فاطمة فقيه - أمي لا تحب الأغنيات.. قصة قصيرة

أمي لا تحب الاستماع للأغاني. ليس السبب دينياً وإن كانت أمي امرأة متدينة. لكن ليس هذا هو السبب. لست أبالغ إذّ أقول إن أمي تكاد تبكي عند سماعها الأغاني، حتى المبهجة منها. من صغرنا اعتدنا كره أمي للأغاني. أمي تكره الفن. هذا ما ظننته دائماً، وكنت أتعجب كيف أن أحداً يمكن ألا يحب الجمال.

أذكر أنني كنت أستمع مرة لإحدى القنوات التي تبث الأغاني فأطفأت أمي التلفاز قائلة: "لقد آلمني رأسي بسبب هذه الضجة". أمي تفضّل عدم حضور حفلات الزفاف أيضاً، وأظن أن السبب هو نفسه... الأغاني.

أدركت سبب كل هذا لاحقاً. فكما ترتبط بعض الأغاني في ذاكرتنا بذكريات أليمة وتكون محرّضاً على استرجاعها بشكل دائم، ترتبط كل الأغاني في ذاكرة أمي بموت والدها.

ففي مساء يوم من أيام العام 1978 لم يعد والدها إلى المنزل. كانت أمي وأخوتها وأخواتها السبعة ينتظرونه لتناول الإفطار. لكنه لم يعد. غابت الشمس ولم يعد. أذِن المغرب ولم يأتِ. بدأ القلق يتسلل ويكبر مع الظلام. ذهب خالي الأكبر برفقة آخرين لاستطلاع الأمر ثم عادوا. لكنهم عادوا بدموع تبلل وجوههم وصمت يسابق خطواتهم. كانوا يسيرون بين المنحدرات. كادوا يتعثرون بالحصى وبدموعهم. تمنوا لو أن الطريق تطول. كيف سيكسرون صمتهم؟ كيف سيقولون للمرأة التي برد طعامها على المائدة أنها ترملّت؟ وللأولاد الذين يُتّموا أن قاموسهم سينقص كلمة.

مات جدي. مات مقتولاً وفتياً برصاصة في القلب الذي كان ينبض حاملاً هموم الحقل والأولاد.

كانت الفوضى تعمّ قرى جنوب لبنان في تلك الأيام. كما نفذ ما يعرف بجيش لحد المتعامل مع إسرائيل العديد من عمليات القتل.

أمي وأخوتها وأخواتها لم يناموا تلك الليلة. شعروا بصقيع اليتم هائلاً لايطاق. حتى اليوم يتذكرون أن أحداً لم يقف إلى جانبهم، وربما كان سبب ذلك أن الفراغ الذي دوى فجأة كان أثقل من أن تملأه عبارة مواساة أو محاولة مساعدة بائسة من الجيران والأقارب.

أمي منذ ذلك المساء لم تعد تسمع الأغاني. بعد كل هذا الوقت ما زالت تشعر بالذنب إن فعلت. أمي لم تنس تلك الليلة. أمي لن تنسى ذلك أبداً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى