عبد الرحيم التدلاوي - الحكائية والسخرية في مجموعة «مسافات» لسميرالشريف

من منشورات وزارة الثقافة الأردنية صدرت للقاص سمير الشريف مجموعته القصصية القصيرة جدا «مسافات»، في طبعتها الأولى سنة 2018.
تتميّز القصة القصيرة جدا عن غيرها من أشكال الأدب السردي بالحكائية الموجزة، كما تحتفل فضلا عن ذلك، بالتركيز، والتكثيف، والتجويع اللفظي، والحذف والإضمار والعنصر التخييلي.
وبما أنها نص حكائي فالأمر يستدعي توفّر مجموعة من العناصر المؤسسة لـهذه الحكائية داخل نسيجه اللغوي، كالتعاقب الحدثي، و العلاقة السببية بين الوقائع، و التحوّل السردي بين وضعيتي البداية و النهاية، إضافة إلى وجود ذوات فاعلة و فضاء مؤطر للأحداث، و غيرها من العناصر التي تُحقّق لكلّ نص سردي هويّته الحكائية بغض النظر عن طوله أو قصره.
ويفرض الإيجاز الشديد على كاتب القصة القصيرة جدا جملة من التدابير السردية، كالتركيز الفائق للأحداث في بؤرة التوتّر القصوى، و الاستغناء عن الاستطرادات، و تجاوز الوصف المفصّل الثابت، و تقليص عدد الشخصيات مع تحاشي الاستبطان المسهب لدواخلها، و استهلال الحكاية من لحظة أوج تأزّمها دون الحاجة إلى مقدّمات، و الإضمار المستمر لعنصري الزمان و المكان، و التسريع من وتيرة السرد، و ما إلى ذلك من استراجيتيات التكثيف الحكائي و الاقتصاد السردي.
ما سبق يستوجب قارئا فطنا؛ قارئا منتجا قادرا على توليد مضامين النص المضمرة و استخلاص الدلالة المغيّبة داخل المزيج النصي المضغوط.
فهل استجابت مجموعة «مسافات» لسمير أحمد الشريف لهذا البعد؟
بالنظر إلى المتن، وما يحمله من نصوص تقارب ستا وثمانين مبسوطة على اثنتين وتسعين صفحة، يمكن القول بداءة إنها لا تخضع جميعها إلى هذا الشرط حيث نعثر على نصوص ذات السطر أو السطرين وقد ابتعدت عنه، إذ جاءت مجرد جملة واحدة تقربها من الومضة لا القصة القصيرة جدا، مثال ذلك نص «لعاب» الذي يقول:
أمام عربة الحلوى، مضغ المتسول أمنياته المهاجرة.
ونص «جدوى» الذي يقول:
ذات وجع انطلقت الجثة تبحث عن قبر.
وفي حين، نجد أخرى قد استجابت لهذا الشرط، فوظفت الحكاية مع تركيز دقيق للأحداث، وطرحت الاستطرادات والأوصاف الزائدة لتضمن لنفسها الرشاقة المطلوبة.
وتجدر الإشارة إلى أننا قد وجدنا ضمن النصوص نصا واحدا ذا صفحتين، وكان ذلك نتيجة اعتماده بعض الزوائد التي كان من الممكن الاستغناء عنها؛ نص «تأريخ»؛ هو نص يقربه من النص المسرحي القصير جدا؛ فقد استفاد من تقنياته، من خلال عرض الزمان والمكان، والحوار، والإرشادات المسرحية.
وعليه، فمعظم نصوص سمير تستوفي، أهم الشروط الأدبية و الجمالية الكبرى لكتابة القصة القصيرة جدا كما أفرزتها خلاصة التنظيرات النقدية المواكبة لهذه الظاهرة الكتابية الفريدة، و في مقدّمة هذه الشروط الخاصية الجوهرية الأساسية الحكائية التي تشكّل أحد المفاصل الأساسية في تشكيل العوالم القصصية التي يبدعها سمير بغير قليل من الاتقان والاقتدار.
لقد قدم لنا القاص نصوصا تدل على بارعته في تطويع الحكاية لمقتضيات السرد المضغوط و الفائق الإيجاز، كما تؤكّد براعة هذا القصّاص، في الغالب، في الجمع بين الواقعي و الفانتازي، التراجيدي و الساخر، مع اعتماده الحكي المشهدي و الحواري، و غيره من أشكال التعبير السردي الموسوم بالدلالة العميقة و المتعة الفائقة.
و من أبرز النصوص ذات الطبيعة الحكائية التي يتعالق فيها الواقعي بالدرامي نص «استكشاف» ص9، فالبرغم من نهايته غير المنتظرة، نجده يحمل بعدا دراميا يتجلى في فقدان الفتاة لنعمة المشي بفعل فقدانها لرجليها؛ قد يكون الأمر صادما للشخصية التي ظلت تتابعها بوله حتى بعد انتهاء الدوام، لكن صدمة القارئ أشد وأبقى، ليلاحق المشهد المؤلم بسؤال أخلاقي: ماذا سيفعل الرجل الذي تابعها بعد أن علم بعجزها؟ هو سؤال ضروري، إجاباته متعددة، ومفتوحة، وذات ارتباط بتكوين الرجل الشاهد وما يحمله من قيم إيجابية.
والأمر نفسه بالنسبة لنص «دموع»12. فهو نص درامي يرتبط بمشاعر الطفل الرهيفة حيث إنه لا يقوى على رؤية انحدار الدمع من عيني أمه، فيلتجئ بطلبه إلى العيد زمان الفرح بأن يمنع وقوع الحزن.
مقابل ذلك، يأتي نص «إنسانية» ص10 على النقيض، إذ هو مجرد تتابع جمل، دون حضور للصراع ومن ثم المفارقة الدرامية الغنية بدلالاتها. فرغم مراجعته لكل المآسي، وتوجهه لحضور مؤتمر الرفق بالحيوانات، فالمفارقة لم تكن شديدة الوقع من جهة، ولغياب الحكائية من جهة ثانية.
و من النصوص ما يجمع بين الواقعي والغرائبي في تركيبة منسجمة، ذات نهايات ملغومة، كما نص «اختناق «ص 14، حيث يجاور المنطقي العبثي، والقفلة تضاد البداية، والفعل يعاكس رد الفعل:
عندما قفز النمر من اللوحة التي يضع الفنان رتوشها. لم يحرك الرسام ساكنا غير أنه أحس بخيط ساخن ينساب تحته بهدوء.
يبتدئ النص بلحظة تأزم؛ فالرسم كان أولا، والقفز جاء نتيجة، لتكون القفلة إيحاء، تعبر عن فرق الرسام مما أتى.
ونص «استدراك» ص 15، ينطوي على الحكائية، وينحو باتجاه نقد المجاملات في الإبداع، إنه يتخذ البعد الميتاسردي موضوعا ليندد بالتمييع الذي يذهب ضحيته الإبداع؛ فالزيف والنفاق عملات تضر بمصداقية الكتابة.
وإذا كان النص السابق يدين التملق والزيف في الفن، فإن نص «براءة» ص16، ينتقد المتاجرة بالدين، من خلال شخصية جمعت ثروة بفعل بيعها مواد ذات ارتباط بالحقل الديني وحافة به، وتأتي المفارقة بين العنوان ونصه، فالرجل ليس بريئا بل مدانا.
في حين يأتي نص «ورطة» ص18، لينتقد سلوكا شنيعا يتمثل في ما قامت به الزوجة من خداع، موظفة وسائل التواصل الاجتماعي في ممارسات مراهقاتها المتأخرة، نجاحها في جهل زوجها للتقنيات الحديثة، وفشلها في إدراك ابنها لها، وسعيه إلى إيقاف العبث.
ويأتي نص شطرنج» ناقدا لسلوك الأب وهو يعلم ابنه قواعد اللعبة أمام استغراب هذا الأخير وهو يتابع ملامح أبيه.
وتعتمد بعض نصوص المجموعة على تقنية الميتاقص، كما ورد في نص أعلاه، وفي نص «رفض» ص21، حيث تتمرد شخصية النص على الكاتب، وترسم لنفسها مصيرا غير المصير الذي أراده لها كاتبها.
أمّا الحكي الساخر، فيحضر في جملة نصوص. فالكاتب يكاد يوظف هذا السلاح البلاغي الحداثي في تصدّيه لكافة مظاهر التخلف و الانكفاء العربي على جميع الأصعدة الساسية و الفكرية و الدينية و الاجتماعية .. و منه نص دروس» ص 22، حيث يتم الحديث بمرارة عن تفتت الوطن المستمر أمام أنظار الشخصية التي تتمنى وحدة إلى أن بلغت مرحلة الكبر، لتجد في الهجرة علاجا وحلا لأزمة انتمائه. نصوص تتّخذ من النفاق الاجتماعي والسياسي والديني موضوعا للنقد و للسخرية، نقرأ منها: «رأفة»74، يتحدث فيه السارد عن الإعلامية اللهبوبة التي ترفض الاعتراف بجريمتها التي راح ضحيتها الرجل السبعيني لافظا أنفاسه الأخيرة صحبة رجفته اليتيمة معها.
وفي نص «مرايا» نجد السارد ينتقد موقف النفاق حين يسارع الرجال إلى إظهار صداقتهم للميت وهم الذين لوثوا سمعه طيلة حياته.
إلى غير ذلك من النصوص التي فضحت خبث الإنسان، وسعت إلى تعرية الكذبة والمتملقين.
جاءت بعض النصوص رمزية تعتمد لغة الإيحاء، من مثل نص «محاولة» ص24، فمفردات القصة تكتب المعاناة بفعل الشك الذي يهيمن على فكر الحاكم العربي، إذ يرى في تقارب غصنين حبا مؤامرة تستوجب القصاص. الحب في الزمن العربي ممنوع. والأمر نفسه بالنسبة لنص «تحذير» ص25.
يوظف القاص التناص لمنح نصوصه عمقا دلاليا كما في نص «هروب» ص70، حيث اعتمد الآية القرآنية: «فبهت الذي كفر»، ذات الارتباط بالجدل بين إبراهيم والطاغية، للتعبير عن سطوة المال وقدرته على تخريب الدول، وتحطيم الأمم.
2. نصوص يسخر فيها الكاتب من نفسه، كما في «عري» ص80، فالسرد كان بضمير المتكلم والذات الساردة تتخذ نفسها موضوعا للسخرية، تتحدث فيه عن شربها للشيشة إلى رأت نفسها جثة صار مخيفة مما دفعها إلى الهرب من نفسها.
هذا فضلا عن نصوص تصبّ نقدها الساخر على تجّار الدين الذين يبيعون الأوهام، ويستغلون حرمان الفقراء ليغتنوا معمقين من وضعية هذه الفئة المأساوية بدل العمل على حلها أو التخفيف منها.
يظهر أن القاص قد عالج العديد من القضايا السياسية والاقتصادية الاجتماعية والثقافية، ديدنه البحث عن مخرج من هذا الفساد المعمم، ومن جرثومة النفاق الذي أفسد العلاقات، كل ذلك بلغة بسيطة تروم السخرية للتعرية والفضح، معتمدة في الغالب على الحكائية، والحذف الدلالي والتقتير اللغوي.


1611059664878.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى