مصطفى نصر - الوحش..

انشغلتْ محافظة الإسكندرية بانتخابات مجلس الشعب عن دائرة كرموز، فقد تقدم إليها ممدوح سالم - رئيس وزراء مصر عن الفئات في مواجهة صحفي بمكتب جريدة الجمهورية بالإسكندرية اسمه جبريل محمد.
وتقدم للإنتخابات عن العمال أحمد عوض الشهير بكبارة، أمام أبو العز الحريري.
يقولون أن ممدوح سالم اختار هذه الدائرة بالذات لإنه ولد بها، ويقول البعض لأنه عمل ضابطا في قسم شرطة كرموز في أول حياته البوليسية.
تقام السرادقات في شارع راغب باشا – الكبير الذي يفصل حي كرموز عن حي محرم بك – وتأتي القيادات كلها لمعاونة ممدوح سالم.
وانشغلت أجهزة المحافظة – أيضا – بذلك الرجل الممتلئ الطويل الذي يلتصق في كل مرة بممدوح سالم ويصيح مصفقا بيديه الكبيرتين:
- حلو يا وحش.
فيغطي صوته وصوت تصفيقه على كل الأصوات، فتتابعه الجماهير وترد على ندائه:
- حلو يا وحش.
أول الأمر ظنوه آتيا من قبل المعارضة لإفساد الحملة الانتخابية لممدوح سالم؛ خاصة أن الدعاية للمرشح المعارض – عن العمال - في هذه المرة زادت عن الحد، فهو شاب صغير مستقل، له أتباع ومحبون ومعجبون كلهم من الشباب الصغير، يدخلون السرادق المعد للدعاية والمفتوح من الناحيتين ويصيحون ساخرين: شاخورة، شاخورة.
وذلك لأن ممدوح سالم أفتتح -- بمناسبة ترشيحه في الحي الفقير - أكثر من فرع للمحلات العامة التي تبيع الملابس والأحذية المدعمة، وأكثر من مجمع استهلاكي يبيع السلع الغذائية المدعمة؛ خاصة سمك الشاخورة المجمد الذي يستوردونه من روسيا ويباع بقروش قليلة، وكانوا – قبل ذلك – يحصلون عليه بشق الأنفس، ويأتي إلى المجمعات الاستهلاكية بالصدفة.
ويهتف أنصار ذلك المرشح الشاب ضد الحكومة بطريقة لم تحدث طوال حكومة الثورة.
وكانت نتيجة بحث الأجهزة المعنية بالمحافظة الآتي:
1 – إن ذلك الرجل يعمل مساعد كومنده في شركة الغزل، ويسكن جبل ناعسة المشهور بتجارة المخدرات، واسمه " عمر بتاع العوالم "، وذلك اللقب ليس مدونا – بالطبع – في سجلات الشركة، إنما اكتسبه من عمله مساءً كصاحب فرقة عوالم تحيي أفراح العاملين في الشركة والحي الذي يسكنه.
2 – إن شقيقه يعمل في تجارة المخدرات وقبض عليه أكثر من مرة.
3 – قبل الإعلان عن هذه الانتخابات؛ كان مشغولا بإقامة الحفلات، سعى إليها بحماس شديد ولم تمر ليلة دون أن يكون مشغولا فيها بإقامة حفل. لكنه يرفض الآن كل العروض المقدمة إليه؛ خاصة أنه لم يجد من يحل محله في الإشراف على هذه الحفلات.
يسأل عمر كل ليلة عن برنامج الدعاية وعن المكان الذي سيقام فيه سرادق الإعلان ليذهب ويقوم باللازم، فيندس وسط الجماهير ويسير مع المفوضين من شركة الغزل لعمل الدعاية. وعند زيارة ممدوح سالم للشركة لم يهتم برؤسائه ولا برئيس الشركة نفسه؛ وأسرع إلى ممدوح سالم، سار بجواره وهتف له هتافه المفضل:
- حلو يا وحش.
تم عرض أمر عمر على الأجهزة المعنية بالدعاية لرئيس الوزراء، هل يمكن الاعتماد عليه مثل غيره من العاملين في شركة الغزل، أم لا؟
رأى البعض أنه يمكن الاستفادة منه، خاصة أنه يعمل في شركة الغزل التي لعبت دورا مهما في الانتخابات في حي كرموز حتي قبل قيام ثورة يوليو 52، فالعاملون فيها يسكنون الحي نفسه، ويمثلون النسبة العظمى من سكانه، لو أتفق العاملون فيها على مرشح محدد؛ سيكسب بلا شك، كما أنه يسكن جبل ناعسة وهو جزء من حي كرموز ومزدحم بالمقاهي التي يأتي روادها من كل مكان في كرموز، كما أن عمله في العوالم جعل له معارف كثيرين في الحي.
لكن الرأي الغالب هو رفض هذه الفكرة بسبب عمله في العوالم، وعمل شقيقه في تجارة المخدرات، فمن الممكن أن يتخذه المعارضون مادة للنيل من ممدوح سالم.
**
في ذلك اليوم الموعود جلس عمر وسط عمال الشركة المفوضين لعمل الدعاية، لم يتحدث مع أحد، فكر في نتيجة عمله هذا، إنه يخسر كل ليلة، لقد ضحى بالمال الذي يأتيه من إقامة الحفلات- أجرة أصحاب الحفل، والنقطة التي تأتيه من المدعوين - ولم يتضح شيء للآن. لم يكتب اسمه ضمن المفوضين من الشركة لعمل الدعاية؛ رغم احتضانه لممدوح سالم عندما زار الشركة، بل لم يحس به رئيس الشركة، ولم يشد على يده معجبا بما يفعل - كما كان يظن- كل ما يريده أن تعينه الشركة كومنده، أو يعطوه مسرح الشركة لإقامة الحفلات بدلا من غلقه دون فائدة، أو حتي يعطونه مبلغا كبيرا من المال يساعده على المعيشة.
وعندما اقترب موكب رئيس الوزراء أسرع عمر – ككل مرة – واقترب منه، كتفه ملاصقا لكتفه، وقد كان في نفس طوله تقريبا ومرتديا ملابس أنيقة فبدا كأنه أحد المسئولين. وصفق بيديه الكبيرتين وصاح:
- حلو يا وحش.
فتوقف ممدوح سالم عن القول وأبدى ضيقه مما يحدث. فأسرع المسئولون بالتقاط الاحساس وارساله إلى رجالهم. وصفق عمر وصاح فضحك زملاؤه من تصرفاته أحس الضباط أن الأمر زاد عن حده ولابد من التدخل، فتوقف أحدهم - وكان يرتدي بذلة مدنية - وسار حتى وصل إليه، فربت ظهره وقال مبتسما حتى لا يثير من حوله:
- اخرج يا وحش من الزحام بدون دوشة.
يعرف عمر أنهم قادرون على إيذائه وأنه لابد أن يطيعهم فخرج والضابط خلفه والكل منشغل عنهما حتى زملاؤه لم يلحظوا ما حدث.
ابتعد هو والضابط عن الحشد، صاح عمر:
- ماذا فعلت ياباشا؟
كان أحد الضباط الأقل رتبة يقف منتظرا:
- تفضل معي.
- إلى أين ياباشا؟
سار عمر والضابط خلفه، وتبعه بعض الجنود، كان البوكس فورد ينتظره بعيدا، دفعوه إليه، فركبه صاغرا واحاطوا به، وسار البوكس فورد وقبل الدخول في شارع 12 - وهو يؤدي إلى قسم شرطة كرموز - صاح الضابط:
- إلى أين تريد الذهاب، مديرية الأمن، أم قسم كرموز؟
- ياباشا، أنا أحيي رجلكم، أريد أن أشرفكم ليحس بأن الإسكندرية تحبه وتريده.
- ليس هناك فصال، ما الذي تختاره؟
قال في أسى:
- إن كان ولابد، أفضل قسم كرموز فهو أقرب.
ودخلت السيارة شارع 12، وقبل أن تصل إلى مقلة لب في أوله صاح عمر لصاحبها:
- جورج ، جورج، أنا عمر.
توقف السائق بأمر الضابط الذي يجاوره:
- أنا عمر بتاع العوالم ، أرسل إلى زوجتي أخبرها بأنني محجوز في قسم كرموز.
هاجم الابتسام وجه الضابط فحاول ابعاده، لكن الباقين ضحكوا، وانتبه صاحب المقلة إليه، وتأكد من منظره، فعرفه فهو وزوجته من زبائنه.
**
لكزه الضابط في صدره:
- رئيس وزراء قد الدنيا وتقول له: حلو يا وحش؟!
- لم أكن أعلم أنها كلمة سيئة.
بعد ساعات قليلة، وكان الفجر قد اقترب جاءت زوجته إلى قسم الشرطة ومعها أولادها، دخلوا صالة القسم الكبيرة، ثم حجرة الضابط المسئول، بكت المرأة وبكى الأطفال، قالت:
- هو مدب يا باشا ولا يفهم، لكنه لا يقصد الإساءة.
وانصرف عمر مع زوجته وأولاده بعد أن أقسم أمام الضابط بأن يبتعد كلية عن عملية الانتخابات ولو رأى زفة ممدوح سالم آتية من شارع؛ سيسرع بالدخول في شارع آخر وكفاه ما حدث.
في العودة فكر في آخر حفل عرض عليه ورفضه، لابد أن يسرع إلى أصحابه يلحقهم، قبل أن يأتوا بصاحب فرقة عوالم آخر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى