غازي سلمان - سيرة حياة المكان في رواية ” خلية النحل “* للكاتب الاسباني كاميلو خوسيه ثيلا

توطئة
هذه هي الرواية الثالثة التي قرأتها للكاتب الاسباني كاميلو خوسيه ثيلا ( 1916 -2002) ،قبلها كانت رواية ” عائلة باسكوال دوراتي” ، و تلتها ” لحن ماثوركا على ميتيَّن ، وفي رواياته الثلاث بضمنها ” خلية النحل ” كان الكاتب يمتلك ” الجرأة والمقدرة كاملتين ” ليتمكن من فتح أبواب الواقع الاسباني على مصاريعها فينخر في هيكل النظام السياسي القائم ممثلا بالجنرال فرانكو، أمام الملأ وهو في ذروة قوته .
مع بداية الحرب الأهلية الاسبانية التحق الكاتب مقاتلا الى جانب اليمين الذي قاده فرانكو ضد حكومة الجمهوريين التي فازت بانتخابات شرعية عام 1931 بالرغم من إصابته بمرض السّل ، ومن الطريف ان الكاتب كان قد عُيّنَ رقيبا على المصنفات الأدبية والصحفية خلال سنوات الحرب وبقي بعد انتهاءها زميلا لممثلي تلك المؤسسة الرقابية وحين قدم روايته هذه ” خلية النحل ” من من اجل الموافقة على نشرها ، تقرر رفضها بسبب انها (تهاجم العقيدة والأخلاق.. ) ,مما اضطره الى نشرها في الأرجنتين عام 1945- 1946، لكنها عادت الى ارض وطنها الأم لتنشر فيها عام 1951.
احتل الكاتب مكانة مرموقة في الأدب الاسباني ليصبح، بعد سيرفانتس مؤلف دون كيخوته، أكثر مبدعي اللغة الإسبانية ترجمةً وشهرة خصوصا بعد حصوله جائزة نوبل في الادب عام 1989، وجوائز ادبية اخرى ، ليصبح واحدا من كبار كتاب القرن العشرين،

للمكان اهمية بالغة في الفنون الابداعية باعتباره احد عناصرها الذي يشكل بل ويسم هوية الفرد والمعرفة الانسانية ومستويات الوعي الجمعي ككل ، فهو حاضنتها حيث ينمو ويتطور الوجود الإنساني ، وهو الأقدم وجودا طبيعيا، من الإنسان نفسه الا ان الإنسان يعيد دائما تشكيله وتكييفه وفقا لحاجاته الحياتية ورؤيته في منح ذاته قدرة التأقلم معه والاطمئنان اليه . وبذا يكون المكان نتاج اجتماعي متشكل جراء الفاعلية والأنشطة الإنسانية المؤثرة فيه . بحيث يغدو من المستحيل الفصل بين الإنسان كفاعل حيوي في بيئته وبين المكان الذي يكشف بدوره عن فاعلية الفرد التي تمنح المكان قيمة وكينونة متفردتين. ففي :
(بعض الاحيان نعتقد اننا نعرف انفسنا من خلال الزمن ، في حين ان كل ما نعرفه هو تتابع تثبيتات في أماكن استقرار الكائن الإنساني الذي يرفض الذوبان ، والذي يودّ ، حين يبدأ البحث عن احداث سابقة ، ان يمسك بحركة الزمن ، ان المكان في مقصورته المغلقة التي لا حصر لها ، يحتوي الزمن مكثفا، هذه هي وظيفة المكان ) (1)
يغدو المكان المقترن بعناصر السرد الأخرى أكثر اتساعا وشمولا رغم ضيقه أو إن قلّـت الإحداث فيه وانحسرت الأزمنة ،انه فضاء الرواية اذن ، واقع متخيّل ـ تكوين فني ، يقوم برسم أبعاد النص السردي وإدامة فاعلية الشخصيات متجاوزا ذاك المكان بواقعيته الثابتة او حاضنته الصامتة التي استوعبت الأحداث وأنشطة الشخصيات ، بحيث :
(يمكن القول بأنه يشكل المسار الذي يسلكه تجاه السرد. وهذا التلازم في العلاقة بين المكان والحدث هو الذي يعطي للرواية تماسكها وانسجامها ويقرر الاتجاه الذي يأخذه السرد لتشييد خطابه, ومن ثم يصبح التنظيم الدرامي للحدث هو إحدى المهام الرئيسية للمكان(2)
والفضاء الروائي تصنعه اللغة فهي أداة الذهن البشري ومرآته ، بما تمتلكه من إمكانيات غير محدودة في تصوير كل ما هو مادي بصري ، وفي التعبير عن مكنونات النفس البشرية ، الحسية والانفعالية منها ، وكذلك الحقائق والرموز المجردة ، تصويرا جماليا مشحونا بالمعاني، تترادف داخله الحقائق والخرافات التي تنبثق عنها الدلالات وفقا لنسقها في الفضاء الروائي ، فينتقل كل ماهو واقع معيش الى فضاء الإبداع من خلال العلاقات القائمة على اللغة بين الذات الواصفة والمعبرة ، الذات المبدعة ” المؤلف “، وبين الأحداث في أمكنتها والشخصيات الموصوفة او المعبَّر عنها، فاللغة في الأجناس الأدبية ليست كمّاً من الألفاظ ، بل بما تنسجه من مجموعة معقدة من العلاقات بين مكونات وعناصر العمل الأدبي ، وان :
(كل لغة في الرواية هي وجهة نظر، هي افق اجتماعي ، ايدلوجي لمجموعات اجتماعية معينة وممثليها المجسدين). (3)
والمكان في رواية ” خلية النحل ” ، فضاءٌ ينتج قصصا متساوقة مع فترة تاريخية محددة وبيئة اجتماعية مضطربة، مستوعبا كلّ العناصر الروائية التي حددت رسمته ككل، بما فيها الحوادث والشخصيات، وعلاقاتها فيما بينها وبين الأمكنة المختلفة من مقاهٍ وبارات وفنادق للدعارة وبيوت، وشوارع لا تمكّن السائر “المخضرم” فيها من تجاوز حدود مدينته ” خليته ” بحيث أضحت مدينة ” مدريد ” بل قل اسبانيا ،برمتها .تلك المدينة الصغيرة الضيقة، التي يستطيع أناسها سماع كل خبر ومعرفة وقائع كل حدث، بسرعة وخصوصا الأحاديث المتعلقة السياسة ، كاشفا عن مدى التأثير المتبادل بين الشخصية والمكان من جهة، و تأثير الزمان كقوة مغيّرة أيضا من جهة أخرى،وحرص الكاتب على البحث عن وفي أرواح تلك الأمكنة و الشخصيات ، بل هو من نفخ فيها الروح لتحيا في ” كتاب “، وفقا لرؤيته وسطوته على حركة شخصياته ومراقبتهم بعناية دقيقة جدا في وسط اجتماعي معين، وكأنه أراد ان تكون ( مدريد – الخلية) هي ( الفضاء – الهدف ) من كتابة ووجود الرواية ، فقد وثّق سيرة حياة مدينة ، أغفلت الفنون والتاريخ والعلوم الإنسانية الأخرى الكثير من جوانبها ، وظلت شاهدة على أحلام الشخصيات التي سحقها واقعها الفاسد بقسوة.
تمكن الكاتب بتشكيله لفضائه، ان يمنحه خصوصيته ، من خلال تلازمه مع زمان محدد هو, منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، إبان حكم الجنرال فرانكو، وقد حدّد حركة الزمان في الرواية بثلاثة – أربعة أيام تقريبا ، وهي فسحة زمنية قصيرة تفاعلت مع ذلك الفضاء الروائي غير المقنن ،فضاء يعج بمئات الشخصيات (346) شخصية ، تنحدر من طبقات و شرائح اجتماعية مختلفة ، شريحةُ الفقراء ومنهم البرجوازية الصغيرة تتقارب و تتشابه في معاناتها ، المعاناة من الجوع ، و الانغماس في اليأس تحت وطأة الفقر وكوابيس الخوف والملل ، فجاء فضاءه منسجما تماما مع سمات شخصياته وانحدارهم الطبقي وانعكاس بنية النظام السياسي الفرانكوي عليهم، كاشفا عن هشاشة العلاقات الاجتماعية ومنها الأسرية ، وعلاقتهم بالماضي ، بمعنى الموقف من الحرب الاهلية الاسبانية 1936- 1939 . و برؤيته الواقعية المتفردة عن اقرأنه من كتاب جيله، فقد وسم الكاتب فضاءه الروائي بمسميات أمكنته المختلفة متماثلة مع مظهرها الخارجي و مع حقيقة وجودها الفيزيائي نابعة من مرجعيتها الواقعية، مثل اسم المدينة الكبيرة ” مدريد ” وأحياءها والمدن المجاورة لها و الشوارع والمقاهي ،الحانات والفنادق ، أسماء صحف كانت تصدر ما قبل انتصار فرانكو ،وكذلك الى احزاب كانت فاعلة انذاك ، و الإشارة الى أسماء شخصيات تاريخية معروفة تنتمي الى ذات الفترة التي تعاينها احداث الرواية وترتبط بها ،انه بذلك وظّف مكونات المكان المحسوسة والمعيشة فعلا والرموز الاجتماعية من اجل خلق صورة بصرية بواسطة اللغة التي جعلت إدراك تلك المكونات ممكنا ، ومهّد للمتلقي ان ينسحب الى هذا الفضاء المتخيّل بأجمله ويتعايش معه دون إدراكه لوهم التخيل وكأنه لن يقرا كتابا بل يعيش واقعه هو بكل جزئياته .
يقدم الروائي شخوصه باعتبارهم ” وجهة نظر ” او موقفا من الواقع ،يقدمهم بطريقة التقديم المباشر الاخباري ، تماما مثل مصور كاميرا للبث الحي ” وثائقي ” فالروائي يجلس في مقهى ” دونيا روزا وينقل للمتلقي ، حركة مالكة المقهى ” دونيا روزا ” بين زبائنها ، من طاولة الى اخرى ، لكل طاولة زبونها المخضرم ، ومن كل طاولة تتسلل قصة محكية عن أولئك الزبائن ” البقايا “،الناجون من فكي رحى الحرب الأهلية الاسبانية 1934- 1936 ، لتطبق عليهم قبضة حكم فرانكو الحديدية, حين ذاك لم تضح اسبانيا نظاما ملكيا ولا جمهوريا ، بل نظاما فرانكويا ، راح المنتصرون على أشلاء أحلام اسبانيا يفرضون هويتهم وفكرهم ممجدين أنفسهم ومشوهين كل ما يمت للمهزومين – الجمهوريين – بصلة ، سنّوا قوانينهم التي تحرم العمل السياسي ليبقى حزب” الفالانج” الذي أسسه فرانكو ، هو الحزب الوحيد الحاكم بقيادة ( الكوديللا ، الكتائب ) التي تعني الزعيم او أب الأمة . فصار النظام هو مَن يضبط إيقاع السلوك والتفكير البشري، والقانون هو ما يسنّه ويفرضه قسرا ، كل ذلك أدى بالنتيجة الى انهيار بنية الذات الإنسانية ، بنظمها المجتمعية وقيمها الأخلاقية ، وتراجع أحلامها الى ظلمات السبات ، حتى أمست ” الخلية ” مقبرة تتفسخ فيها الآمال الإنسانية قبل الأجساد البشرية ، لم يعد للافراد أية تصورات عن ما يردون ان يكونوا ، في ظل غياب السعي الجدّي نحو الفاعلية الإنسانية والتضامن الجمعي من اجل التغيير، انهم بلا رغبات محددة ، سوى رغبة الحصول على لقمة العيش ، كل شيء مرشحا لان يكون رغبة لديهم ، يدورون في تلك الخلية – الدائرة المغلقة – وفقا لروتين يومي من العبث والنزوع الى اللاجدوى وعدم اليقين ، فتنتحر المبادئ والأخلاق ، وتبرد المشاعر وتوهن العلاقات ،انها حياة الضعفاء بدون كرامة أنتجت أفكارا خاملة مؤطرة بسلوكيات شخصيات بائسة يائسة، ليس لها القدرة على معاينة واقعها الصافن اوالردّ عليه او تفسيره . اصبحت العلاقات الاجتماعية ، الحب ، الصداقة ، العلاقات الاسرية ، قيم المجتمع ككل كل ذاك أصبح ” مجازا ” في واقع تخلّف عن سنيّ الحرب الاهلية ، ولم تندمل بعد جراحها وتداعياتها اذ خلّفت النزوع الى الجبن والخضوع ، في ظل انقسام المجتمع الاسباني حول الموقف من المنتصر ومن الخاسر في تلك الحرب . ينعتُ احد الزبائن الاغنياء عازفَ آلة الفيولين في المقهى بازدراءٍ لانه ردّ عليه ، بـ ” الاحمر “،و تعني آنذاك انه احد المناوئين لنظام فرانكو او انه شيوعي ،وينبغي ان يطرد من عمله مخاطبا ” دونيا روزا “صاحبة المقهى :

( إما ان تلقي بهذا الاحمر الخسيس الوقح في الشارع وإما فلن اطأ هذا المحل . عندئذ وضعت دونيا روزا العازف في الشارع .. ) الرواية ص47
وهذا يفسر ما للاغنياء من سطوة على الكادحين وعلى قوتهم ، فكلمتهم أمرٌ ينبغي تنفيذه أما الفقراء فلا ينبغي لهم الاّ الخضوع والخنوع ، مثلما هي سطوة ” دونيا روزا ” القاسية في تعاملها مع عمال وعازفي مقهاها، حتى تعدت قسوتها الى انها أمرت احد عمالها برمي شاب خارجا الى الشارع لانه لم يملك ثمن فنجان قهوة وانها ستشعر بالبهجة والرضا حين يخبرها ذاك العامل انه ركل “مارتين الشاب” بشكل جيد ، كذلك يكشف مثل هذا السلوك وغيره عن عدم وجود اي تضامن اجتماعي مع المقهور والمضطهد والمستلب والفقير المعوز الا ما ندر بصفته الفردية المحكومة بصلة رحم ، كما ينم عن انقسام طبقي ومجتمعي بفعل التعصب الديني والقومي الذي كان النظام يوقظه وينمّيه في المجتمع وقد ( أُستغل ذلك لتسوية الثار الشخصي فالكل يبلغ السلطات ضد الكل باستخدام البلاغ الكيدي). اضف الى ذلك النفاق الاجتماعي ،وزيف التدين :
” تدين دونيا روزا” وحرصها على ارتياد الكنيسة اسبوعيا .(..تذهب الى صلاة الساعة السابعة كل الايام ، دونيا روزا تنام خلال الصلاة مغطاة بقميص من الصوف الرقيق ,) الرواية ص346
و الرياء ، والخضوع :
(القس الاب دي نافارتيو الذي كان صديقا للجنرال ميغيل بريمو دي ريفيرا ، توجه لزيارة الجنرال وركع بين يديه ، وخاطبه في تضرع جنرالي اعف عن ولدي محبة بالله …. ! ) ” الرواية ص40
والمهادنة السلبية : الشاعر الشاب مارتين ماركو وهو يتضرع اثناء تسكعه لخفير الشارع
( لا احمل هوية ، تركتها في البيت ، انا كاتب واسمي مارتين ماركو … اساهم في صحيفة الحركة يمكن لحضراتكم السؤال ….) الرواية ص261
و( “الحركة” إشارة الى التجمع الشعبي الذي شكله الجنرال فرانكو ، وحمل اسم الحركة الوطنية )
ان رواية خلية النحل ، ماهي الا تكتل من حكايات متناثرة على فصول الرواية السبعة اذا ما أضفنا الخاتمة اليها كفصل أخير ،تنعكس عليها دورة أوقات زمن الاحداث ، قصص متقطعة الأوصال ، تنمو بشكل لقطات غير متتالية ، ، فتتجاور مثل لوحات رسم تختلف بالشخصيات والأمكنة وبتنويعات الظل والضوء فيها ،وتتزايد كلما أفاض الكاتب في تخليق المزيد من الشخصيات داخل فسيفساء ” الخلية ” الضيقة في حين بدا الزمن فيها ساكنا حتى ليخاله المتلقي غير مدرَك او وهمّ ، فالكاتب هو من يمسك بخيوطه ، وقد ترك الكاتب قصص شخصياته مفتوحة على أكثر من احتمال متكتما عن ما آلت اليه ، و أناط للمتلقي دوراً في استنتاج خاتمة كل حكاية ومصائر الشخصيات :
حيث بقيت علاقة ” فيكتوريا” بحبيبها المسلول سائبة بين زياراتها له طريحا في الفراش ، وترددها على المبغى ، كذلك وفاة العجوز “دونيا مارقوت ” إن كانت وفاة طبيعية ام خنقا بمنشفة ، ومن هو الجاني . ايكون ابنها اللوطي مثلا ؟. فيما بقي مصير “مارتين ماركو” مجهولا ، وهو يذرع الطرقات متابطا “الجريدة ” التي نشرت خبر استدعاءه او القبض عليه دون يطلع عليه .
ان الشخصية في أي عمل روائي هي من يبدأ المتلقي بمواجهته ومصاحبته منذ بدء سفر الحدث وحتى انتهاءه، باعتبارها هي من تتحلق حولها عناصر السرد الاخرى، وهي التي يُودِعها الكاتب رؤيته ، فهو خالقها ومحركها ، فيبقى نظر واهتمام المتلقي منصبا على الدور الذي يناط بالشخصية ومكانتها ، من حيث سكونيتها وهامشية تأثيرها لتكون شخصية ثانوية، او من حيث كونها شخصية دينامية مؤثرة و تمتاز بالتحول فترتقي الى مستوى “الدور” الرئيسي في الرواية. لكن الأمر في هذه الرواية مختلف تماما فلا شخصية محورية رئيسية ، لا بطل فيها ، هي نموذج لرواية دون بطل ، بل ببطولة جماعية ، فالشخصيات ومن منظور حضورها وتأثيرها في الأحداث قد ساهمت في تشكيل وهندسة ” الخلية ” المكان و” الخلية الفضاء ” ككل ،انها حقا – الرواية – ، تقدم درسا في مفهوم الشخصية وتطوره ، وهو أسلوب درج عليه الكاتب في رواياته التي سبقت هذه الرواية مثل ” عائلة باسكوال دوراتي عام ( 1942) وهي روايته الاولى ، و” لحن ماثوركا على ميتيّن ” ( 1983) ، لكنه عمد الى رفع مستوى الأحداث حين جعل من شخصية مارتين ماركو ترتقي قريبة من صفة البطولة ،حين منحها نَفَسَا أطول مقارنة بأنفاس الشخصيات الاخرى التي ما ان تظهر لتختفي وكأنها تكمل مهاما قصيرة محددة لها سلفا باستثناء ” دونيا روزا ” التي نافسته الحضور، فهما الشخصيتان ، الثنائي، اللتان تظهران في جميع فصول الرواية منذ الفصل الأول ، واول ظهور له كانفي الفصل الاول بمقهى دونيا روزا من الرواية، حينها أشير اليه بصفة ” السيد ” وليس باسمه ، كما يفعل الكاتب مع كل شخصياته ، و يطرد ركلا ً لعدم دفعه ثمن فنجان قهوة ، وسيبقي على مر الأحداث حلقة الوصل مع عديد من شخصيات الرواية فهو اخ لـ” فيلو” التي تأويه وتطعمه ” خلسة من زوجها بسبب فقرها المدقع ، وعلى معرفة بـ” بنتورا اقوادو” في المبغى ، وصديق “ناتي روبلس” منذ ايام الجامعة، وصديقا لـ بابلو الونسو الذي يعمل في جريدة الحركة ، و كان رفيقا له أبان الحرب الاهلية و يأويه هو الاخر ، ويعرف ” ثلستينو” صاحب البار المعجب بـ “نيتشه “و كذلك دونا جيسوسا “التي كانت صديقة لامه وصاحبة مبغى ، منحته غرفة لليلة واحدة من ليالي الرواية الاربعة ، وشخصيات عديدة اخرى ، الا ان كل هذا لا يفرضه على الرواية أوعلى المتلقي معا ، كشخصية محورية بالرغم من اهميته . بل ان ” الخلية ، مدريد، المدينة، اسبانيا ” ما انفكت تطن ليل نهار بصوتها الجنائزي الذي لا يماثله اي صوت من اصوات قاطنيها انما هو مجموع اصوات اولئك ” النحل ” فباتت هي الشخصية المحورية في الرواية هذه ،
وان استحقت شخصية مارتين ماركو من المتلقي الاهتمام الاكبر في سعيه اليها ، فليس بسبب من حضورها المتواصل حسب ، بل لأنها شخصية مغايرة مختلفة ،ولأنه صورة فكرية مصغرة لمثقف وشاعر ،عايش الحرب منتميا الى اتحاد الطلبة التقدمي في الجامعة وقاتل الى جانب الجمهوريين ،مؤمنا بالمساواة وبالعدالة الاجتماعية . “مارتين ماركو” مرّ بأطوار حياتية معقدة من الاضطراب والقلق والضياع والصراع النفسي ليصبح شخصية بوهيمية متسكعة ” في شوارع مدريد، فضلا ان الكاتب أسبغ عليه الرزانة والاحترام رغم فقره وهيئته المهلهلة ، فمارتين ماركو نجا من لذوعية ” لسان خالقه ،كاميلو خوسيه ثيلا ” وتهكمه ، وسخريته ، ان شخصيته تنمو متناقضة مع شخصية ” دونيا روزا ” المتخمة بالجشع وحب المال، وضخامة الجسد ، والبلادة ، والنفاق ، فضلا عن ان الكاتب نأى بنفسه عنه على عكس دونيا روزا تلك التي لم تتحرر من ربقته، وخلّصه من سطوته عليه فأتيحت له فرصة التعبير عن ما ينوء به من اثقال ذكرى الحرب ومن انعكاس نتائجها عليه لأنه هو الخاسر والمهزوم فيها ، فمنحه فسحة للبوح عن ما بقي مكتوما في اعماقه بصدق ، بالم ، بتهالك ، بجبن المهادن ، بخوف هيستيري ، من خلال مويجات مضطربة لمونولوج مهموس يضجّ في الشوارع والازقة ، يبدد صمتها ، حين لم يكن ليُرفع صوتٌ فيها ، وبذا يمدّ فضاء الرواية بنسغ تعبيري مغاير لما ألفه المتلقي في – السرد – متحررا من الأسلوب التقريري والإخبار:
(الشرطي كان رجلا طيبا.هذه هي الحقيقة ، طلب مني بطاقة اثبات الشخصية تحت ضوء فانوس وهذا – كما هو معروف – من اجل الا يخيفني … كانت له سن ذهبية و … ) الرواية ص 267
يبدأ بالتفكير بسرعة :
(خي ،خي ! انا لا اتورط في شيء ؟ في شيء! ماذا يمكنهم ان يصنعوا ضدي اذا لم اكن اتورط في شيء ؟ .. اي عم انت ياسلام على السن الذهبية ! لماذا اخاف انا ؟ لا نكسب شيئا من الفزع ،فجأة ثاس ! سن من ذهب قف ، اوراقك ؟ ليست معي اوراق ،خي ،خي ! وايضا ليس لي سن من ذهب ، انا مارتين ماركو بسن من ذهب وبدون سن من ذهب خي، خي .. في هذا البلد، نحن الكتاب لا يعرفنا احد ، باكو ،أي ، لو لباكو سن من ذهب ،خي ، خي ، نعم تعاوَن ، تعاوَن ، لا تكن ابله ، لسوف تدرك في النهاية….. ) الرواية ص 264
( يشير الكاتب هنا الى ان باكو صديقه طلب منه ان يتعاون مع الحركة الوطنية لمناصرة حكومة فرانكو ونظامه لعله يجد حلا لمشكلة الجوع والتشرد ، الامر الذي لم يتحقق, ) هامش للمترجم
ومارتين ماركو الخارج من جحيم وظلام الحرب ليدخل قبر ” خلية ” نظام الفاشيست ، يتسكع في ” طرق ضالة” – العنوان الثاني للرواية – وحيدا ، حاملا جريدة في جيبه،تلك الجريدة التي نشرت إعلانا للقبض عليه او استدعاءا قضائيا بالاسم ،لانه قاتل الى جانب الجمهوريين خلال سني الحرب الاهلية ، دون ان يقع بصره على موضوع الاعلان ، يبحث المقربون والاصدقاء عنه ، احيانا خوفا عليه واحيانا يتوجسون خيفة من ان يلحقهم أذى السلطة هم ايضا بسبب علاقتهم به ، ليبقى هو الوحيد الذي لم يعلم بالامر ، بل كان قد أجّل قراءة صفحات الاعلانات لوقت اخر من اجل البحث عن عمل ! ،
:- عندما اكون قد تسلمت العمل وكسبت شيئا من المال فانني سوف اشتري بعض الحلي لفيلو ، والبعض الاخر لبوريتا .. الرواية ص 365
وكأن تلك أخريات الأمنيات والأحلام والآمال التي قد أفلتت من تحت أقدام النظام ،أوهي ما تبقى من مقاتل خسر الحرب ، ومن شاعر ومثقف استلب حقه في حياة كريمة وآمنة .
واصبح الحصول على العمل يعني انه يستطيع ياكل فقط:
( الذي اريده هو ان آكل ! آكل ! هل اتكلم باللاتيني فلا تفهمون خي,اسمع ركّب لي سن من ذهب هنا ، كل العالم يفهون الامر ، خي ! خي ! كل العالم آكل إيه ؟ آكل من يشتري لي علبة سجاير كاملة فلا أدخن أعقاب الدابة إيه ؟ هذا العلم نجس ،..)ص265
ولكنه مع كل ذلك استطاع أن يحصل لنفسه على فسحة من واقعه غير المؤتلف معه ، ان يستحوذ على حيز ضئيل من محرماته عليه ، من مثل هواء طلق ، ثم الانطواء في داخل عالمه الأنوي فيدرك الان :
(ان الحياة مع الخروج قليلا الى الهواء الطلق للتنفس – تأخذ أصباغا أكثر نضارة ، أكثر رفاهة من العيش غرقا في المدينة )! الرواية ص364
تبقى الرواية أطروحة مدهشة، سجل الكاتب كاميلو خوسيه ثيلا انجازه الأبرز فيها ، وذلك من خلال قدرته على التحرر من الاتساق اللغوية الإنشائية مبتعدا عن الأسلوب التقليدي في السرد الروائي ،ومستثمرا بدراية فذة إمكانيات السرد باسلوب ضمير المتكلم ” الراوي كلي العلم ” بما تفكر به شخصياته وتحلم وتشعر ، يعرف تاريخها ومصائرها ويتبين ذلك في دقة البيانات الشخصية التي يقرنها الراوي بكل شخصية ، وهذا ما جعل الرواية تتسم بتقنية سرد واحدة ، ساهمت في رص بنية السرد ومتسامية به الى صيغة اكثر عمقا وتطورا وفاعلية وقدرة على تماسك بنية الرواية ، فضلا عن مسرحة الأمكنة على صغرها فهي تتسع ، تنبض بحركة الحياة ، وتكشف بجسارة الحالات الشعورية للشخصيات وتساهم في التغيرات التي تطرأ عليها ، راحت الاحداث تنساب بحرية تامة بعيدا عن ” مطبات ” النظريات ، انه لجوء الخبير ودربته الى واقعية التشخيص الفني والجمالي بعيدا عن الانثيالات الذهنية والترميز ، ما أهّل بنية هذه الرواية لان تتبوأ قمة في التفرد حيث اصبحت بحق نقطة بداية التحول في السرد الاسباني والرواية التجريبية الحديثة او الرواية في أمريكا اللاتينية خصوصا ، بعدما تم نشرها في الأرجنتين عام 1951 ، :
( ان ظهور هذه الرواية كان من حسن حظ ” الروائيين” الجنوب امريكيين ، لقد تحولت الى مدرسة ، حتى انني ارى تاثيرها الكبير في روايات هذه القارة القصاصة ، لقد سبق لي ترجمة رواية مائة عام من العزلة ، وهي ابنة شرعية ، بمفهوم ما للبنوة الادبية الخلاقة – لرواية خلية النحل ) من مقدمة مترجم الرواية ص35
——————————————
* رواية خلية النحل -افاق للنشر والتوزيع القاهرة – ط1 – 2017 – ترجمة د . سليمان العطار
1- ) غاستون باشلار- جماليات المكان -ترجنة غالب هلسا – المؤسسة الجامعة للدراسات والنشر ص39
2- ) أهمية المكان في النص الروائي – ” مقالة ” آسية البوعلي- اكاديمية من سلطنة عمان موقع نزوى الالكتروني. http ://www.nizwa.com/
3 -ميخائيل باختين الكلمة في الرواية ترجمة يوسف حلاق ص215 – بصيغة pdf
ملاحظة : العبارات التي ترد بين قوسين من مقدمة المترجم نصا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى