أمل الكردفاني- أرض الشجن- قصة

ككائن فردي، توقع كل شيء..فهناك كوتة من غمار لا بد أن تخوضه..وحينها عليك ان تتجاهل أكذوبة الجماعة..
يا سيدي أنا الآن داخل زنزانتي الإنفرادية، واعترفت أمام المحكمة اعترافاً واضحاً بأنني قتلته، ورغم ذلك فضَّل القاضي ألا يحكم عليَّ بالإعدام.. وهذا ليس ذنبي...فإما أنني قتلته متعمداً ويجب أن أُعدم أو لم أقتله متعمداً ويجب أن لا أكون هنا.. هذا ما أفهمه..أما ما قاله المحامي فهذا ما لن أستطيع أبداً أن أفهمه لأنه لا يبدو لي طبيعياً.. هل من يضع القانون كائن فضائي؟ لا أدري حقاً..
ليس من السهل أن اتجاوز عن هذه المسائل، ما أعرفه أنه كان يجب أن أعدم..
لقد نلت نصيبي من ذلك الغمار، وحين أدركت كنه العالم، كان الأوان قد فات..هل تسمع..فإن لصوتي صدى داخل هذه الزنزانة..وهو صدىً مزعجٌ جداً لا أستسيغه..
لا بالتأكيد..لا.. لم أكن أتوقع ان تكون زنزانتي ساطعة بالضوء الأصفر الذي يجهر العينين ويحيل الشتاء إلى صيف.. لكن ماذا أفعل؟.. هناك علامة تعجب وعلامة استفهام ولكن..أين علامة خيبة الأمل، علامة القنوط علامة الاستنكار واين علامات الصراخ والفزع والمسكنة والخذلان..ألا يجب إعادة تشكيل علامات الترقيم من جديد..؟
أي نصيب هذا الذي نلته من هذا الغمار يا سيدي.. أنت سيدي نعم ولست متكبراً لأرى في ذلك غضاضة.. فخمسة وأربعون عاماً كافية تماماً لأقترف أول جريمة قتل في حياتي وأردي معها آخر ربقة لي من كبرياء وغرور.. أليس كذلك؟ لأنني تعلمت أخيراً، أن ذلك الغمار الذي خضته، قد خضته بجهالتي لا بوعيي ومع ذلك فأنا لا ألتمس فرصة أخرى، ولا أعرف سبب عدم رغبتي في ذلك، ربما يكون خوفاً من أن تكون معايير اللعبة قد تغيرت فجأة في غمارٍ جديد.. صدقني -وأنا مؤمن بذلك- أن من يجد فرصة الإفلات من حكم بإعدامه مرة، فسوف يحاكم مرات ومرات أخرى حتى يتدلى جسده من حبل المشنقة حقاً، فالوعي مهما كان لا يستطيع أن يجاري تبدلات الأحداث، لذلك لا أجد ما تفعلونه من منحي إفراجاً مشروطاً شيئاً ذا بال.. بل أراه هروباً من مواجهة أنني مجرم....
أن تكون واحداً، وانا أعني ذلك بالفعل، فإن عوالق العاطفة السخيفة والجاهلة تتساقط من كيانك قطعة قطعة..وتضطر لأن تواجه الحقيقة التي خفت من مواجهتها طيلة عمرك.. أنك ملقى في هذا الوجود عارياً وأعزلاً وأن عليك أن تغزل لنفسك رداءً وأن تصنع لنفسك سلاحاً واحداً على الأقل..ثم تسير بحذر وترقب واستعداد على الدوام...كما يجب عليك أن تتجنب الموت..هذه هي المعادلة التي كان من المفترض تعليمها لكل من يَنملِص من فرج أمه المظلم صارخاً وطالباً الأمان..
ولكن هذا كله لم يحدث..ولذلك ظللت عارياً وأعزلاً... ولذلك قتلته..لأنك في مثل حالتي يجب أن تكون شديد المنطقية، يجب أن تعترف بالهزيمة ولكن ليس قبل أن تُحمِّل كائناً آخر بعض الإثم..ليس قبل أن لا تموت كحشرة، بل يجب أن تمنح نفسك تعويضاً معنوياً للفناء بضمير مستريح..أليس كذلك..
ربما أدرك القاضي كل ذلك فقرر أن لا يمنحني تلك الفرصة في موازنة السخط والرضى داخلي..لقد رجَّح بحُكمه ذاك كفة السخط عندي على كفة الرضى، وإن ذلك لهو العذاب الأنكى والأشد قسوة..لذلك يا سيدي فإنني ارفض الإفراج الشرطي جملة وتفصيلاً ولن أتعهد بشيء..
...
"هذه أرض الشجن"
يقول الكهل النحيل طويل القامة فترقص لِغادُه المتدلية من رقبته، وهما يقطعان أزقة تحيط بها منازل طينية قصيرة كبيوت النمل..
"إنني لم أرتح لك يا ولد.."..غير أن الآخر لا ينفعل كما لو كان يؤكد حق الكهل في عدم الارتياح لنظراته القلقة.
"ليست كل الكواكب متشابهة..لا يوجد كوكبان متطابقان"..
يهمس الكهل..
الأرض وعرة وخطواتهما متعثرة، كأرنبين يسيران بضع خطوات ويتوقفان ثم يواصلان المسير.
وعندما يغمر الظلام وجهيهما عند زاوية ضيقة يتوقفان. ويقول الكهل:
- يمكنك أن تفعلها هنا..
ثم يرتمي الكهل مضجعاً ويبدأ الآخر في ذبحه وهو يبكي..
...
"لقد قتل المتهم والده يا سادة..ذبحه من الوريد إلى الوريد..فأي بشاعة تلك وأي انعدام للضمير..إن المتهم وقد أقر واعترف بذنبه يكون قد اسدل الستار على آخر خيوط القضية...ويجب –أقول- ويجب أن ينال أقصى وأقسى العقاب بعقوبة تردعه وتردع أمثاله وهي عقوبة الإعدام"..
يتدخل القاضي:
"كيف ستردعه عقوبة الإعدام يا سعادة النائب؟"..
يرتبك النائب ويقلب الأوراق ثم يقول باضطراب:
"عفواً سيدي القاضي..لقد أخذتني بشاعة الجريمة"..
يقول القاضي متهكماً:
- أبكتني عاطفة مرافعتك الجياشة..
فيضحك الحاضرون بالقاعة..حينها يضرب القاضي بعصاه ليهدأ الصخب..
- إن مرافعتك طويلة في قضية واضحة وتهمة مُعترف بها..لكنها رغم ذلك تبدو عصية على الفهم..لذلك أجد لك العذر في تلك الإطالة إذ لم تكشف بعض الاحتياجات القضائية وليس القانونية مثل الدافع لاقتراف الجريمة..صحيح أن الدافع ليس عنصراً من عناصر التجريم..لكنني اشعر بأن مجرد الحكم بالإعدام على اللقطة الأخيرة دون فهم الصورة كلها يقلقني جداً..والمتهم اعترف فقط بالنتيجة الإجرامية واعترافه كاف..تعلمون أنه من المفترض أن يكون الإعتراف سيد الأدلة..لكن ذلك مبدأ عفا عليه الزمن، فكم من اعتراف قد يكون كاذباً بغرض إفلات المجرم الحقيقي من العقاب، أو حتى لتعرض المتهم للضغط عليه أثناء التحقيق بما يشوش عليه إرادته، وهذه القضية بالتحديد لم يستطع ضميري أن يستسيغ الإعتراف المبهم فيها..فلا بصمات على أداة القتل ولا شهود ولا شيء سوى اعتراف المتهم..ومن محضر التحقيق نجد أن اعترافه جاء بمجرد القبض عليه وهو داخل حوش واسع مهجور تحيط به أشجار المسكيت..أو كما اوردت أنت يا سيادة النائب وصفها بالشيطانية..لماذا وصفتها بالشيطانية؟..لا اعرف..لأننا اثناء طفولتنا كنا نحب مضغ ثمارها حلوة المذاق مع تلك الحموضة الصغيرة..يبدو لي أنك كنت تحاول زرع صورة كئيبة لحالة المتهم اثناء القبض عليه وهو واقف يتأمل السماء المظلمة والتي وصفتها بأنها كالحة كالقبر، رغم أننا في الصيف حيث النجوم تزهوا في السماء..لكن لا بأس..إنني فقط أنوه -كملاحظة لا أكثر- بأن لا تكون المرافعة عاطفية كروايات العشق (يضحك الجمهور فيضرب القاضي على طاولته بالمطرقة الخشبية) ، مع ذلك فليس هذا أمراً مني ولكنها مجرد ملاحظة..على أي حال فإنني سأرجئ النطق بالحكم حتى يوم الخميس القادم.
....
تتكوم المرأة الغجرية في ركن المنزل وهي تحتضن صبية، وضوء الشمعة يتراقص على جسديهما، مخلفاً بعض الظلال الشبحية..
تبكي الصبية بصوت مكتوم، أما المرأة فعيناها ثابتتان تحدقان في الظلام. وحين ينفتح الباب ينظران إلى الشاب الذي يدخل ويرقد مباشرة على الأرض مغطياً عينيه بذراعه الأيسر وجسده يرتعش. ثم يغمر الصمت الجميع... تشير المرأة للصبية فتترك الأخيرة أحضانها وتتجه نحو الباب فتغلقه وتعود.
تهمس المرأة:
- صيف طويل..(تصمت قليلاً)..كبقية فصول الصيف السابقة.. (يبكي الشاب لكنها لا تنظر نحوه).. للحوادث حتميتها..أليس كذلك؟ (يزداد نشيجه) إنني أتذكر كل طفولتنا سوياً..وما حدث لا يستهان به .. كل أخطاء الماضي لم تكتفِ بحدودها الزمانية بل أنتجت كل الحاضر..كانت تصرُّ على أن تتواجد داخل أنفاسنا وكان من المحتم علينا أن نضع حداً لكل ذلك..(تلتفت إليه) أليس كذلك؟..(تعود للنظر أمامها) ومع ذلك..فالماضي تكثف الآن وأضحى أكثر تجلياً داخل أنفاسنا..برائحته النتنة..بظلمته..بنواحه..لذلك..يجب الآن فقط أن نفترق..كلٌّ في طريقه..أنت في طريق وأنا في طريق..والصبية في طريق..(تنتحب الصبية وتتشبث بياقة المرأة).. متأكدة بأننا نكون قد دحرنا طوفان الماضي تماماً..لو كنت محظوظاً أكثر منا فستُعدم..
يصلب ظهره ويمسح دموعه بكم قميصه الملوث بالدماء:
- نعم.. لا حل سوى هذا.. سأعترف..يجب أن أُعدم..هل يمكنك ذبحي..(تنظر نحوه بعينين مرهقتين)..إذاً فليكن..
يفتح باب الكوخ ويندفع للخارج..وتزداد الصبية تشبثاً بالمرأة غير أن المرأة تحل ذراعيها من حول رقبتها برفق، وتنهض وهي تقول:
- يجب أن أغادر...اتخذي قراراتك بنفسك..
تنفجر الصبية بالبكاء.. لكن المرأة.. تغادر..وتتركها وسط الكوخ الذي تنطفئ شعلة شمعته فتختفي صورة الصبية داخل كثافة الظلام ويبقى صوت بكائها الفزع..
(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى