محمد بشكار - أُرشِّحُ المطر!

أحِبُّ الكتابة عن المطر فهو كما ينْعِش الأرض ويجعلها تطفو، يُنْعش مُخيِّلتي لتطفو بأجمل الصُّور، وأغبط طائراً يُدوِّم بين السُّيول ساخراً منْ كل النَّوافذ التي أغْلقها في وجهه البشر، ليْت لي ريشه العصِيّ على البلَل ليس لأحَلِّق في رحلة الصيف والشتاء، ولكن لأحُوك أغطيةً دافئة لكلِّ الذين يذوب الجليد خجلا تحت أقدامهم عُراةً في الشوارع، ولأنَّ حجْم أمَلي أكبر من الأمل، أفقد الثقة في نفسي ولا أفقدها في القلب القاسي، مِنهُ قد نقُدُّ ببعض التدبير السياسي سقفاً من حجر !

أحبُّ المطر، ولا أؤاخذه إلا حين ينسى بين انهمار وآخر، أن يغسل مع الدروب بعض الأنفس، عسى تسْتبدل البلد طقساً بمناخ عيش أجمل وكريم، وكما تتَّسع الهُوَّة سوداء في الأفئدة بالفوارق الاجتماعية، يشْسُع الفرقُ بين منْ يبْهرهُ المطر وبين من يقهرهُ ليزيد بُكاء قلبِه مدْراراً، بل ثمة من يحجز تذكرة باهظة الثمن لأحد الألعاب الشتوية كي يكتمل بالرعد في نفسه الطرب، وثمة من كفَّنَه الثلج في مداشر مهترئة بأعالي الجبال وقد اسْتَنْفد جيبَه بالغلاء سماسرةُ الحطب !
أحبُّ الجو الماطر، يشبه في تقلُّباته المُناخية مِزاج الشَّاعر قبل أن يسْتقر على شمس تصلح ساعة للحقيقة، هو يتلبَّد ولكن ليس طويلا إنَّما بقدر الكلمات التي تفضح سيولها الفساد، طوبى لشاعر يحاكي مطراً لا ينزل ببلدي إلا في التوقيت المناسب الذي يؤثر بكثرة الوحل على السباق السياسي، وقد صنع قبل الأوان قوس قزح للانتخابات التشريعية المُرْتَقبة خلال هذه السنة الجديدة، وكشف عارياً عن بُهوت بعض الألوان في الأعين، أطالب بالمطر مُرشَّحاً غير متوقَّعٍ قد يُلبِّي وهو يَرْشَحُ بالماء كل نداءٍ للتغيير المستحيل، ولا أظنه إلا مكتسحا كما جرف مدننا كل الأصوات، أطالب بالمطر رئيسا ليست على رأسه مظلة في الحكومة المقبلة، وأرفض حصر مهمة المطر كوزير فقط للبيئة يتصبب في كل الفصول البرلمانية والبر مائية، المهم أن لا يحرمنا بعد جراح الفضيحة التي سبَّبها للقلوب المغْشُوشة من حِصَّتنا في الربيع !
مَنْ يحيا خارج الطَّقْس ليس حيّاً بالضرورة، فهو ميِّتٌ من الدَّاخل في غرفة بتدْفِئة عالية الجودة، يسْتلقي أو يقْعي سيَّان، لا يشْعُر بأحد ولكن يُبْهره المطر حين مآسيه تتكرَّر، وما أشبهه بالباسط ذراعيه على الوصيد وهو يمدُّ رجليه على أريكة هزَّازة لا يشعر بأحد، هو خارج طقسٍ دكَّ بعُتو أعاصيره المنازل وشرَّد الأهالي وأذْهل المُرضعة عن البنت أو الولد، ولكنه راقي المشاعر بعد أن ترقَّى على أكتاف المُعْدَمين في المجتمع إلى درجة الهاي كلاس، لذلك لا يُخْفي إعجابه بالمطر، يدخِّن السيجار المبْروم طبقاتٍ بهافانا كما يَبْرم الصفقات التي أنْعشتها خسائر الطبقة الأسفل من حُفرٍ عمَّقها المطر، وللصِّدْقِ هو شفَّافٌ كالصناديق التي آقْتَرَعَتْه ليبْتَلِع الثَّروات، وما زال شفَّافاً يُفضِّل الإقامة في كل ما هو لِيفينغ بالأعالي، يرى الناس دون أن يروه إلا في الظاهرة الفلكية التي تحدث بالبلد كل خمس سنوات وتُسمَّى الانتخابات، ولا يتغيَّر يبقى ثابتاً على مواقفه المُقْرفة شفَّافاً ليفينغ، يرى الناس دون أن يروه ولكن يتغيَّرُ خطابه قائلا: إنَّ الله يرانا جميعاً !
أحبُّ المطر ليس فقط لأنه يسْبقُ الأرض ليجعل قلب الفلاح أخضر، أو لأنه يرسم قوساً في الفضاء مُحتفظا بالسهم في قلبه لمن تُحْسِن العزف على الوتر، وليس لأنه يُشْبه حائكة تطرِّز بإبَر الجليد مناديل بفصول أجمل، أحبُّ المطر ليس فقط لأنَّه يُبدع مع الشُّعراء عناصر في الطبيعة تكرِّس قِيم الجمال في القصيدة، أحبُّ المطر لأنه لعب هذه المرَّة في بلدنا، دَوْر الثائر الذي انتفض بزخَّاته العاصفية من كل الجهات، فلا هو يميني ولا يساري، لا ينتمي لفوق حيث تعشِّش الدَّبابير، ولكنه في غالب الحُزن تحت مع المستضعفين بعد أن اندثر الوسط في سُلَّم البلد!


........................................

افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 14 يناير 2021.






1610801650023.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى