أمل الكردفاني- رسالة حب من رجل أربعيني- قصة قصيرة

سيدتي..
فكرت طويلاً قبل أن أجلس أمام مكتبي لأخط هذه الرسالة على الورق....لتحمل شيئاً من رائحة الحقيقة أي جزءً مني انا كإنسان من لحم ودم وروح وقلب، لكي تحمل رائحة الحبر، والظلال على إنثناءات الورق، أخطائي الإملائية وخطي المرتبك..فكرت قبل أن اكتب لك هذه الرسالة كثيراً..لأننا في ظروف معينة لا نريد أن نبدو مراهقين ولا أعرف لماذا، فمن قال بأن المراهقة شيء سيئ، المراهقة هي انفتاح زهرة الروح على الحب والجسد..، حيث يكون للكلمات معنىً كبيراً جداً، للإلتقاء، للحديث، وللهمس، ثم الابتعاد والافتراق،..أي قمة الإنسانية..مع ذلك، فتجاربنا القاسية بعد ذلك تحيك خيوط الجبن والخوف فينا، وتنحت أقنعة الرزانة التي ليست سوى جدران ضخمة تمنع إنفجاراتنا الداخلية لنكون نحن هم نحن..لنكون كما نريد، لنكون شجعاناً عندما نعبر خط الحدود بلا وجل. فكرت كيف أبدأ رسالتي هذي، فليس أكثر رعباً من أن يواجه الرجل امرأة يحبها حقاً، أن يعلن ويصرح، أن يندفع ولا يحاول -كما أفعل الآن- أن يستخدم المجازات ليتجنب وقوع ما يخشاه..إنكسارات قلب جديدة..
مع ذلك كان حتماً عليَّ أن أكتب لك هذه الرسالة..لأن العرف الإنساني يفرض على الرجل أن يبادر دائماً متحملاً المخاطر، لأنه وكما يشاع خطأ، يملك القدرة على التحمل. ولكن هل هو كذلك؟...إن القلاع الضخمة المصنوعة من تراب تخدع صورتها الناظر إليها، فهي قد تنهار بسرعة تحت أول وابل مطر.
نبشت عدة كراريس بأوراق مختلفة، واحترت أي لون سأختار، اي لون مناسب، مناسب لأن يمتص أي ردة فعل غاضبة منك، أن يمنحك الأمان الأول، أن يشفع لي قبل أن تتخذي حكماً حاسماً، فاخترت اللون البرتقالي. وأنا اخشى أن يتسرب إلى قلبي اليأس فيزعزع إرادتي فأتناسى الامر برمته، أسرعت باختيار القلم الذي سأكتب به لك.. نعم..فالكتابة لك يجب أن تنال العناية اللازمة، العناية التي ترقى لمستوى الحدث..الحدث الذي هو أنك ستحملين الخطاب الورقي بأصابعك الرقيقة وتفضي ظرفه بلا اهتمام، ثم تجلسين وامامك فنجان قهوة قبل أن تقطبي جبينك لتقرأي كلمات رجل يُعرِّي قلبه أمامك. إنه ليس حدثاً عادياً أن أتمكن من دفعك لفعل كل ذلك، كل ذلك المجهود البدني والعقلي والقلبي. فبعد كل ذلك المجهود سيتغير عالمي إلى الأبد..في كل الأحوال سيتغير إلى الأبد..فالعالم بعد الثورات الكبرى ليس هو العالم قبلها. فإما أن أتحول لقائدٍ هُزم جيشه وأبيد بأكمله ولكنه واصل القتال بمفرده، قتالاً يائساً لا رجاء منه. وإما أن أتحول لقبطان سفينة جنحت به بعد عاصفة إلى جزيرة في أرخبيل الفردوس..حيث الخلود.
لقد ثرثرت كثيراً، لكنه سن الأربعين يا سيدة القلب، حيث تكون كلمة الحب عهداً مقدساً ومسؤولية لها خطرها. ولذلك فلا يمكن أن تُلقى كلمة الحب هكذا، كجنين من سفاح. بل كميلاد أمير. ستخضع له كل الأرض...كلمة تبارك الحاضر والمستقبل، كأول يوم لطالب في الجامعة؛ حيث كل الأشياء عجيبة، كل الوجوه جميلة، كل الحياة معطاءة...
نعم..قد تندهشي لذلك، فلقاؤنا كان يبدو عابراً، في ذلك اليوم المطير من أيام اكتوبر. هل تتذكرينه؟ كنتِ تحملين مظلة شفافة أظهرت شعرك الملفوف لأعلى، ذلك الشعر الأسود الغزير، وعلى خدك الأيسر بضع قطرات من المطر، هربت من رصد المظلة لتقبلك بحنان. دخلتِ وطلبتِ كوب قهوة اسبريسو، لم تنظري لعينَي، بل طلبتِ ذلك وأنتِ تضمين مظلتك لبعضها وتضعينها إلى جانبك ثم تشبكين أصابعك أمامك بقلق. حينها أخرجتُ سجارة وأشعلتها لك، وللمرة الثانية لم تنظري في وجهي بل قلتِ وانتٍ تغرسين أصابعك في شعرك:
- هل مسموح بالتدخين هنا..
فأجبتك بالإيجاب، رغم أنني كنت أكذب. طوال ستة أشهر أخرى لم تلاحظي أنكِ الوحيدة بالمقهى التي كانت تدخن. فقط لأنني كنت أحب أن أراكِ وأنتِ تجلسين وتدخنين، ثم تغيب نظراتك في المدى، ساهمة في حكايات لم أعشها معك..كم كنتُ أتمنى لو كنتُ قد عشتها معك..وحينما تغادرين..أظل أتأملك..فأنتِ لم تغادري أبداً..تظلين هناك أمام تلك الطاولة المستديرة، وأمامك فنجان قهوة وطبق الكب كيك ومنفضة سجائر اشتريتها خصيصاً لزبونتني الوحيدة..نعم.. لقد تحول كل الزبائن الآخرين لكومبارس عليهم أن يتواجدوا كشخصيات ثانوية..لتكوني أنتِ فقط هناك.. على طاولتك أمام طبقك وفنجانك ومنفضة السجائر.
أتذكر ذلك اليوم جيداً، حينما جئتِ مع رجل يقاربني في السن. وسيماً ويبدو محامياً من حركات يديه الكثيرة، وحديثه الضاحك المحمل بثقة لا يملكها إلا المحامين وكأنما كل البشر غيرهم لا يفهمون شيئاً، كان وصفي السلبي كله ليس سوى غيرة عمياء. ثم تبين لي فيما بعد أنه يعمل على قضية طلاقك..قال هو ذلك بوضوح عندما دخل وهو يفتح ذراعيه ويقول كامبراطور:
- مبروك..كسبنا الدعوى..
ثم لم أره معكِ مرة أخرى..
ادركت أنني بالفعل كنت شبحاً عابراً في الوجود حينما كانت لكِ حكايات.. كم كنت أود لو ولدنا معاً وترعرعنا معاً وعشنا كل حكاياتنا معاً...لكن ذلك لم يحدث بالطبع..
لا أعرف إن كنتِ ستكملين قراءة رسالتي هذي أم ستتوقفين هنا.. ستحتفظين بها أم تلقينها في سلة المهملات..تتركينها كوثيقة حية ام تمزقينها فتفنى.. لا أعلم.. لكن.. من منا كان يعلم أن كل أحداث حياته كانت غايتها أن تنتهي لحدث واحد..واحد فقط..حينما تفتحي الظرف وتخرجي الورقة ثم تبدئين في قراءتها بجبين مقطب ونظرات ثاقبة...وقلب...قلب بيده كتابة كل ما سيلي ذلك من قدر...
..

عُدت وسألت النادل الذي يعمل معي:
- هل استلمتِ الرسالة؟
أجاب بغير اكتراث:
- نعم..
سألته مجدداً:
- قرأتها؟
قال وهو ينظف الطاولة الرئيسية:
- لا أعتقد..لقد أدخَلَتها في جيب معطفها ثم غادرت..
ظللت أكرر نفس هذا السؤال عليه لسنوات أخرى حتى ساعة تركه للعمل..فهي لم تعد إلى المقهى بعد ذلك اليوم أبداً..

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى