقال: ادخل، فتح الباب، لكن لم يدخل أحد.

أأستطيع الدخول رجاء. سأل صوت مرتجف، قال بيسووا أدخل.

إنه ريكاردو.

مضت سنوات لم يريا بعضيهما.

سأله الشاعر المريض: في أي زاوية من البرازيل كنت مختبئا، حتى لم أنجح في الاتصال بك.

أجاب ريكاردو: علي أن اعترف لك بشيء، لم أذهب إلى البرازيل قط، لقد كان جميع الأصدقاء يعتقدون ذلك، حتى أنت، وفى الحقيقة أنى كنت هنا في البرتغال، مختبئا في قريبة صغيرة، في ملكيه صغيرة عند بعض الأصدقاء، في منزل ريفي , وأمام المنزل كان هناك شجرة توت معمرة , وتحتها كتبت كل أناشيدي المفخمة وأشعاري , على طريقه هوارس , وكنت طبيب القرية .

رحب به الشاعر المريض، وطلب منه أن يكتب مزيدا من القصائد.

قال الضيف ريكاردو: لكنها سوف تكون قصائد مزيفة.

أجابه الشاعر بيسوا أن القصائد المزورة لا تضر بالشعر أبدا، وأن نتاجي الشعري كبير جدا، حتى انه يتحمل الشعر المزور أيضا، ثم نام الشاعر المريض، بعد أن استمع إلى الكثير من أسرار هذا الصديق .

ارتاح الشاعر بيسووا قليلا، وما كادت الساعة تدق الثالثة صباحا حتى دخل صديق ثالث، إنه برناردو سواريس، الذي تعرف عليه الشاعر في مطعم صغير، كان يدعى بيسووا، على أسم الشاعر، وخلال هذا المساء تحدث الصديق للشاعر عن مشاريعه الثقافية، وأحلامه حول ( سمرقند ) وعن كتابه ( كتاب اللادعة ) .

احضر هذا الكاتب معه عشاء، لكن بيسووا لم يأكل، فأخذ برناردو يأكل، وهو يقول : يجعلني ذلك أحن إلى تلك السهرات، التي كنا نتعشى فيها، بمطعم بيسووا الصغير، وأنا على يقين بأنك اخترت هذا المطعم لأنه كان يحمل اسمك، رغم أنه مطعم متواضع جدا، حيث إن الناس الذين هم على شاكلتك، لا يذهبون إليه أبدا .

لكن الشاعر الكبير يرد: لكن هذا ليس صحيحا، لأنني بالفعل أحب المطاعم المتواضعة، لقد عشت حياة متواضعة.

ثم يسأله الشاعر عن سمرقند..

يجيب الكاتب الضيف، أنه تعلم الاوزبكية قليلا، وأنه مازال يحلم بهذه المدينة.

وطال الحديث بينهما، عن الشعراء والأصدقاء المجانين، وعن وحدانية الروح، ثم دخلا عميقا في مكاشفة بعضهما البعض، حتى أعلن الكاتب الضيف، أنه بدأ يكتب عن طعم ورائحة الأشياء، بعد أن كتب كثيرا حول (النظر)، كما أنه سوف يكتب فصلا مرحا عن يومياته الغير مرحة .

وأخيرا ظهر (انطونيو مورا ) الفيلسوف وصديق الشاعر المريض، كان عجوزًا، وذا وجه مريض، ولحية بيضاء، مرتدياً رداءا رومانيا يصل إلى قدميه .

سلام أيها الرفاق، قال العجوز: إنني أسمح لنفسي بالدخول إلى أحلامك .

وذهب الحوار بينهما إلى الفلسفة والشعر والأصدقاء، حتى قال الشاعر بيسووا : حان وقت مغادرة مسرح الصور، هذا الذي ندعوه حياتنا، ثم توقفت يداه فوق الفراش، وكانت الساعة الثالثة والعشرين دقيقة بالضبط .

زخم الحياة الممتلئة بالأصدقاء ومختلف أنواع الناس، كان حاضرا هنا، في نص سردي صغير أسمه هذيان، تشعر وأنت تقرأه، أن فن الكتابة بحاجة إلى الكثير من العفوية والقليل من المبالغة والتكلف والافتعال لكي يصبح كتابة أدبية رفيعة القيمة والمعنى والفن تستحق القراءة .
كان الحوار السردي دائما سيد الموقف وسيد الحكي في الرواية، لكنه الحوار الذي لا يحمل سخريات الأقدار التي جمعت بين هؤلاء فقط لكن أيضا يحمل أو يكشف سخرية أو هزلية مواقف كنا نظنها جادة، ولهذا اكتسبت هذه الرواية صفة جديدة، تقول أن المهم ليس ما نكتبه ولكن كيف نكتبه. رحل الشاعر البرتغالي الكبير بطريقة سردية مدهشة، كتبها الروائي الايطالى انطونيو تابوكى في سيرة ذاتية متخيلة، وفى الوقت نفسه كتاب سردي واقعي وفني كبير بعنوان هذيان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى