أمين سعدي - إحفظوا لونَ الماء

تعبتُ من الصراخِ من عُمق الصَمتِ الرهيب. الطينُ يكبّلُ قدمي هو الآخر، وعلى أسناني نبتَت طحالبُ خضراء. لم أعُد أحسُ بملابسي وجلدي ولحمي سوى تلك الأسماك وهي تمرُ من قَفصي الصدري. لا أرى شيئاً لأن تلكَ الخرقةَ السوداءَ ما زالت تحجبُ الرؤيا مثل غُراب ينقرُ في عيني.

كل ما أتذكرّهُ 25 رصاصةً مرت، وأنا أنزلُ حافياً من تلك الدرجات مكبّل اليدين، قبلَ أن أموتَ مرتين، الأولى مّرت في جمجمتي من الجهةِ اليسرى وخرجت نحو المجهول، وكنتُ أهوي لميتتي الأُخرى. كان الثقبُ المنتهي في خدي كفيلاً بأن أشمَ رائحةَ الدم، لمْ أستطع الحراكَ، داخل عقلي آلامٌ لا تُحصى. إنه البردُ سرعانَ ما ملأَ رئتي بمحيطٍ من الكون كأني أنفجرُ متلاطماً ألفَ مرة، استسلمتُ لكل شيء .. استسلمتُ بلا شكوى.

أموتُ ببطءٍ من دونَ أي ذنب، وليسَ لي سوى صورة لأمّي وهي تكبُ الماءَ خلفي حين خطتْ قدمي عتباتِ البابِ الكبير، وأختي الصغرى تضحكُ معلقة في عنقي، آه .. الثقبُ نالَ من قُبلتها، كم أنا آسفٌ لأني لم أعد لأرد لَها تلكَ القُبلة، شعرتُ قليلاً بدفءِ القريةِ، ورائحةِ حقول والدي الملونة.

الشعورُ بالوحدةِ مخيفٌ للغاية، والوصولُ إلى نهايةِ رحلتي في الحياة أمرٌ لستُ مستعداً له، هكذا. صرتُ قابعاً في مستنقعِ الزّمان المتوقِف، في تلك الزاويةِ العميقةِ من النَهر بين القَصب.

تعبتُ من الصراخ فلا تبحثوا عني، أقفُ إلى جانب رِفاقي في مَحكمةِ الله.. لا بأس تركتُ لكم الكثير ميراثاً وللتاريخ، فاللحظةُ لا تتكرّر، أنا لا أحسنُ الكَراهية على قاتلي، رقمي 1700 .. تركت وصيتي: إحفظوا لونَ الماء.

* نقلا عن الميادين نت

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى