حمد صالح - اللوحـة الأخيـرة.. قصة قصيرة

ابتدأ الأمكر كلّه بمصادفة, أو لنقل بمزحة حبلت بها حاجة مستوطنة في جيوب كل الموظفين الصغار الذين تطالبهم ضرورات الحياة أن يدفعوا أكثر مما هو موجود في حافظات نقودهم البلاستيكية العتيقة. المسألة برمتها ابتدأت من هذه الفجوة المادية المألوف
- أنت رسام ماهر , فلماذا لا ترسم لوحات وتبيعها للناس . أنا واثقة من أنك ستنجح وستساعدنا قليلاً في مصروف البيت , فالراتب كما تعرف لا يكفي .
هذا ما قالته زوجتهُ وهي تتأمل أحد رسوماته في أحد دفاتر أولاده المدرسية. مُجرد تخطيط سريع بقلم رصاص لا أكثر, فأعتبر الأمر كله مُجرد مزحة عابرة, بيد أنه لم يكن يعلم أن هذه المزحة الصغيرة ستكون بمثابة القشّة التي قصمت ظهر البعير. بل ولم يكن يخطر بباله مُطلقاً أن مثل هذه المُصادفة الحمقاء, أو الجُملة العابرة التي تفوهت بها زوجتهُ ستقلب حياته رأساً على عقب. وبالتالي, فإن أحد ما كان يتصور أبداً أن الأمور ستؤول إلى ما آلت إليه.
موظف بسيط في أحدى الدوائر الزراعية في مُحافظة نينوى, مُتزوج من امرأة قروية المنبت مدنيّة النشأة, لا تُجيد شيئاً بقدر إجادتها مُطالبته الدائمة بمصروف البيت وإنجاب الأبناء. يسكن في بيت متواضع وعادي من تلك البيوت المكدسّة بلا نظام في الأحياء الشعبية, مؤلف من طابق واحد, قديم البناء, تنتصب فوقه سقيفة مُتداعية الجدران مبنية بالجص الأسمر وكسر الطابوق, مُتصدعة الجدران, شبه مُتداعية. كانت فيما مضى تُستخدم لإيواء التنور ولكنها استخدمت فيما بعد كمخزن لأدوات البيت الفائضة عن الحاجة, مُهملة مُنذ زمن بعيد, ملوثة الجدران والسقف برماد أسود مُتكلّس وطبقات كثيفة من الغبار وثقوب الحشرات وبيوت العنكبوت. وكانت زوجته تلوك الكلمات لوكاً حين يسألها أحد عن بعض الحاجيات القديمة المُهملة في السقيفة
- يمكن في الطابق الثاني
والطابق الثاني بطبيعة الحال هو السقيفة دون غيرها
- إذا كان الأولاد يضايقونك بالبيت , نترك لك الطابق الثاني . ترسم على كيفك .
قالت له زوجته مُشجعة. وكان قبل ذلك جرب كل الحلول المُمكنة لرأب الصدع الحاصل بين حجم الراتب من جهة وبين القائمة الشفوية تُقدمها لهُ زوجته بحاجيات البيت الأساسية ومصروف الأولاد ومُضايقة المؤجر في نهاية كل شهر من جهة أخرى. وهكذا حزم أمرهُ وعمل في محل لبيع الملابس المُستعملة, وكذلك موزع بطاقات دخول في أحد دور السينما وكاتباً في محل لبيع الأدوات الاحتياطية للسيارات العتيقة, ثم رساماً في مكتب هندسي أهلي
- تستطيع أن تُباشر عملك منذ الغد
قال له أحد الرسامين الذين يستغلون مواهبهم الفنية من أجل كسب المال بعد أن أطلع على نماذج من تخطيطاته الأولية وأكتشف - بعين التاجر الحاذق - ما يمكن أن يستفاد منه إذا أستغلّهُ الاستغلال الأمثل.
- بوسعك أن تنمي موهبتك الفنية بواسطة مواصلة الرسم , أمّا الفلوس فسنتفق عليها فيما بعد .
وبالفعل اتفقا على الفلوس بلا صعوبات. على كل لوحة يرسمها (عبد الواحد) وتباع سيحصل على مبلغ مُعيّن من المال, وبما أن غرفة المرسم والتي تستخدم كدكان أيضاً لبيع أدوات الرسم والقرطاسية الخفيفة, والكائنة في منعطف شارع ضيّق لا تكفي لعرض اللّوحات المُزيفة بالإضافة إلى عمل الرسامين وتحركهما الدائم لم يجد عبد الواحد أمامه سوى أن يحمل حصته اليوميّة من النماذج وقطع الورق المُقوى وأصابع الأصباغ الزيتية الملونة وفرش الرسم ويستغل (الطابق الثاني) بعد أن تبرعت زوجته مُنفرجة الأسارير بإصلاح ما يمكن أصلاحه منها, فقد أزاحت عن أحد أركان السقيفة الأدوات المُبعثرة والأواني وقطع الحديد والأحذية العتيقة والزجاجات الفارغة, ونظفت الجدران من الرماد والغبار وبيوت العنكبوت, وأغلقت ثقوب الحشرات بالوحل وكنست الأرض أكثر من مرة ورشتها بالماء.
في البدء وجد عبد الواحد صعوبة بالغة في حصر نفسه بمثل هذا المكان الخانق الذي يفتقر إلى أبسط مُقومات الراحة, فكان دائب التنقل بين السقيفة وغرفة المطبخ لتناول الشاي وفض مُنازعات الأولاد الدائمة ومشاهدة كارتون ومباريات كرة القدم وبعض المسلسلات العربية.كانت لوحاته تُباع بأثمان لا بأس بها وبكميات جيدة لم يكن يتوقعها. وكان صاحب المرسم يمسح على صلعته المُبقعة بالألوان الزيتية ويضحك بجذل صبياني, كأي تاجر صغير يرى تجارته في ازدهار
- رائع سيد عبد الواحد . أعمالك رائعة . خذ يا أخي .. خذ
فيُنقده مكافأة مالية جانبية لا علاقة لها ببنود الاتفاق التجاري ثم يُحمله حصته التالية من قطع الورق المقوى والأقلام الملونة والنماذج التي عليه أن ينجزها ومُستلزمات الرسم الأخرى, فيعود هو بدوره مُثقلاً بمصدر رزقه الجديد ليعتكف في السقيفة ناسخاً كل الأصول والنماذج من صور شخصية ومناظر طبيعية ولوحات لفنانين مشهورين وصور بطاقات أعياد وصور حيوانات وطيور وأشجار وأنهار وقرى وطائرات ومدافع ودبابات. يستنسخها من أصولها على نحو أكبر وأوضح بعد أن يزوقها بالألوان الجذابة وأحياناً الصارخة. وكانت زوجته تعوده على فترات مُتباعدة لتحثه على مواصلة العمل لأنهم بحاجة إلى المال, وتقدم له الشاي الأسود الثقيل وتُبدي مُلاحظاتها النقدية التي تكون عادةً مبنية على أساس قيمة اللوحة المادية وليس على أساس قيمتها الفنّية. تقول له بمرح وذهنها- كالمُعتاد- محشو بعائدات اللوحة من الأوراق النقديّة الجميلة
- هذه اللوحة ستُباع بعشرة دنانير , أو أكثر .
ثم تعيد سؤالها التقليدي المألوف مع أنها تعرف الإجابة تمام المعرفة
- كم ستكون حصتنا من ثمن هذه اللوحة يا عبد الواحد ؟
فيُجيبها بلا مُبالاة وهو مُنهمك في الرسم
- دينارين .. وربما أكثر قليلاً
- فلوس حلوة .. ولكن , ألا ترى أن هذا الرجل يستغلك يا عزيزي
فيزجرها بأدب لا يخلو من تأنيب
- أتقي الله يا امرأة ..
وكان يستعيد بذهنه ما كانت تقوله حين يضع الراتب في يدها, حيث أن وجهها الذابل يتجهم وتنكمش حزوز جبينها العريض وتلوح في عينيها المُبحلقتين بعدم رضا بوادر ثورة على درجة ليست هيّنة من الخطورة. كان يُطلق على مثل هذه الثورة المُرتقبة والتي لا مفر من مواجهتها أسم ( ثورة رأس كل شهر )
- الله عليك , هل هذا الراتب كلّه ؟
- طبعاً يا عزيزتي كلّه .. أنظري
ويقلب أمامها جيوب السترة والبنطلون فتصمت لحظة وهي تتنقل ببصرها المُتشكك بين حفنة الأوراق المالية وبين وجهه, ثم تقول بعدم ارتياح
- ولكن , ما الذي أستطيع أن أفعله بهذا المبلغ ؟ البيت .. والأولاد .. وإيجار البيت .. وأنت .. وأنا .. أخبرني الله عليك يا عبد الواحد ما الذي أستطيع أن أفعله بهذا المبلغ .. ها .. ؟
- لا أظنك تطلبين أن أكون نشالاً في باصات المصلحة يا عزيزتي
فتبدأ الثورة المُترقبة التي تبدأ عندها- كالعادة- منغصات رأس كل شهر
- لو كان راتبك بحجم كلامك لكنت أسعد زوجة بالدنيا .. ظلموني أهلي بك
فيتجرع بقايا ابتسامة مريرة وهو يؤكد لنفسه بأن الأمور مُستقرة الآن إلى حدٍ ما. لم تعد في البيت قلاقل واضطرابات نزقة. منذ بدأ يعمل بعد أوقات الدوام الرسمي استقرت الأمور على نحو لا بأس به وأصيب برنامج ثورات رأس كل شهر بخلل. في البدء لم يكن الرسم عنده أكثر من عمل أضافي, كأي عمل آخر يدرُّ عليه دخلاً إضافياً يساعد راتبه الوظيفي في التغلب على مصاعب البيت الماليّة. ومن هنا- بالدرجة الأولى- يأتي حرصه على إنجاز لوحاته في أوقاتها المُحددة وزاد انغماسه في العمل الفني حين أشتد إقبال الزبائن على لوحاته بالذات نظراً لما تتميز به من موضوعات بسيطة وموهبة فطرية, وقدرة فنيّة ملحوظة مع أنها لا تخضع لمفاهيم واصطلاحات أكاديمية مُحددة على التخطيط البارع في قلم الفحم ولمسات فنية حساسة تجدها تنبض بحياتها الخاصة وراء المضمون الفنّي وإمكانية راقية على الاستنساخ من النموذج على اللوحة.
في تقديره كل شيء يخضع للاستنساخ. كل شيء على الإطلاق يمكن إعادة خلقه على نحو أفضل مما هو عليه في الواقع, وغالباً ما كان يضيف ما يخطر على باله أو يحس أنه يُكمل نقصاً ذاتياً دقيقاً وحساساً جوهر اللوحة, مع أنه لا يستطيع أن يُفسر هذه الإضافات للآخرين التفسير المنطقي المقبول إلاّ أنه يجدها في صلب اللوحة ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها. وكان صاحب المرسم يعتبر هذه الإضافات الزائدة في اللوحة هي نتاج في أدوات الفنان الذي يفتقر إلى القاعدة الأكاديمية, حيث أنه لم يدرس الفن في معهد أو جامعة, أو على الأقل يتعلم أصول الفن على أيدي فنانين مشهورين. أصحاب مدارس واتجاهات فنيّة, ولكنه لا يستطيع في الوقت ذاته أن يتجاهل ضربات المُتمكنة والعامرة بالإيحاء والدلالات الرمزية الحاذقة والصفاء اللوني الذكي, فكل ضربة فرشاة على قطعة القماش أو الورق المقوى هي تشكيل حياتي مُتكامل الأبعاد, بارع الدلالة يكمن وراءه عالم بازخ ومُترف من المشاعر والهواجس والألوان والإيحاءات الفنيّة العالية الحساسية. وكان صاحب المرسم يقول لهُ
- أنت فنان موهوب أستاذ عبد الواحد , فقط لو تخلصت من إسقاط ذاتك على اللوحات .
ولكنه لم يتخلص من إسقاط ذاته على اللوحات, فكل لوحة جديدة يشرع في رسمها إنما يبدأ من ذاته مُباشرة وليس من النموذج كما هو مُفترض. يبدأ من نقطة عميقة, غامقة الألوان ومُتداخلة الأحاسيس ونافذة الرؤيا. يغوص إلى الداخل. داخله هو. داخل الآخرين. داخل الحياة ليقتنص مضامينه الفنيّة وإضافاته الذاتية ثم يسكبها بدقة وإتقان في اللوحة التي سيجدها في اليوم التالي قد بيعت بثمن طيب أرضى صاحب المرسم وخفف من حدّة لسان زوجته وثوراتها العارمة, وأشعره مُجدداً بأن الفن حياة رحبة ومملوءة بالمعنى لا يسبرغورها سوى الفنان الحقيقي والمخلص لفنه. وكان يستعيد في ذهنه ذلك الصبي القروي الذي يذهب إلى المدرسة ببنطلون من الكتان الرخيص مفتوق من مؤخرته وقميص مُتسخ وحذاء من البلاستيك العادي, حيث يؤكد معلموه وأقرانه من التلاميذ على أنه فنان موهوب ويتنبئون له بمستقبل فني عظيم, ولكنه كأي قروي آخر في مثل وضعه الاجتماعي القاسي حيث يكون الفن الحقيقي هو القدرة على انتزاع رغيف الخبز من بين أنياب الوحش الاجتماعي الرهيب. لا يستطع أن يضع الفن فوق الوظيفة والبيت والزوجة والأولاد, فالفن عموماً له ليس مهماً إلى الدرجة التي يؤخذ بها كمهنة, وإنما أهميته تنحصر في تلك الشريحة الاجتماعية من الناس المُترفين أصحاب القصور العامرة والجيوب المنفوخة, الذين يرفلون بالحرير و(الجوخ) ويتكئون على الأرائك وثيرة وأراجيح موزعة بانتظام في حدائق (غناء). أولئك الناس الذين وهبتهم الحياة من الخيرات والنِعم أكثر مما يستحقون فمضوا يسدرون في خمولهم وكسلهم, ولم يجدوا غير الفن ما يأملون أن يتغلبوا من خلاله على ضجرهم اليومي ورتابة حياتهم المُتثائبة ومُقارعة بعض نزوات النفس الإنسانية التي تستويها الصغائر والمُمارسات العبثية الخالية من المعنى فضلاً عن كون الفن بالذات يُعد بالنسبة لمثل هذه الشريحة الاجتماعية وسيلة مضمونة الجانب لكسب ودّ سيدات المجتمع الراقي, كأن ترسم امرأة أرستقراطية أجمل مما هي عليه في الواقع, وحين تضمن أنها أعجبت بالصورة تدعوها بلباقة مدروسة إلى زيارة مرسمك الأنيق لتطلعها على أنواع التحف الفنيّة الرائعة وتُحدثها بلهجة مُهذبة عن اتجاهات الفن المُعاصر, وبعد ذلك تُقدم لها كأساً من الويسكي, ومن ثم السرير الوثير والموسيقى الهادئة والأضواء الخافتة. هذا هو الفن بالنسبة لعبد الواحد الموظف في إحدى الدوائر الزراعية في محافظة نينوى, المُبتلى بزوجة قروية المنبت مدنية المنشأ لا تُجيد شيئاً في حياتها بقدر إجادتها الفائقة في المُطالبة الدائمة بمصروف البيت وقدرتها العجيبة على إنجاب الأبناء, بيد أنه - ولا يدري لماذا بالضبط - يجد الآن راحة نفسية ولذة غامضة في مواصلة الرسم ليل نهار. يرسم برغم التعب والإنهاك فيخامرهُ إحساس بالامتلاء والجدوى حين يرى لوحته تكتمل أمامه كما يكتمل الجنين في الرحم. يقضي الساعات الطوال جامداً على كرسيه الخشبي العتيق غائصاً في عمق اللوحة المُثبتة على مسند الرسم مُستجلياً حقيقة ما يكمن وراء الألوان والسطح البراق والأبعاد الهندسية وقطعة الورق المقوى من حياة هادئة مُتململة في الداخل الشاسع. حياة لها مذاقها الخاص وتفرّدها الذاتي, لا يدري كيف يصفها, ولكنه يستطيع أن يتلمسها برؤوس أصابعه كما يتلمس فاقد البصر وجه حبيبته, فيتوجسها تنبض في داخله. حياة مُمتلئة وزاخرة بالمشاعر والأحاسيس ومُكتظة بالمبادئ والقيم النبيلة. يجلس بهدوء أمام لوحته, لا يفعل شيئاً على الإطلاق. ينظر فحسب. ينظر بخشوع ورهبة وتوحد كما ينظر الوثني إلى آلهته الحجرية. يرنو إلى اللوحة بذهول إمعان غائبين إلى أن تُعيده زوجته إلى صلابة الواقع واعية إياه إلى العشاء, أو مُقدمة له قدح الشاي الأسود الثقيل, فينهض شارد اللب ليتناول ما تسمح شهيته المسدودة دائماً نتيجة الإفراط في التدخين, ثم يستلقي في فراشه يحدّق في السقف مُطارداُ خيالاته الجامحة وراء لوحة جديدة. وما أن يتخلص من الدوام الدائرة, كما يتخلص السجين من زنزانته حتى يعود مُسرعاً إلى البيت لينهمك مُجدداً في العمل الدؤوب والمُثابر. وقبل أن يُنهي اللوحة التي يعمل فيها يكون ذهنه قد أنصرف إلى مواضيع فنيّة أخرى. ثمة لوحات عديدة ومتنوعة تتوالد في رأسه سرعان ما تأخذ طريقها إلى الظهور على شكل لوحات فنيّة. أجنّة حقيقية تتجسد مملوءة بالحياة والانبهار والعمق. كانت مُخيلته الفنيّة مُصابة بذات الأعراض التي أصيب بها رحم زوجته, كلاهما تنجب بإفراط غير طبيعي, فكان يواصل عمله المُجهد بنكران ذات حتى وقت مُتأخر من الليل. ولم يفت من عزيمته أو يحدّ من اندفاعه لوم صاحب المرسم المُتكرر بأن لوحاته الأخيرة لم تعد تستهوي الزبائن, كما أن أسعارها بدأت بالانخفاض, بل أن بعضها ظل مركوناً في المرسم ولم يسأل عنها أحد مُطلقاً, ولكن عبد الواحد كان يتوغل إلى الداخل. كان ماضياً في ارتحاله الصعب بإصرار غريب, فيواصل الرسم باندفاع محموم ورغبة عنيفة كرغبة السكير في مواصلة الشرب بحثاً عن نقطة ارتكاز غائمة ومُبهمة كامنة في الداخل الكثيف قد لا يصلها ولو شرب خمور العالم كلها. في البدء تعثر دوامه في الدائرة, ثم أنعدم خروجه من السقيفة تقريباً إلاّ في أوقات الضرورة, وتحددت علاقاته الاجتماعية على نحو ملحوظ, بيد أنه كان مملوءاً بالوعي والتجلي. يتوهج إبداعاً وعمقاً وتفرداً. ومع أن صاحب المرسم لم يعد يستقبل لوحاته في دكانه إلاّ من باب الكياسة الأخلاقية, ومع أن أحداً لم يعد يهتم بما يرسم, لم يكف هو بالمقابل عن مواصلة الرسم. بل الانغماس في الرسم. وفيما كان مُنهمكاً في رسم اللوحة التالية التي كرّس لها جهده كله ووعيه ووقته أيضاً وصله إنذار رسمي من دائرته يؤكد ضرورة الالتزام بالدوام الرسمي والالتحاق مُباشرةً بمقر وظيفته وإلاّ فستُتخذ بحقه الإجراءات القانونية المُتبعة. كانت زوجته مُنكمشة الملامح, جاحظة العينين, كامدة السحنة, قلقة, تفوح منها رائحة البصل والثوم والسمن النباتي وهي تناوله ورقة الإنذار الوظيفي, بيد أنه هوّن الأمر عليها بعد أن رمى ورقة الإنذار بين قصاصات الورق الكثيرة والملوثة بالأصباغ والمزدحمة بالتخطيطات, المُتناثرة كيفما إتفق على أرضية السقيفة
- بسيطة .. ما أن أنهي هذه اللوحة حتى أذهب إليهم
ولكن هذه اللوحة لم تنتهي بالسرعة التي توقعتها الزوجة. بل لم تنته أبداً إلى أن اختفت في ظل ظروف كابوسيه غامضة. وكانت اللوحة تُمثل رجلاً هزيلاً, ناحلاً, مرعوب النظرات, قسماته حادة, ناتئ عظام الصدر والوجنتين, وقد طوقت عنقه سلسلة حديدية صدئة, فبدا في عُتمة السقيفة كما لو أنه جزء آخر مُضاف إلى مكونات السقيفة الأخرى. مُجرد حاجة بالية ومُهملة. ولكن السقيفة ثمة ناقصة بدون هذا الشكل القاتم, وكلما ساوره اعتقاد بالفرحة المُرتقبة التي توافي الفنان عقب الانتهاء من عمله الفني يكتشف في اللحظة الأخيرة أن اللوحة ما زالت تفتقر إلى عناصر الكمال الكامنة في ذهنه, وهذا يعني البدء من جديد. أي إعادة النظر في عمق اللوحة عموماً وإفراز كل ما يعج برأسه على شكل ألوان وخطوط وظلال ولمسات ورموز, فيواصل بانكباب دائم وجهد استثنائي مُثابر لا يعرف الملل على تطويع ريشته والتوسل بألوانه والحفر بقوّة في صحراء أعماقه الشاسعة ليصب عصارة هذا التعب المُجهد في لوحته المُشاكسة التي ترفض أن تكتمل. وحين وصله الإنذار الثاني يلزمه بالالتحاق بمقر وضيفته وإلاّ فالدائرة ستجد نفسها مضطرة إلى الاستغناء عن خدماته الوظيفية وفقاً للأصول القانونية المُتبعة. دعك ورقة الإنذار بأعصاب متوترة ورماها جانباً ومضى يشتُم كل شيء يقع عليه بصرهُ أو يمرُّ بباله, ولما اعترضت زوجتهُ على هذا التصرّف غير المسئول وعادت على أسلوبها القديم العاج بالعويل واللوم والدموع أعطاها أذناً صماء ومضى يواصل عملهُ في اللوحة مُجسداً قدر الإمكان ملامح الذعر والخوف الغامض وحشرجات النهاية الأليمة في وجه الرجل المصلوب بزرد حديدي أسود. ذلك الشبح المُتأرجح في الظِلال المُعتمة, مُغبرة, خانقة, بيد أن اللوحة كانت تتكامل في داخله بوضوح أكثر من تكاملها على الورق المُقوى, وكان هذا الأمر يؤرقه إلى حد الإعياء, وحتى حين يكون مستلقياً في فراشه, أو مُسترخياً في دفء إغماضة عين طارئة فإن سرعان ما يهبّ فزعاً, يرشح العرق الغزير من جسدهُ, جاف الحلق, مُتحسساً عنقه بأصابع مُتخشبة كأعواد الخشب, ومُجيلاً فيما حولهُ بصراً زائغاً وهلعاً كأنما ليتأكد من أنه ما زال على قيد الحياة, فيبل ريقه بحفنة ماء من الحنفيّة مباشرةً ثم ينسلُّ على رؤوس أصابعه ليتسلق السلم الخشبي بحذر إلى السقيفة لأن إحساساً غامضاً يتلبسه بأن اللوحة سُرقت أو اختفت على نحو ما, وما أن يراها مُتكئة على مسندها الخشبي حتى يجلس أمامها على الكرسي العتيق ويُديم النظر فيها طويلاً, وغالباً ما تستيقظ زوجته من نومها فلا تجده إلى جانبها على السرير, وحين تصعد إلى (الطابق الثاني) إما تجده مُنهمكاً في العمل حد الاستغراق وقد ملأ الأرضية بأعقاب السيكائر, وإما تجده مُكوماً على الكرسي يزرع بصره كالمأخوذ في اللوحة, كأنه تمثال من الحجر, لا حياة فيه على الإطلاق, ذاهل, يرتحل وراء حلم بعيد وغامض, وغالباً ما تجده مُحتضناً مسند الكرسي وقد غلبه النُعاس فيما تكون فرشاة الرسم قد سقطت على بيجامته المُقلمة فلوثتها, أما سيكارته فتكون قد انطفأت بين شفتيه المُتهدلتين. أشعث شعر الرأس, نامي اللحية, حافي القدمين, مُتعب, مثل مُتشرد سكير وبائس التجأ إحدى الخرائب ليقضي بها ليلته قبل أن يواصل تشردهُ من جديد. وكانت بطبيعة الحال تجد صعوبة في تفسير هذه الحالة المؤلمة التي وصل إليها زوجها, بل وتجد نفسها عاجزة عن فهم هذا الولع المحموم في هذه اللوحة بالذات, فتقف مُتصالبة حذاء باب السقيفة, مُستغرقة في تأمل اللوحة المُستلقية على المسند فلا تجد ما يُميزها عما سبقها من لوحات. بل أن هناك ماهو أفضل منها بكثير, فلماذا هذه اللوحة بالذات يعتكف عليها هذا الاعتكاف القاتل ؟ وقد حاولت أكثر من مرّة أن تُلفت نظره أن ما يفعله هو مُجرد لوحة لا أكثر, كأية لوحة أخرى عملها هو أو عملها غيره, ولكنه كالمُعتاد لم يكن يسمع شيئاً, بل لم يكن موجوداً معها على الإطلاق, فلم تجد أمامها سوى الإقلاع عن الحديث معه لقناعتها الكاملة بأن زوجها أجتاز منطقة انعدام الوزن الكائنة بين العالم الواقعي وعالمهُ الخاص. كان مُجرد هاجس ملتاع يتسرب في لوحة مُعتمة ترفض أن تكتمل, فلم تجد مناصاً من أن تُرغم أبنها البكر على ترك المدرسة والانخراط في عمل يدوي يوفر لهم مصروف البيت اليومي, إذ أن الراتب قد حُجب عنهم مُنذ انقطاع عبد الواحد عن وظيفته وفقاً للأصول القانونية المُتبعة, وكذلك مُكافأة صاحب المرسم قُطعت, وكلما وجدت نفسها في ضائقة مالية التجأت إلى عهود الرخاء السابقة لتبحث فيما تستطيع أن تبيعه ولو بنصف سعره في سوق الحاجيات المُستعملة, على أمل أن يثوب زوجها إلى رشده بعد أن يكمل هذه اللوحة المشئومة, ولكن اللوحة لم تكتمل, وليس هناك أي أمل أن بأنها ستكتمل عما قريب. الأمور إجمالاً بدأت تأخذ مساراً مثبطاً للهمّة ومُخيباً للآمال. زوجها أقلع عن الأكل تقريباً. كان يجتر حياته في لوحة مُتوحشة برتابة وذهول واستغراق. لا يتناول- من باب سد الرمق- أكثر من أقداح الشاي الأسود ورضع أعقاب السيكائر التي يُدخنها بشراهة تدعو إلى العجب, وبات ينسى نفسهُ لساعات طوال غارقاً في تأملاته القاتمة, غائباً, يرتحل وراء طيف نرجسي شفاف ومُخادع, مملوء حد التخمة الفاجعة بالصمت والغياب والغوص المُميت إلى الداخل الموحش, غائر العينين, أشعث شعر الرأس, ناتئ عظام الصدر والوجنتين, هزيل البُنية, مثل أي إنسان آخر في مثل حساسيته المروعة ووعيه الحاد الذي غزاه على حين غرّة فأكتشف بألم إنما كان يعي- و لازال- على هامش أكذوبة سمجة, لا معنى لها على الإطلاق. وها هي الهوّة الأسطورية المُظلمة تفتح أشداقها المُرعبة في ذهنه المُشوش, فمضى طائعاً- كمن يسير في نومه- يواصل انحداره البائس نحو نهايته المُرتقبة. نهايته القادمة في لوحة مكفهرّة.
وحين استيقظت زوجته من نومها, كان الفجر يتحرش بجرأة بما تبقى من عتمة الغرفة, ويندس باهتاً من النافذة الشرقية, لم تُفاجأ بعدم وجود زوجها إلى جانها على السرير. تمطت مُتثائبة ثم عدلت خصلات شعرها المُتشابكة بيدها ثم نهضت مُتكاسلة. حشرت قدميها بنعلين من الأسفنج الرخيص وتسلقت السلم الخشبي إلى الطابق الثاني. كان باب السقيفة مفتوحاً, وداخلها مغمور بضوء رصاصي شفاف, وكان مسند اللوحة خالياً من اللوحة. اختفت في مكانٍ ما. وكان الكرسي الخشبي العتيق مقلوباً ومقذوفاً إلى زاوية السقيفة, ولما رفعت بصرها الذي ما زال يُثقله النُعاس إنحبست الدهشة في صدرها فشهقت بهلع وكتمت فمها بيدها على نحو لا إرادي. تراجعت إلى الوراء مذعورة, غير مُصدقة نظرها الذي امتلأ حد الجنون الفاجع بصورة رجل هزيل البُنية, شاحب الوجه, أشعث شعر الرأس, ناتئ عظام الصدر والوجنتين, لا يستر جسده سوى سروال بيجامة عتيق وملوث بالأصباغ الزيتية, يتدلى باستكانة حذاء جدار السقيفة المُتصدع, كبندول ساعة عاطلة, يطوق عنقه زرد حديدي أسود, يتدلى من السقف الملوث بالرماد والغبار وبيوت العنكبوت وثقوب الحشرات. جسد مزرق وبارد كما لو أنه وجِد في هذا المكان وعلى هذه الصورة مُنذ آلاف السنين. جسد عامر بالهدوء والسكينة والاطمئنان الجميل ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى