رشيد تجان - رحلة العبدري

1 ـ تعريف الرحلة وأدبها
عُرِف الإنسان بعدم سَكَنِه إلى الأرض منذ كان على هذه البسيطة، يتنقل من مكان إلى آخر، لأهداف مختلفة، قد تكون بحثا عن الطعام أو خوفا من الكوارث الطبيعية، أو حبا في الترحال. وكثير من الرحلات قام أفرد أو جماعات في تاريخ البشرية الطويل، ولا نعرف عنها شيئا، ويرجع ذلك إلى عدم تدوينها. أما وقد تطور المجتمع الإنساني وعرف الرسمَ والكتابةَ صار يدون كل تحركاته رسما أو كتابة. ومنذ ذلك الحين ظهرت مصنفات وكتب تحكي رحلات الإنسان، وتبين الغرض منها حتى أصبحنا أمام جنس أدبي قائم بذاته، يجمع بين الأدب والتاريخ والجغرافيا.
عرف أدب الرحلة طريقه عندما بدأ تدوين الرحلات في مخطوطات تسرد قصص الرحَّالة وما عاينوه وشاهدوه من عجائب وغرائب في البلدان التي زاروها واطلعوا على معالمها، أو صادفوه في طريقهم من مدن وقرى وتنوع طبيعي، أو عاشوه من لحظات مع أناس مختلفين عنهم لغة وثقافة وحضارة، وينقلوه إلى المتلقي ليشاركهم تلك اللحظات. وقد تنوعت مقاصدهم وغاياتهم بحسب أغراضهم. وللرحالة العرب المسلمين مقصدية واضحة من رحلاتهم، تتمثل في الحج إلى بيت الله الحرام وزيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام، وفيهم من عاد أدراجه عبر طرق جديدة وبلدان أخرى، ومنهم من تابع سبيله مستكشفا عوالم ومناطق تختلف عن سابقاتها، كما فعل ابن بطوطة وآخرون. أما الرحالة الأوربيون فقد كانت لهم أهداف، خاصة في آسيا، إذ اقتفوا طرق الحرير والتوابل، وصولا إلى بلدان الشرق الأقصى.
2 ـ أدب الرحلة في المغرب
عرف العرب الرحلات منذ القدم، وخاصة بعد مجيء الإسلام، وانتشار الدعوة المحمدية في أرجاء شبه الجزيرة العربية، وكان وراء هذه الرحلات الحج إلى بيت الله الحرام وزيارة قبر الرسول (ص)، ثم طلب العلم، وخير باعث على طلب العلم حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد" وكذلك "اطلبوا العلم ولو كان بالصين". هذا الحديث الأخير يدعو بصريح العبارة إلى الرحلة والانتشار في الأرض لغرض العلم، هذه الصفة وحدت بين العرب في تصور العالم والأشياء ووحدة الفكر العربي، حيث كانت الغاية دينية صرفة في بداية الأمر. والرحالة المغاربة لا يخرجون على هذه الملة مثل المشارقة. فقد كان الشوق لزيارة الأماكن المقدسة، ولازالت إلى اليوم غاية المغاربة. فهم في كل عام يفدون على الحجاز لمناسك الحج والعمرة. يرحلون إما فرادى أو جماعات من الأندلس أو من المغرب الأقصى، مرورا بالجزائر وتونس وليبيا ومصر، وعند عودتهم غالبا ما كانوا يصلون بالمسجد الأقصى وزيارة قبر إبراهيم عليه السلام بفلسطين، ثم يعرجون على العراق أو سورية ثم يعودون إلى ديارهم.
اهتم الأندلسيون والمغاربة بهذا النوع من الترحال، أو بهذا الجنس الأدبي المسمى أدب الرحلة أكثر من غيرهم، ويرجع ذلك إلى البعد المكاني عن المشرق والحجاز، فكانوا ينتظمون في رحلات هدفها الحج، فتعددت بذلك رواياتهم وأوصافهم لما رأوه في طريقهم. وهذا ابن خلدون في مقدمته عن رحلات المغاربة يقول: "كانت غالبا إلى الحجاز، وهو منتهى سفرهم، والمدينة يومئذ دار العلم، ومنها خرج إلى العراق، ولم يكن العراق في طريقهم فاقتصروا على الأخذ من علماء المدينة"[1]، ويرجع السبب كذلك إلى اعتبار المغاربة أن كل ما يفد من الشرق العربي محبوب، وان الشخصية العلمية لا تتم إلا بالأخذ والاستفادة من علماء الشرق، كما قال الكاتب صلاح الدين المنجد[2]:"فقد صار المشرق مهوى أفئدتهم. وكانت رحلتهم لأداء فريضة الحج أو طلب العلم على الشيوخ الثقات في مصر ودمشق وبغداد"
إن تعلق المغاربة بالحجاز كبير جدا لما يتضمنه من مقدسات إسلامية، إضافة إلى رغبة الرحالة المغاربة في زيارة الأمكنة المقدسة، وربما الجلوس بها لفترة لإشباع رغبات والارتواء من عطش للمكان وأهله. وقد صنف بعض الكتاب أسماء الذين رحلوا إلى بلاد شبه الجزيرة العربية، ودونوا عناوين كتبهم التي ألفوها، غير أن هذا البحث لا يسع الأسماء كلها بل سنكتفي بأشهرها.
ــ ابن رشيد الفهري: ولد بسبتة سنة 657 هجرية ومات بمدينة فاس 721 هجرية. رحل سنة 683 إلى ألميرية بالأندلس ليعبر البحر المتوسط متوجها إلى مصر في مراكبها الكبيرة، زار الإسكندرية ووقف على مآثرها فوصف منارها الشامخ الذي قال فيه:" ضخامته من داخله أكثر مما عليه من خارجه، وهو من عجائب المصنوعات وغرائب المرئيات"، ثم بعد ذلك سافر إلى طرابلس ومنها إلى تونس التي أُعجب بها وبعلمائها، فاستقر بها مدة سنة كاملة، فأخذ على علمائها ما كان ناقصا من علمه، وزاد على معارفه معارف أخرى.
ــ أبو القاسم التيجيني السبتي: قام برحلة إلى المشرق العربي محتديا بمن سبقوه كابن رشيد والعبدري. ألف كتابا لهذه الرحلة يتكون من ثلاثة مجلدات ضخمة، وقد اقتفى أثر ابن رشيد الذي سبقه في الرحلة بعشر سنوات، أضاف بعض العناصر التي لم يتطرق لها سابقه ليتميز عنه. توفي سنة 730 هجرية.
ــ أبو العباس أحمد الحجري: كان أول من قام برحلة أيام الدولة السعدية عندما استتب الأمن في البلاد، بعد اضطرابات الحكم في أواخر دولة المرينيين وفترة حكم الوطاسيين. هو واحد الأندلسيين الذين عاشوا محاكم التفتيش، أُكرِه على المسيحية، ولما سنحت له الفرصة توجه إلى المغرب، وقام برحلة إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، ألف كتابا سماه "الشهاب إلى لقاء الأحباب".
3 ــ رحلة العبدري
ــ حياة العبدري
هو محمد بن محمد بن علي بن أحمد العبدري[3]، فقيه ولغوي وأديب ورحالة مغربي. تتلمذ على يد شيوخ مراكش وخاصة قاضي الجماعة أبي علي بن يحيى المعروف بالشريف. وقد اختلف حول أصله الباحثون والدارسون، فمنهم من اعتبره أندلسيا هاجر إلى المغرب عند اشتداد الحروب والفتن، ومنهم من يرى أن عائلته بلنسية الأصل هاجرت على المغرب، واستقرت به، وكانت ولادته بحاحة.
عاش العبدري في فترة تاريخية جد صعبة، فقد عرفت المنطقة صراعا بين الموحدين والمرينيين من جهة، وبين المرينيين وبني عبد الواد وبني الأحمر من جهة ثانية، وانهيار دولة الموحدين في المغرب وقيام دولة بني الأحمر في غرناطة، ودولة المرينيين في المغرب وبني عبد الواد في تلمسان. هذه الصراعات انعكست على حياة العبدري وجعلته ذا نظرة تشاؤمية، إن صح هذا التعبير، فتمثلت في رحلته حيث يقول:"... وقد تعطل في هذا العصر موسم الأفاضل وتبدد في كل قطر نظام الفضائل..."[4]
ــ كتابه في أدب الرِّحل ــ رحلته
يختلف الدارسون حول تسمية الرحلة، فهناك من يمسيها ب"رحلة العبدري"، وهناك من يسميها ب"الرحلة المغربية". غير أن الاسم الأول هو القريب إلى الصواب لكون الرحلات المغربية والأندلسية تسمَّت بأسماء أصحابها، مثل رحلة ابن بطوطة وابن جبير وابن رُشَيد، وليس بشيء آخر. ويرجح محمد الفاسي الاسم الأول ودليله على ذلك أنه لم يذكر المغرب إلا انطلاقه منه، يقول:" ...هذا الاسم لا يطابق المسمى، فليس فيها من أخبار المغرب، وما كانت عليه حواضره وبواديه، إلا النزر اليسير، نجده في صدرها عندما حدثنا في ذهابه عن بلاد سوس وما حل بها من خطوب مجتاحة..." وكيفما كانت الحال فهي رحلة قام بها محمد بن محمد بن علي ابن عبد الدار، وإلى هذا الاسم الأخير انتسب.
خرج العبدري، في رحلته، من المغرب، من منطقة حاحة على الخصوص، قاصدا بذلك الديار المقدسة لزيارة قبر الرسول "ص" والحج إلى بيت الله الحرام، وملاقاة العلماء والمشايخ من أهل الدين للأخذ عنهم وللزيادة في العلم حتى يدرك ما فاته منه، وكان كلما وصل مدينة أو قرية سأل عن علمائها حتى إذا وجدهم انشرح قلبه لهم وتعرف عليهم، وجالسهم ومدحهم، ومدح المكان الذي يوجدون فيه، أما إذا لم يجد أحدا انقبض صدره وهجا المكان وأهله.
لقد استغرقت الرحلة زهاء ثلاث سنوات بين ذهاب وإياب، حج فيها إلى البيت الحرام وزار قبر النبي(ص)، ثم عاد إلى تونس ومكث فيها لمدة سنة التقى بعلمائها وأخذ عنهم ما فاته من علم وعاد أدراجه إلى بلده.
ـ منهج الرحلة
اعتمد العبدري في رحلته على منهج واضح يجمع بين الوصف والسرد والنقد، يقول:"... فإني قاصد بعد استخارة الله سبحانه، إلى تقييد ما أمكن تقييده، ورسم ما تيسر رسمه وتسويده، مما سما إليه الناظر المطرق، في خبر الرحلة إلى بلاد المشرق، من ذكر بعض أوصاف البلدان، وأحوال ما بها من القطان[5]، حسبما أدركه الحس والعيان، وقام عليه بالمشاهدة شاهد البرهان". والقارئ للرحلة يجد أن الكاتب التزم بما ارتضاه من مسلك وطريق لهذه الرحلة، حيث وصف الدول والمدن بدقة كبيرة، فحدد معالمها العمرانية ووصف مآثرها التاريخية، وبعد ذلك وصف الناس في علاقاتهم الاجتماعية وعاداتهم وتقاليدهم وطريقة لباسهم ...، وكان كلما لم يعجبه شيء لم يسكت عنه بل ينتقده ويفضح عيوبه، كما فعل بمدينة طرابلس ومدينة تلمسان التي قال عنها :"وأما العلم فقد درس رسمه في أكثر البلاد، وغاضت أنهاره فازدحم على الثماد[6]، فما ظنك بها وهي رسم عفا طلله، ومنهل جفَّ وشلُه[7]"[8]، كما أنه كان يدون كل ما تراه العين، مما تعاني منه هذه المنطقة أو تلك من ويلات كدخول الأجنبي؛ فهو حين زار مدينة بونة بالجزائر وجه الأمور فيها غير مستقرة، فقال فيها :"ثم وصلنا إلى مدينة بونة، فوجدناها بلدة بطوارق الغير مغبونة، مبسوطة البسيط، ولكنها بزحف النوائب مطوية مخبونة ... ومن أغرب المسموعات أن صادفنا وقت المرور بها زويرقا للنصارى لا تبلغ عمارته عشرين شخصا، وقد حصروا البلد حتى قطعوا الدخول والخروج، وأسروا من البر أشخاصا، فأمسكوهم للفداء بمرسى البلد"[9]
4 ــ خاتمة
تعتبر رحلة العبدري عملا أدبيا بامتياز لما تحتويه من رواية وتراجم العلماء والأدباء، كما أنها تتجه إل الشعر بشكل خاص، فقد كتب نصوصه الخاصة وإلى جانبها جمع قصائد لمن أخذ عنهم من فقهاء وعلماء، كما أنه انتقد كل ما لم يعجبه مبينا عيوب هذه البلدان، وما يقل فيها من تعبد وزهد. وهذا جرَّ عليه مجموعة من الانتقادات، ردَّ عليه أصحابها في مؤلفات خاصة، كما فعل أحمد بن قاسم البوني في كتابه "التعريف ببونة إفريقية بلد أبي مروان الشريف".
قلت إن الكتاب تحفة فنية من الأسلوب، فقد اعتمد فيه طريقة الكتابة في عصره حيث السجع والمحسنات البديعية، كما يظهر أنه ملم بعلوم الشرع وبدقائق اللغة، فصرفها فيما ألفه من أشعار، وما قام به من وصف للأماكن التي زارها. يقول فيه المستشرق بونس بويكس الإسباني "...ورحلة العبد ري كما يرى يسودها الإخلاص والتدقيق في الوصف وأسلوبه فيها حي جميل وهذا هو السر في إقبال الناس عليها، وفي النجاح الذي صادفته في الأوساط الأدبية..."[10]
المراجع
1 ـ رحلة العبدري ـ تحقيق إبراهيم كردي
2 ـ الرحلة المغربية ـ تقديم د. سعد بوفلاقة
3 ـ رحلة إلى المشرق العربي ـ ترجمة محمود العابدي
4 ـ دعوة الحق، الرحالة المغاربة وآثارهم ـ محمد الفاسي ، العدد 14ـ 15ـ 16والعدد 44 ـ 46
5 ـ المشرق في نظر المغاربة والأندلسيين في القرون الوسطى ـ صلاح الدين المنجد

ـ مقدمة ابن خلدون[1]
[2] ـ المشرق في نظر المغاربة والأندلسيين في القرون الوسطى، الدكتور صلاح الدين المنجد، الطبعة الأولى 1963، ص 18 ـ 19
[3] ـ نسبة إلى قبيلة عبد الدار بحاحة، قرب مدينة الصويرة
[4] ـ دعوة الحق، العدد 46
[5] ـ القُطَّان، جمع قاطن وهو الساكن، نقول قاطن البيت ساكنه
[6] ـ الثماد، الحُفَر ذات الماء القليل
[7] ـ الوشل، الماء القليل يخرج من صخرة نقطة بنقطة
[8] ـ رحلة العبدري
[9] ـ الرحلة المغربية، ص63
[10] ـ دعوة الحق، عدد 14

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى