أحمد جنتي - "طريق الجبل".. مشروع روائي يحتفي بشخصيات ووقائع من ذاكرة غفساي.. تقديم

- عبد الله البقالي يفجر الجبل

قلم ... اوراق .. وبينهما مسافات طويلة تمتدد تحت طبقاتها , جينيالوجيا آحداث مؤلمة تلك الاحداث التي تناسلت منذ ان اطلت علينا اول فيالق الغجر وصعدوا الجبل." لاصطراس " الذي دآبنا على تسميته "راص راص"... هناك سيولد عالم خرافي... ومعه سيولد تاريخ جديد ينشر ظلاله ليس على الجبل وحده, بل على كل هذا العالم المشيئ .لا, بل كل الوطن ..وليس الوطن بل الذاكرة والهوية...طلاسم هذا العالم الخرافي الذي اختلطت فيه :كل نزوات العدوان والرغبة في القتل ... والتحرير ... والتملك .... والانعتاق .... كان عالما كسر رتابة الزمن الممتد من زمن " سيدنا ابراهيم... وآل سيدنا ابراهيم ".. جزئيات هذا العالم لم يستطع ان ينشد اليها وعي اجيال مرت من هنا... ..لكن عبد الله البقالي سيتمرد على جيله .ليلتحم بخرافية هذا العالم المرعب ...بل سيتمرد حتى على نفسه. فلم يسمح لها بالانسلاخ المجاني نحو نمطية الان ...ليبقى مرتبطا بهذا الزمن الموحش..الذي اجتاحه ..الى درجة الهوس ...هذا الجبل المخيف .الذي استوطنه منذ الطفولة ... حتى آن المسافة بين الطفولة واليوم , اثمرت عن رغبة جارفة في جوف كاتبنا عبد الله فتحولت الى حلم اعادة رسمه او تشكيله .. ..فتحول عبد الله بدوره الى ذاكرة/ عالم رهيب من الاحداث والعبر ...والذكريات الموغلة في التاصيل ...التي يمتزج فيها العام والخاص ..نتيجة مشاحنة تاريخية بين سطوة الدخيل ومجابهة الاصيل .
عبد الله قرر ان يجرد قلمه من غمده وشرع يعزل به جزئيات هذا التاريخ كما كانت امي تعزل حبيبات العقيق حسب الوانها في صحن قصديري ابيض.فوق فخذيها....
من خلال عمله الادبي الرائع " طريق الجبل " تنبثق ذاكرة حية في قالب حكائي مبهر ومحير بكل دفقه وانسيابه الهادئ بين كلمات منتقاة ببالغ الدقة وربط للاحداث ينم عن صنعة ادبية ليست بدائية ....بل واساليب في السرد نفقد معها الشعور ونحن ننتقل من وصف عالم الغجر الخارجي لنغوص بهدوء في تفاصيل المشاعر الانسانية المتدفقة الجامحة احيانا المجروحة في النهاية " لعمي لحسن " ترتيتن " هذا الشخص الذي منذ ان فتحنا اعيننا وجدناه رجلا مسنا بشوشا ورائعا لا زال الى اليوم يؤثث بعض زوايا ذاكرتنا بابتسامته ..عرفناه ,وهو لم يعد له ما يعانقه سوى فقره ,بعد ان حاول معانقة احلام اكبر منه حين قرر ان يمد اول خطواته باتجاه " الجبل اللعين " هناك ومن عمق مشاعر عمي لحسن المتآرجحة بين الشعور بالسمو الانعتاق... وتحرير الانا من بؤسة التاريخي المزمن ... على امواج نشوة الخمرة المعتقة والاحباط المذل , تظهر عبقرية الحكي المتداخل القادر على توليفة تجتمع فيها كل صور الخيال الذي لا يسمح له بالتجول الا داخل وواقعية عالم " الجبل " و مع يسر الترحال من ظاهرالاحداث وووصف تفاصيل الوجوه الى المنولوج الذي يتوالد كااسراب نحل متدفق , هائج ... رغما عنه وبارادة الكاتب , في اعماق عمي لحسن..ذلك المنولوج الذي يبيح
له قول كل مالم يقال؟ ويفتح امامه الممكن الذي تخونه كل الممكنات ... وبذر اسئلة ,كل محاولة للاجابة عنها , تتوسل عقلا ثملا , بجرعات زائدة من العقلانية , التي لا ترفض اللعب بشراكة مع جموح الخيال المحدود بواقعية الحكي...
يجسد عمي لحسن الحكي/ الطموح الفردي.. والاحباط الجماعي في تحقيق الظفر بنشوة الانتصار في عقر عالم الغجر المفطور على الحقد التاريخي..الذي يقف كممانعة ابدية ومنطقية بل وجودية بين الامنيات الجامحة في صدر عمي لحسن ومن خلفه كل من حاول التخلي عن خيار المقاومة . ومحاولة الانسلاخ التاريخية عن الهوية وان ـــ تتحق بعض اللذة ـــ زمنا فهي لا تنجح تاريخا , كما يقر على طول حكايته...
اثناء رحلتنا التي فتحها لنا عبد الله على طول " الطريق للجبل " لا نكتشف عالم الاخر فحسب, بل نكتشف عالمين وتاريخين وهويتين وبينهما برزخ لا ينصهران..... ظلت تصنعه المقاومة الرائعة الموؤودة .... وهي التي ظلت تمنعهما كي لا يتلاقحان ....
لا يمكن لاي كلمة ان تقرب القارئ من عمق الاحداث ..وتموجات المشاعر وضراوة الاحزان, سوى الرحلة بين السطور التي نثرها الكاتب نثرا جميلا يجمع بين لذة الحكاية وجمالية العبارة , جعلته " يفجر هذا الجبل بكل اسراره تفجيرا روائيا جميلا ...فلكم الجزء الاول من الرواية:.. ".وللحكاية بقية"
رواية الاستاذ الكاتب عبد الله البقالي :
طريق الجبل. مشروع روائي يحتفي بشخصيات ووقائع من ذاكرة غفساي
طريق الجبل
الفصل الاول :
وهو يقطع ذلك الطريق الجبلي الوعر في تلك الظلمة الدامسة، كان يلعن كل التاريخ الذي عاشه. وقواه المشحونة بالنقمة و الغضب، كانت تفتح خطواته لأقاصيها لتمر الأرض تحت رجليه سراعا لحد كان يتساءل معه ما إن كان حقا يمشي أم يطير.
ما كان ممكنا في ذلك الليل الشتوي ان يسمع غير صفير الريح وهو يتحدى نفسه باحثا عن نهاية للمدى. لكنه بخلاف ذلك لم يكن يلتقط غير أصداء ذلك المشهد الذي لم يمل من تكرار نفسه، للحد الذي كانت تتناهى اليه كل الصرخات و القهقهات الماجنة التي تنبعث من حانة “لاسطراص”. و الوجوه ظلت ماثلة لعينيه و لم يكن بمستطاعه ان يرى غيرها ، بل وان يرى فيها تفاصيل و جزئيات لم يكن قد انتبه اليها من قبل. لكن ذلك لم يكن مهما بقدر ماكان الاهم هو ان يعرف سر تقلبها عنه في تلك الامسية. و لا لم نظرت إليه بتلك الغرابة المليئة بالحقد، ليتجمع حوله كل رواد الحانة من الجيش الفرنسي. ويعاملونه معاملة قرد شق طريقا خطا، ليجد نفسه وسط حشود أدهشها شكله، و صنعت الهمجية غرابة تعاملها معه.
في كل السنين المتوارية لم ير الحياة غير بساط محدودة الأفق، و لكون الاشياء محكومة ببداية و نهاية، فلا يمكن ان يكون المطلب الذي يستحق الحرص عليه لمن سيقطع مساحتها أكثر من ان تعاش بدون عقبات و بلا عناء. ومادام تلك هي الغاية، فلا شئ غيرها يستحق الاعتبار.
حين حل الفرنسيون بالقرية اول مرة، كان من القلائل الذين لم يفروا الى الجبال او يلوذوا بالكهوف. بل ذهب الى حيث استقروا مستطلعا أولئك القادمين. وليعي بعد ذلك أن المسافة التي قطعها في ذلك الصباح من بيته الى المكان الذي سيصبح ثكنة، كانت بطول اختراق عصر لعصر. و ان العودة من حيث اتى كانت مستحيلة.
مع القادمين عاش كل ما يمكن ان يجعل بساط عمره ربيعا لا يذبل. لم يكونوا كلهم فرنسيون. و الاهم أنهم لم يكونوا كلهم رجالا.
في ذلك العالم الذي خبت فيه الأصوات القديمة، امتد عالم اخر وجد فيه أشياء كثيرة متجاوبة مع تطلعات فحل وضع خطواته الاولى على مسار الرجولة.هناك عاش النشوة الاولى لسائل سمع عنه كثيرا، لكنه لم يجربه من قبل. و حين تذوقه، عشق الرجس.
كان يفرغ الكاس في جوفه الذي كان يتحول إلى شاشة تبيح له تتبع كل ما يحدث بعد ذلك. يراه ينحدر و ينحدر. وحين يصل الى القعر الذي ما بعده عمق، كان يشعر بانشطار قوي تتولد عنه طاقة عجيبة. وحرارة مختلفة تنطلق من المركز الى اقصى قطر من احشائه. و لتتجه صعودا في رحلة معاكسة بعد ان تكون قد ارسلت ما يكفي من الاشارات الى دماغه الذي يستيقظ فجاة من سباته. مستنفرا كل الخلايا من اجل استقبال هذا التأثير الساحر الذي يستسلم له طواعية. بل بخنوع و تودد، مطالبا بالمزيد من الدفعات المنعشة. لينتشي للحد الذي يدوس فيه كل القواعد التي اعتمدها من قبل. و يشطب كل متابعاته و تصنيفاته. وتتلاشى كل الترتيبات التي شيدها من قبل. تتفسخ العقد. و تنهار الاسوار الدفاعية التي كانت نفسه تتحصن خلفها، لتعمد الى ان تكون اول ما تقع عليه العين حين ينظر اليه. و لتصبح اول من يعكس الاصداء التي تتناهى اليها. و انذاك فقط كان ينتابه احساس حقيقي. إحساس أنه فعلا بدا يعيش.
ينظر حواليه في لحظة لا سيادة فيها لغير الاحساس بالانتشاء، و يكتشف ان ليس اروع في حالة كتلك من ان تلتقط مسامعه صوتا انثويا مليئا بالاغراء و الرغبة. و تجلس صاحبته مجاورة له. و انه يستطيع ان يترك لتفاعلاته أن تمضي الى نهايتها دون ان تطالعه نظرة مستفهمة أو اخرى مستنكرة. ودون ان يكون لمختلف اشكال الرقابة داخلية او خارجية أي وجود. و حين كان ينظر في عينيها، تموت كل الأبجديات بعد ان يدرك أن الكلام الصادر عبر الصوت هو احط انواع اللغات التي يبتغيها الانسان جسرا للتواصل.
يتضاعف الاحساس بالنشوة للحد الذي يتساءل معه ما ان كان قد امتص كل الطاقة المنثورة في الكون، و لذلك يراه ينكمش و يضيق. ام أنه شحن بقوى كل المردة الذين عبروا التاريخ، و لذلك صار بإمكانه قطع أقاصيه في رمشة عين بفتحة من ذراعيه. وساعتئذ كان يعي أنه إن كفر بالشيطان يوما، ففقط لأنه بسط معالم تحد لا يمكن كسره. و انه فتح أفاقا للمتعة من المستحيل بلوغ نهاياتها. لكن هل عدم بلوغ تلك النهاية هو شعور يمكن ان يولد الإحساس بالتعاسة؟ و هل الزهاد و النساك الذين نبذوا الحياة و المتعة و ضاقوا ذرعا بأضواء الدنيا، إنما فعلوا ذلك من اجل إثبات أن الحياة لم تستطع ان تسلبهم سلطاتهم على ذواتهم، ام انهم رفضوا ان يحشروا في اشواط بلا نهاية و لا نتيجة غير أن يبقوا عبيدا للمتعة؟ .. و إن كان يستطيع ان يفهم موقف الزاهدين و النساك، فكيف يفهم موقف أولئك الذين لم يبلغوا شيئا في الحياة و لاذوا بالجبال مع اسلحتهم العتيقة وهم يمنون انفسهم بغد قد لا ياتي ابدا. و يقضون أعمارهم تحت رحمة العراء و الجوع؟
لحظات الصفو تلك لم تكن لتدم طويلا. بل لم تكن تستغرق أكثر من الوقت الفاصل بين لحظات استيقاظه و مغادرته للفراش وهو يستعد لركوب موجات الزمن السريع الذي يبدا ساعة توجهه الى الحانة.. و على طول المسار الفاصل بين سفح الربوة و قمتها كان يستشعر البؤس المنتثور حواليه و الذي يشهد على ان ساحرا قد سلب الدنيا مفاعلاتها. وبين هول الفارق بين الحالتين، جعل حياته سجلا دونت فيه نساء قادمات من شتى ربوع العالم أسماءهن ، و قصن شرائط من اعمارهن ووضعنها على ضفاف عمر رجل عشق المتعة ، و أنفق بسخاء من اجل ا لا يكون مسار عمره وحيد اللون. غير انه في تلك الامسية رأى زينب.
في كل حكاياته السابقة التي استرعت احداهن انتباهه، كان يعمل على الحصول عليها بطريقته. ولم يحدث ان تشابهت طرقه. في كل مرة كان يسلك واحدة مختلفة عن السابقة مؤكدا بصماته الابداعية في لفت الانتباه. و في اللحظات التي واجه فيها صعوبات، كان يدرك على الفور ان معشوقته لا يمكن ان تترك ضابطا ساميا وتتجاوب مع رجل مدني من الاهالي لا يستطيع أبدا أن يحميها من شطط عاشقها و من معلمتها المتسلطة. و لان الامر كان كذلك، و لانه لا يدين لاحد غير اهواء عشقه، فلم يكن يرضى ان يرتفع في الحانة علم غير علمه. و ضحكته المشهورة كانت تعلن قبل ارتجاله لكلماته أن السهرة في تلك الامسية ستكون مجانية إلى النهاية. و انه بعد ذلك سيدس اوراقا نقدية مهمة في جيب ذلك الذي لا يقوى على انتزاع منه معشوقته بغير تلك الطريقة. غير ان الامر اختلف كليا حين راى زينب.
حين ألقى نظرة استطلاعية على من حوله في الحانة تلك الامسية، لم يمض الى النهاية في استعراضه. وكمثل من رصد امرا خطيرا، استدار بكل انتباهه و راح يحدق في تلك القادمة الجديدة.
شعر أن ثمالة السنين تبارحه. وقلبه يخفق بشكل مغاير. دماؤه تفور. و عرق يتدفق عبر المسام. كانت زينب. الفتاة التي يجزم انها تركت الصبا على بعد خطوات قليلة من بوابة الحانة. في ملامحها قرأ كل حكايات البراءة التي روتها جدته في اماسي الشتاء البعيدة. الحكايات التي عشق كائناتها العجيبة و التي حفرت في وجدانه ألقا و تطلعا و أملا في أن تضعه الصدف السعيدة في قلب واحدة من تلك الحكايات الحالمة.
في كل خيالاته و احلامه كان يرسم مشاوير لحكاية لم تخلق بعد. ومن اجل ان يكون قادرا على التحليق في سماء الاحلام كان يقدر حجم الثقل الذي يجب ان يتخلص منه ليليق بكائن نوراني قادم من مجرة الاحلام. التهذيب الذي يجب ان يطال نظراته. الحشرجة التي يجب ان تنزاج عن نبرات صوته ليصبح هامسا ككلام الاحلام الجميلة. المكر الذي يجب أن يموت في ابتسامته. الغلظة التي تفصح عنها تفاعلاته المشكلة من توقده الداخلي الذي يغذي حركاته و يرسم ملامحه. الثبات الكلي لقلبه الذي بجب أن يتخذ حجم عقيدة . واخيرا الولاء الكلي لحياة لا يمكن ان تبدع غير الرقة و الجمال.
يستدير ليجد نفسه مطوقا بوضع مستحيل. لكن ترتفع في عينيه بقايا رغبة في المقاومة و يسال نفسه: هل مازالت هناك ثمة امكانية في ان يكنس كل ذلك الحجم الهائل من الطمي الذي تكدس فوق روحه ليستعيد كنهه الخالص الذي تاه عنه؟ وهل بإمكان الطهرانية أن تشق طريثقا صوبه وهو الذي في كل خطوة خطاها من الصبا إنما كان يبتعد و يفر منها؟
شعر ان الثقل الذي يرزح تحت وطأته يزداد اكثر فاكثر. و انتابه اليقين في أنه خلق لشئ آخر غير ان يكون الانسان الذي يعيش في وئام و انسجام تام داخل حياة تؤطرها الأحلام.
طلب كأسا جديدا. و حين هم بتجرعها باغته سؤال لم يتوقعه: هل ذاك الذي كان متسكعا وانتهى به الامر حمالا في ميناء مرسيليا و الذي تجالسه الآن هو اقرب أليها من حلمه الطفولي؟
رفع رأسه ليطالعه البدر الذي خصه لوحده بكل ضيائه. و ليتاكد من انه لم ير وجها من قبل بذلك الصفاء ولا كان لديه يقين بأن هناك عيون مغناطيسية تحرر الاجساد من ثقلها و تسحبها في فضاء لا معنى فيه للمعالم.
أشرقت بسمتها و نظر حواليه ليتأكد من أنها له وحده، و ليشعر بعدها أن حجمه يتضاعف ليصير في ارتفاع جبل شاهق يمكنه من ان يطرد الكلف الذي يعكر صفو بدره.
في أوج المد المشكل من انبهاره انتزعته يد ثقيلة حطت على كتفه و هزته بعنف. و صوت خشن بعد ذلك يسحبه من توحده و انسجامه الروحاني قائلا: إن أردت الحصول عليها فانت تعرف جيدا ما الذي يجب القيام به. لكن الثمن هذه المرة باهض جدا.
لم ترتفع قهقهته الماجنة كما كان يحدث دوما إيذانا بقبول المقايضة. تريث طويلا قبل أن يجب: صدقت. الوضع مختلف هذه المرة. لكن اكبر إهانة يمكن ان ألحقها بمعشوقتي هي ان احصل عليها بمقابل مادي.
انذعر الجندي الفرنسي من الجواب وعقب: لن تلحقها في هذه الحالة،لاني ببساطة ساكون قد ازهقت روحك.
لا يذكر كيف وجد نفسه ملقيا على الأرض و الأرجل ترفسه في جو احتفالي اختلطت فيه صرخاته بقهقهات رواد الحانة الذين وجدوا المشهد مسليا و رائقا، و ليتصاعد ايقاعه على قدر الاذى الذي كانوا يلحقونه به. غير ان الاجواء هدات فجاة. وقد اتاح له التوقف من ان يستعيد بعض قواه و يلقي نظرة على حاله. وعند الابوابة رأى ضابطا فرنسيا يقف متاملا المشهد.
حبا إلى البوابة، وتشبث بالجدار وهو يحاول الوقوف. ثم اشتكى للضابط لما أصابه من جنوده. فرد عليه قائلا: لا اجد ما يستدعيني للتدخل في هذا الامر. فأنتم كما انت، عراة و همج من غيرنا.
لم يحاول ان يتلافى الضربات بعد ان استانفت الحفلة. كان يشعر أن في كل لكمة يتلقاها و في كل قبضة تنهال على وجهه أو على بطنه أنها تسقط الكثير من الطمي المترسب فوق روحه. و ان تلك هي الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها ان يستعيد طهرانيته.
كان قد وصل الى معسكر رجالات المقاومة في اعلى الجبل. وحين خطا خطوته الاولى داخله، تناهى إليه السؤال: هل يوازي الوطن لدى هؤلاء سحر و قدسية زينب؟
طريق الجبل : الفصل الثاني:
امتثل للتوجيهات، و حجز مقعدا في حافلة" الغزاوي" و تفادى حافلة "السقاط" التي يتهم طاقمها بالتخابر مع القوة الاستعمارية. و حين استوى في مقعده، ظل يتابع حركات "موسى" مراقب تأشيرات السفر. وحين وقعت عليه عيناه، قال له: بت أكثر جشعا. ولم يعد مبغى"زينب" يملأ عيونك.
ضحك و عقب: سئمت من النسخ، و أرغب في التعرف على المصنع.
قال موسى محذرا: كن فطنا، فقد تعود لى هنا سيرا على الأقدام.
انفجر ضاحكا و قال: لا شئ أروع من التسكع في دروب الغرام.
حين وصل إلى غابات أعالي "ودكة" ظل الحراس ينظرون إليه غير مصدقين عيونهم من أنه هو و ليس شخصا آخر. و هرول أحدهم لإخبار قائد الموقع. دق الباب بعنف و استعجال، متاكدا تماما من أن الخبر الذي يحمله، يشفع له فعل ذلك. الزعيم لم يصدق ما سمعه. و حين تأكد من الأمر، أمر بإيقاظ كل رجالات المعسكر. و حين اصطفوا في الساحة . أمر بإظهار الوافد الجديد. و بعدها قال مخاطبا الجمع: لا يحتاج الأمر إلى تأكيد من أننا على أبواب النصر النهائي، كيف لا ونحن الآن محاطين بدعوات الملائكة و الشياطين على السواء.
ضج المعسكر بضحكات و قهقهات المقاتلين. تنحنح القائد و عاد الانضباط للصفوف، ثم استدار موجها الكلام للوافد الجديد: أنت هنا لن تنفع لشئ. فعمر المجون الذي عشته هناك، لا يؤهلك لتحمل المشاق. فلست بالرجل الذي يستطيع البيت في العراء، و لا القادر على تحمل الجوع و العطش و لا حمل الأثقال و التحرك بين جفون الموت...
أحس أن لعنة التموقع تلاحقه أينما حل و ارتحل. تمركز في ساحات التطهر و العفة، فرأى الاحتفاء الحقيقي بالحياة كامن في البقاع التي تصنف مدنسة. حرر نفسه من كل الاعتبارات ليمسح ما يمنعه من التقاطع مع كل الأحياء بلا خصومات و لا نزاعات، و إذا بمجريات الحياة تتطلب منه أن يكون محدد الموقف و الهوية. ثم إنه لم يأت إلى هنا إلا لكي يرسم طريقا يمضي به إلى قلب زينب. فإذا كل الدروب تلوح في الافق إلا المسلك الذي يفضي إليها. أتراه لا يصلح لشئ كما افاد سيد الجبل؟
نبض قلبه بشدة وهو يلتقط الكلام الموجه إليه: ... لكن كل هذا الحشد من المقاتلين لا يستطيع إنجاز ما تقدر أنت الإتيان به.
شعر أنه يمضي صاعدا من أسفل قرار. و أن النسائم تأتيه من كل صوب. و على ضوء صعوده رأى حجمه يتضخم، مقابل أحجام الآخرين التي كانت تتحول إلى أطياف بلا ظلال. و صارت تنقصه دفعة واحدة لكي يصير بأجنحة. لكن المجال انغلق فجأة وهو يتلقى أمر القائد: يجب أن تعود من حيث أتيت. و ابتر كليا من تاريخك حكاية وصولك إلى هنا. و استمر في النهج نفسه الذي عشت به كل عمرك. فالانجازات الكبرى، تتطلب أحيانا رجالا مغرقين في القذارة مثلك.
مدح أم ذم؟ لا يهم. هو لا يحتاج إلى شهادة أحد. وحتى لو كان الأمر تهمة. فهي لم تصدر عن رجل دين. بل من شخص يعرف انه لا يبعد كثيرا عن العوالم التي عاشها هو نفسه. ثم ما هذا الذي سيفضي له به على انفراد؟ ليته يدرك ما الذي قذف به إلى هنا.
هو لم يمقت في حياته شيئا مثل مقته للحروب و التحالفات.و خطط الكر و الفر. هو أتي من أجلها. نسر انكسرت جناحاه، و جاء لينزوي بعيدا ليسترد عافيته. و بعدها سيشحذ مخالبه و منقاره، و يغير مهتديا بحواسه التي لا تخطئ التقدير و يطير حاملا إياها.
حين استوى في مقعده بحانة "لاسطراص" كان هو الغائب الوحيد داخل حضور يمثل فيه القريب و البعيد. مدركا تماما أن معركته الأكثر ضراوة تجري على مشارف قلبه. و عليه أن يكون معن و غير معني. متورط و محايد. و ان يكون المتشوق لنصر لن يحصل الا في ختام فصول طويلة سيمثل قبلها دور المندحر.
القائد أمر بتسجيل كل كبيرة أو صغيرة تتردد في فضاء الحانة. و يلتصق اكثر بالجنود الثرثارين. و عليه قبل ذلك ان يكسب ود و ثقة الجميع، و ان يكون اكثر كرما مع ذوي التخصصات الحساسة المتعلقة بالاسلحة و تحركات القوافل العسكرية. و زينب؟
الموضوع الأهم بالنسبة له لم يتحدث بصدده أحد. و حسنا فعلوا، لأنه أمر يخصه لوحده. وهو حين لجأ إليهم، فلأنهم البوابة المتبقية كانوا. وهو لم يكن العاشق الذي يتهاون في عشقه. كريم معطاء. لكنه شرس حين يشترط العشق العناد مهرا . و التضحية عربونا. غير أنه في تلك اللحظة كان يعي أن الوصول إليها شبيه بإعادة تمثيل نشأة الحياة. لحظة أشبه بالعدم الذي انبثق منه قبل الخلق. كل ما يجب أن يكونه الآن قطعة جليد. لا قلب ينبض. و لا رئة تتنفس. و لا دم يسري في الأوصال. و عبر ذرة متناهية في الصغر، ستدب الحياة عبر أول رعشة. و ستتدفق الحرارة في أوصاله. و ستكون همسته الأولى في مسامعها. و في أول حركة له، سيحتضنها ماسحا التخوم و الفراغات الفاصلة بين جسديهما، و لا يهم على الإطلاق ما إن كانت ستذوب فيه أم يتلاشى فيها.
يلقي نظرة على الحانة باحثا عن شكل المستقبل في حضرة الحاضر. هو يعتقد أنه يستطيع أن يضبطه . شرارة متفصلة عن مركز الصعقة داخل برق. مؤمن تماما ألا وجود لشئ اسمه العدم. و أن السكون هو جزء سابق من حياة تتأهب للحركة. و أن الحياة التي ستؤثث الأزمنة القادمة، كامنة الآن في المخزن الذي يسمونه العدم....
طريق الجبل : الفص الثالث :
المعلومات التي بعث بها إلى أعالي الجبل، لم تكن نوعية. هذا ما اعتقده، أو هناك من يمدهم بأفضل مما لديه. لهذا انتهت مهمته كجاسوس في حانة "لاسطراص" و لذلك بعث له القائد برسالة و مبلغ مالي لبدء نشاط تجاري مرتبط بالقماش و الألبسة و الأحذية.
بدا له الأمر محيرا. هو لا يذكر أنه سبق له أن زاول نشاطا تجاريا من قبل. وهو قبل هذا لم يكن بالرجل الحريص على تنمية ثروته. ثم لماذا الأقمشة و الأحذية؟ جل الآدميين يمشون حفاة أو ينتعلون نعالا مصنوعة من جلد الجواميس؟
لم يمض في استعراضه لأفق مشروعه إلى النهاية. فالربح و الخسارة متساويان، خصوصا أن ذلك لن يكلفه شيئا. غير أنه تمنى او أن ذلك حدث قبل أن تطل عليه تلك الساحرة.
من قبل كان سيبدو الأمر أكثر إثارة. و على الأرجح أنه كان سيتخصص في الملابس النسائية، حتى و إن كانت جل البدويات لا يهتمن كثيرا بالملابس الداخلية. فالحديث عن المقاسات للأعضاء الحيوية الحساسة من جسد الأنثى هو أمر في منتهى الإثارة، و متعة غير متناهية لشخص جعل ضمن اهتماماته التعرف على تضاريس الأجساد و رسم خرائطها. لينصب نفسه في النهاية مكتشفا لربوع مجاهلها.
يتجرع كأسه. يصمت لزمن و كأنه يبحث عن خلاصة. و ينتبه إلى أن هناك أشخاص مثل الفصول، يغيرون سلوك الإنسان و عاداته. و أنه كان أشبه بأرض جافة قبل أن يباغتها فصل شتوي عاصف، و يضعه على مسار هو نفسه لا يعرف أين سيفضي به.
لم يكن وصوله الأول إلى المدينة. لكنه في كل الزيارات السابقة، كان دائما الشخص الذي يأتي لنفس الغرض. غاز يطرق أبواب المتعة. يزور نفس الأماكن. يلتقي نفس الأشخاص. حتى أن المدينة كانت مختصرة لديه في اماكن و أشخاص معينين. لكن هذه المرة مختلفة. سيعمل وفق برنامج ليس هو من حدده. برنامج سيبدأ بلقاء رجل ينتظره عند المحطة. و سيرافقه الى متجر كبير الذي سيتبضع منه. و سيعرفه على أماكن و عناوين محددة عليه أن يحفظها. و في الفائض من الوقت، سيمارس هوايته القديمة. على أن يعود للقرية مع أول سوق أسبوعي .
حين وصل المتجر، تعرف على الحاج"عمور" رجل ضخم ذو جسد مترهل و اوداج مرتخية. وجده كقط بولغ في تدليله. على رأسه طربوشا احمر. يلبس جلبابا ابيض شفافا حيك بعناية فائقة. تخطه اعمدة زرقاء ، متجاوبة مع وجه قان.
الحاج القى عليه نظرة سريعة،اعقبها نوع من التجاهل متصنعا الانشغال في الحديث مع شخص آخر. لكنه شعر أنه كان يفكك صورته من أجل صياغة انطباع أولي .و بعدها استدعاه للجلوس. نظر إليه نظرة متفحصة هذه المرة و قال: تاجر قماش و يلبس أسمالا؟ متى حصل هذا؟
هو في القرية صنف دائما كاكثر الرجال أناقة. حريص دوما على ان يكون بمظهر لائق مثير. وحين كان يطلب منه أن يعفو عن لحيته، كان يستعير مقولة صديقه "كيو" لو في الشعر فائدة، ما كان الله ليلصقه في مؤخراتنا كي نتغوط عليه كل صباح. لكن بالرغم من لذاعة أجوبته ،فهو لم يجد ما يرد به على سؤال الحاج عمور. ليس لشعور بوجوده مع شخص مختلف، و إنما كان يرى أن الفارق بينهما يبيح للحاج عمور قول ذلك.و أحس فعلا أنه في حاجة لكي يتعلم الكثير مما فاته. و الحاج عمور فطن لما كان يدور في رأسه و من ثم قال: المبدأ الأول في عالم تجارة الأثواب هو أنك مرآة لما تعرضه من بضاعة. أما المبدأ الثاني فستستنتج أنت بنفسك عندما تعود من الحمام.
هو لا يعرف الا شكلا واحدا للحمام. مشروع كانت تساهم فيه كل نسوة الحي. منهن من يقدمن الحطب. و أخريات يسقين الماء. ونسوة يتطوعن لاقامة هرم اضلعه مشكلة من الاعمدة الخشبية ، يلفنها بالحصائر و الاغطية الثقيلة لتغطية الأضلاع. مع الحرص أن تظل قمته مفتوحة كي ينفذ الدخان إلى الخارج. و في فضائه الرحب، كانت النسوة تنشطن سافرات. منهمكات بين الفرك و الدلك و المشط. و التحرك بين الزوايا مثرثرات او غاضبات من الابناء و البنات الذين كانوا يشاغبون او يبكون من المعاملات التي كانت تتسم بالشدة او للافراط في الفرك الذي كان يصل الى حد سلخ الجلد.
يذكر ان سنواته الأولى كان ينفر من الحمام بسبب ما كان يعتبره نوعا من التعذيب نتيجة فرك جله بنوع من الاحجار الخشنة، كانت تترك آثارا و ندوبا على جلده. غير أن موقفه تغير تدريجيا مع نموه. بل صار يحرص على مواعيده. فقد كان يجد متعة وهو ينظر إلى الأثداء الكبيرة المنتفخة، و الأحواض العميقة و المؤخرات المكتنزة. انبهاره و متابعاته اثارت انتباه النسوة إلى أنه لم يعد طفلا. و الاحتجاجات تزايدت مع الزمن جعل والدته تدخل في نزاعات كثيرة دفاعا عن وجوده في الحمام. و انتهى الأمر بطرده منه و الالتحاق بحمام الرجال.
لكنه الان يجد نفسه في حمام مختلف. غرف رحبة تمضي في تدرج تتفاوت فيه الحرارة. و الرجال متوزعون على جنباتها. و جميعهم يخفون عوراتهم ، و هو ما نبهه إلى أنه لا يرتدي تبانا، الشئ الذي جعله موضوع ندرة و تفكه من قبل الرواد. و تطوع صاحب الحمام بمده بسريل على الأرجح تخلى عنه احدهم بسبب التقادم
طريق الجبل : الفصل الرابع
حين انتهى من الاستحمام، وجد مرافقه بانتظاره في بهو الحمام، وهو يحمل أغراضا كان الحاج عمور قد اشتراها له. و قد ادهشه أنها كانت على مقاسه بشكل دقيق. وقف أمام المرآة. ظل مأخوذا وهو يتأمل شكله. كانت المرة الأولى التي يلبس فيها سروالا طويلا، و معطفا عصريا مع رباط عنق. و لم تتحسس قدماه من قبل دفئا كذاك الذي تشعر به قدماه جراء الحذاء الجديد.
نظر الى الحذاء مسترجعا احدى حكايات جدته التي اوردت فيها تحولا كبيرا لكائن انتقل من مطلق التعاسة الى نعيم السعادة جراء خف كان قد ضاع صدفة من أمير. وهو ما يدفعه للاعتقاد أن في الحياة خيط دقيق غير مرئي. يرتفع قليلا عن قامات البشر، و أن الذي كتب له لمسه، تتغير حياته بشكل ثوري. و ينتقل بموجبه الى الوجهة الأخرى من مساحات الحياة الفيحاء.
الحاج عمور الذي يلعب دور راعيه كان قد نبهه الى وجوب التركيز في جولته بالمدينة على ضرورة حفظ معالم الطرقات، لأنه سيعتمد كليا على نفسه في الزيارات القادمة.
الأجواء التي تحفل بها الفضاءات كانت مبهرة، لحد كادت ان تعطل الغاية من الجولة. إذ لم يكن لا الزمان و لا المكان و لا الأشخاص هم أنفسهم كما عرفهم من قبل. عالم يغري بالإحتفاء، مع إدراكه أن الإنسان حين يصبح مثيرا و جذابا، فهو لا يحتاج إلى مرآة. عيون النسوة و نظراتهن تكون اعمق و افصح مما تستطيعه
لكن الصحو عاوده في النهاية وهو يتساءل: لأي أمر يتم تحضيره
لم يستطع الغموض الذي خلفه السؤال من دفعه الى الخوف من القادم. فأجواء كتلك التي يعيشها تجعله مستعدا لا ليقوم برحلة بين الحين و الآخر، بل تجعله متأهبا للقيام برحلات عدة في اليوم الواحد.
توقف المرافق عند باب كبير في عمق زقاق ضيق. طرق الباب و بعدها قال له: هذا رياض الحاج عمور. و انصرف.
فتح رجل أسود ضخم الباب. و على شدته و بأسه البادي عليه، فقد قرأ في ملامحه كل أشكال المسالمة التي تصل حد الخنوع.و الأكثر إثارة كان حين انحنى راسما زاوية قائمة كتحية له.
تسمر في مكانه. لم يشعر من قبل بأنه بالأهمية التي تستوجب تحية كهذه. بل إن التحيات منه و إليه كانت دائما مجرد كلمات مختصرة و عابرة. او مجرد إماءات . لكنه الآن يدرك أن هناك صنف من البشر خلق ليقدم التحية فقط.
حين تجاوز الباب، استقبله شخص آخر أكثر شبابا، و بدا له أنه يعد نفسه كي يخلف البواب عندما يموت أو يرحل بشكل ما.
الرجل قاده عبر ممر طويل تحفه حديقة تنم على أن البستاني الذي يشرف عليها في منتهى البراعة و التخطيط. لكن صوت الحاج عمور الذي علا ، لم يترك له مجالا لاستعراض ذلك الجمال المنثور بعناية. قال الحاج: عيناك زائغتان. أتمنى ألا تكون النسوة قد شغلتك عن حفظ معالم الطرقات.
هل هو مفضوح لهذا الحد؟ و كيف يقرأه الرجل بهذا اليسر؟
في الداخل، كان هناك عدة أشخاص لا يبدو عليهم أنهم يختلفون في شئ عن الحاج عمور. و يبدو ان الحاج قد حدثهم عنه.ولذلك بعد أن التفتوا إليه، تبادلوا النظرا و انفجروا ضاحكين. أحس بالإرتياح لأنهم بذلك قد حرروه من أن يمثل دور رجل محترم. و هذا اعفاه من طقوس تجعله تحت مختلف أشكال المراقبة. لكن فخامة المكان، أفقده الإحساس بالألفة. و من ثم راح يستعرض صفا من الصور مثبتة على الجدران. و التي تفيد أنها لأشخاص من أزمنة متباعدة. سأله الحاج: أوجدت فيها شيئا مثيرا؟
أجاب: هذا الأبيض و الأسود لا يتجاوب مع الألوان المبهجة التي تملأ المكان.
عقب الحاج: الحياة هي في الحقيقة هكذا. خلف كل مشهد تغمره الألوان، هناك مساحة خلفية صامتة. و هي مفتاح كل ما قد نعيشه.
عدل الحاج عمور من جلسته و اضاف بعد ان ادرك ان محدثه لم يستوعب الفكرة و قال: هذه صور أجدادي الذين كانوا نجوما ساطعة في الأزمنة التي عاشوها. و أنا وضعتها هنا لألتقط على الدوام نظراتهم التي تسألني: ماذا عنك أنت؟
لم يفكر يوما في هذا العقد المترابط بين السلالات، و الذي بموجبه يتم حمل الألوية. وهو اعتقد أن كل واحد يعيش طوره و ينتهي الأمر هناك. دون الوية و لا مشاعل. وهو الأمر الذي دفع به لمقارنة حاله مع حال الحاج عمور. و استنتج في النهاية أنه مطالب حين سيهم بمغادرة الرياض، بالتوقف أمام البواب، و أن يرد له تحيته. و يبلغه انه اخطأ في تقديره حين انحنى له. و يبلعه اسفه لأنه و إياه من نفس الفصيلة البشرية الموعودة بالانقراض.
الحاج عمور أعاده لأجواء المجلس، موضحا له انه يجب أن يكون قوي الذاكرة، و أنه حين سيلتقي مجددا بالضيوف الذين يجمعهم المجلس، عليه أن يتصرف و كأنهم معارفه....

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى