سارة صلاح العتيقي - الاماكن.. قصة قصيرة

‘..كل شي حولي يذكرني بشي.. حتى صوتي وضحكتي لك فيها شي’
اغنية محمد عبده تتردد اصداؤها داخل السيارة، اما هي فقد كانت سارحة في ملكوت الكلمات، وسيارتها تعبر تحت الجسور وبين الطرقات الواحد تلو الآخر، وفي داخلها آلاف الاحاسيس المتخبطة، بين احساسها بمعاني الكلمات وشعورها بوجوده حولها اينما حلت او ارتحلت، صباحا هو الوقت، والجو من حولها جميل، ولكنها لا تشعر بجماله ابدا.
ابعدت خصلات شعرها الناعم من على وجهها ذي الملامح الطفولية، بحركة سريعة، وبيد مرتجفة وكأنها تحاول السيطرة على اعصابها، لقد كانت تشعر بنبض كلمات الاغنية تتخللها فلا تكاد تفقه الطريق الذي تسلكه، فعلا لقد كانت خلجات قلبها تنطق باسمه وتشعر ان في امساكها لمقود السيارة ما يذكرها بالطريقة ذاتها التي كان يقود بها سيارته، حتى عداد السرعة الذي امامها كان يأبى ان يزيد او يقل عن المعدل الذي كان يسير به عادة.. ما هذا؟ ماذا اصابها؟ لماذا تشعر ان انفاسها تخرج من داخلها، وكأن بركانا من الشوق قد انفجر فيه؟
أتراه يضحك معها الآن؟ لماذا تشعر انه من حقها هي وليس من حق تلك المتطفلة التي دخلت حياته من دون سابق انذار؟ نعم لطالما كان معها اينما كانت ولكن من دون ان تعي ذلك، وكأنها اعتبرت وجوده حقا مكتسبا لها دون غيرها، رحلات العمل والاضواء المسلطة عليها والصحافة والاعلام، لقد تحمل مشقة هذه الامور معها، فقط ليكون بجانبها، حتى اتت تلك المساعدة الجديدة.
‘.. وصرت خايف لا يجيني لحظة يذبل فيها قلبي، وكل اوراقي تموت.. واه اه.. اه لو تدري حبيبي كيف ايامي بدونك تسرق العمر وتموت..’
صدته.. نعم صدته كثيرا.. صدت نظرات الاعجاب التي لطالما رمقها بها، كانت تشعر بغرور الانثى التي تسلب ألباب كل من حولها دون ان تأبه بهم او تعطيهم جزاء، ولو بسيطا من مما يعطونها، تكاثفت الدموع في مقلتيها وهي تذكر كلماته مدوية في داخلها ‘احبك.. فهل احببتني يوما؟’، نظرت في عينيه وهي تضحك بوجهه مقهقهة، وقد ازالت قناع الجمود القبيح من وجهها فقط لتسخر من احاسيسه، حتى وان كانت قد هزتها من الداخل، ثم قال وقد ارتسم على وجهه ذي الملامح الحادة اعتى علامات الحرج وكره الذات لما بدر منه، فما لبث ان تركها وقد اهينت كرامته.. احست بفعلتها، طلبت منه ان يسامحها، سكت، ردد جملة واحدة ‘أنا بقربك وقتما اردت شيئا مني، عملي معك سيبقى مثلما اتفقنا مسبقا’، وما ان انتهت من ذكر هذا الحدث، حتى انتفضت في مقعدها بالسيارة وكأن صاعقة كهربائية ضربتها على حين غرة، نزلت دموعها غزيرة، والذكريات مستمرة.
‘اريد مساعدة جديدة لتعينك على عملك.. انت تعلم ان هذا العمل يتطلب اكثر مما يبدو لك، غير ان المظاهر الاجتماعية تفرض علي ان ابدو بصورة اكثر رقيا وتحضرا’، نظر إليها بعجب، ثم قال ‘وهل قصرت في عملي معك؟’، اجابته ‘لا ولكن الامر مثلما قلت لك’، رمقها بانكسار ومضى.
اتت المساعدة الجديدة، ذكية، مرحة، جميلة المظهر والخلق، وما لبث الامر ان تطور لإعجاب قوي بينهما وهو الامر الذي حاولت ان تتجنب ملاحظته في بادئ الامر، بدأت تشعر بالخوف، ثم ما لبث الخوف ان تحول الى ذعر عارم، وهي تشعر انها تفقده حاولت ان تبين اعجابها به، وتقديرها لوجوده بجانبها، الا ان الامر بينهما من بعد تلك الحادثة قد تخطى تلك المرحلة بمراحل.
‘.. كنت أظن.. وكنت أظن وخاب ظني.. وما بقي بالعمر شي.. واحتريتك..’
قاربت الاغنية على الانتهاء، وقد اغرورقت عيناها بالدموع، توقفت عند موقف السيارات في موقع عملها، تأكدت من وضع ماكياجها، مسحت دموعها، لبست قناع الجمود الذي طالما رافقها في كل مكان، تأكدت من وضع خصلات شعرها الاسود، امسكت بحقيبتها ذات الماركة العالمية، نزلت من سيارتها الفارهة، فإذا بها تجدها امامها.
كان هو معها وقد امسك بيدها وهما يتضاحكان من بعيد، وما ان اقتربا منها حتى بادرها بقوله وعيناه تبرقان فرحا، وان كانت سحابة ضئيلة من الحزن تسبح فيهما: صباح الخير كيف حالك؟ لقد اردنا ان نبشرك بخبر جميل.. لقد قررنا ان نتزوج بأقرب فرصة!
‘مبروك’ قالتها ومضت مسرعة، وفي داخلها ترددت اصداء آخر جملة للأغنية.
‘.. الأماكن كلها محتاجة لك.. محتاجة لك’.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى