فهد العتيق - المكان الأسطوري في رواية البيت الكبير

جو اسطوري شاعري غامض ومشحون بالخوف يحيط برواية البيت الكبير للأديب الكولومبي الكبير سيبيدا ساموديو . بداية من حوارات الجنود في الطريق بين المحطة والثكنة في القرية واكتشافهم للحياة اليومية لقرية هادئة عليهم معالجة اضراب عمالها , مرورا بحكايات وأحداث مثيرة حصلت لسكانها داخل قريتهم .
القرية هي لغابريلا الكولومبية تحديدا لكنه الجو الأدبي العالي والمخيف والمشوق والممتع الذي حول النص الى عمل مختلف، عمل أدبي رفيع فيه موسيقى تعزف باللغة الموحية ألحانا أسطورية غامضة، ربما هذا ما جعل النقاد يصفون هذه الرواية الوحيدة للأديب الكولومبي الكبير سيبيدا ساموديو بأنها رائدة الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية، صحبة رواية خوان رولفو الساحرة بيدرو بارامو . رواية هادئة وثقيلة القيمة والمعنى. فيها صور ومشاهد وحكايات وحوارات موحية وملغزة وليست مباشرة. عمل أدبي رفيع يحتاج الى تركيز وهدوء. كاتبها هو صديق ومعلم الروائي العالمي ماركيز وهو الكاتب الكولومبي الفارو سيبيدا ساموديو . والرواية مكتوبة بلغة ساحرة في ايجازها وحواراتها الموجزة التي تشبه حوارات مسرحية في انتظار جودو لصمويل بيكت. رواية حياة ورواية تاريخ ورواية لغة الشعر الموجزة التي تقول كل شيء في كلمة واحدة وتحكي في جمل قصيرة حالات كاملة .

( عندئذ دخلت الى فتحة الباب بلا صدى كل ضجيج الموت والتدافع والهرج، سمعت الابنة الرجال المندفعين والتلاحم، سمعت التطويق اللاهث، سمعت ضربات المعاول المضطربة على الجسد الذي بدأ يرتخي أمام هجوم اخرق لكنه شرس، سمعت الابنة السقوط الخافت للمعاول التي انتهت جدواها في الأب الميت، لم تسمع الابنة أيه كلمة، لا شيء غير صهيل الحصان الهائج وعدوه المضطرب مخترقا القرية مثل جرح طويل لا ينتهي ) .

المشاهد السردية في الرواية يغلب عليها الحوار الذي يشبه حوارات في مسرحية عبث، لكنه عبث السخرية من واقع قاس ومؤلم يعيشه هؤلاء الجنود، ويعيشه أيضا سكان القرية، إنه حوار الحكي، حكي بأسلوب مختلف فيه أجواء عالية الإيحاء والسحر والفن، تبدأ الرواية بحوارات الجنود الذين دخلوا القرية قادمين من محطة القطار، حوارات شبه مبتورة حوارات متقطعة الأنفاس فيها سخرية وضحك وقلق وخوف :

- هل عادوا كلهم
- نعم كلهم ينتظرون وكل واحد في بيته
-لقد أخبرناهم بأن الجنود لم يعودوا وأنه وحده في البيت
- عندئذ عادوا كلهم فورا
- اثناء مرورنا رأينا الحصان
- ما يزال هناك
- وهل سيبقى الليل كله
- هو لا ينام هناك أبدا .. لم يفعل ذلك أبدا
- الظلام شديد الان
- هل نذهب
- نذهب .

شهدت القرية اضطرابات كبيرة من العمال المياومون الخاضعون لقمع السلطة التابعة للاحتكارات الامريكية في الثلاثينات , ويركز الكاتب في روايته وفق هذه الخلفية العريضة على العزلة والانهيار العائلي وارتكاب المحرمات وغيرها من الأفعال الغير أخلاقية , وفي فصل الأخت تتحرك مشاهد الرواية بسلاسة في وسط القرية حين أخبرتهم كارمن أن محطة القطار تعج بالجنود وأن مهمتهم تتمثل في اطلاق الرصاص عشوائيا على المضربين, وفي فصل الأب يدور حوار مرعب وطويل بين الأب والابنة التي أخبرها جوزيفا أنهم يريدون قتل الاب , الابنة تؤكد ذلك : كلهم .. القرية .. كلهم يقولون بأنهم سوف يقتلونك .

في فصل الأطفال تشتعل الرواية بالهواجس المرعبة :
( هنا في هذا البيت نحن نكبر دفعة واحدة ليس كما في البيوت العادية التي يهرم سكانها بهدوء تدريجيا ذات يوم، ومن دون علامة واحدة، ومن دون أن يكون يوما متميزا او يوما منتظرا، ذات يوم ينقض الزمن علينا، يقلصنا، يشيبنا، ضاربا أجسادنا).

يرى ماركيز أن هذه الطريقة في كتابة التاريخ، تشكل درسًا رائعًا في التحويل الشعري. فبعيدًا عن إخفاء الوقائع أو تزيين وتزييف الخطورة السياسية والإنسانية لهذه المأساة الإجتماعية، توخى سيبيدا ساموديو إخضاعها إلى نوع من التطهير السيميائي ولم يقدم لنا منها سوى الجوهر الأسطوري، وهو ما يتبقى دائمًا، بعيدًا عن الأخلاق والعدالة وذاكرة الناس الهشة. فالحوار المتقن وغنى اللغة المباشرة والقول والشفقة المشروعة إزاء قدر الشخصيات، والبنية المجزأة والغامضة نسبيًا التي تشبه كثيرًا بنية الذاكرة: في هذا الكتاب كل شيء يشكل مثالاً رائعًا على الطريقة التي يتمكن بها كاتب أمين من تجنب الكم الهائل من النفايات الخطابية والديماغوجية، الذي يتوسط السخط والحنين “النوستالجي”.
يكمل ماركيز : هي رواية مستوحاة من حدث تاريخي: إضراب عمال مزارع الموز على الساحل الأطلسي الكولومبي، عام 1928 ، وهو إضراب أخمده الجيش بالرصاص. مؤلف الرواية الفارو سيبيدا ساموديو، كان عمره وقتئذ 4 أعوام بالضبط، وكان يعيش في مبنى خشبي كبير تشرف نوافذه الستّ وشرفته، المزينة بأصص مغبرة، على محطة السكة الحديدية التي اقترفت فيها المجزرة. رغم ذلك، لا يوجد في هذا الكتاب ميت واحد والجندي الوحيد الذي يتذكر بأنه قد شكّ رجلاً بحربة بندقيته في العتمة، لم تتطلخ بدلته العسكرية بالدم “بل بالبراز”. هذا ما جعل “البيت الكبير”، لا مجرد رواية جميلة فقط بل تجريبًا فيه قدر كبير من المخاطرة ودعوة إلى التفكير مليًا في الثروة غير المنتظرة، الثروة التعسفية والمضنية في الإبداع الشعري. وهذا أيضًا ما جعل هذه الرواية مساهمة جديدة، مساهمه عظيمة، في أهم حركة أدبية في العالم الراهن: رواية أمريكا اللاتينية. صدرت الرواية عن دار طوى للنشر ترجمة محمد علي اليوسفي .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى