حيدر الناصري - صيّادو الأسود المدجّنة

[SIZE=22px]منذ انخراطي نادلا في مطعم ومقهى (جمشيد)، المطلّ بواجهته العريضة على البحر، وهذه الزبونة التي تطلي شفتيها بالأحمر الباهت، وتعتمر قبعة نوع (فيدورا الجرس)، وتغيّب قدميها بحذائين بلون الآجاص، لم تغيّر مكانَها في أقصى المقهى، تختار الطاولة التي تقابل أوسع النوافذ؛ لتواجه البحر بكامل أنوثتها وتأنّقها.[/SIZE]
أظل أراقب بشغف، واتحيّن الفرصة؛ كي ترفع كفّها العارية من الخواتيم، لاهمّ مسرعا بالمينو... .. اليوم وعلى غير عادتها، لم تكلّف نفسها رفع رأسها؛ نظرت إليّ بعد أن رفعت حدقتيها ، لتطفو على وجهها الهادىء ابتسامة محيّرة، وترد عليّ بألفة طاغية:
أ لم تعرف مزاجي بعد، أيها البابليّ!
أضمر الإجابة في داخلي، فأنا أعرف مزاجها، وأعرف أيضا:
متى تجيء ومتى تمضي، وكم رشفة يستلزم فنجان قهوتها لكي ينضب، وكم هيكل سفين محمّل بالبضائع والبشر أحصت عيناها، وهي تمرق قبالة المكان.
كثيرا ما ألمح في عينيها شرودا، كشرود ملّاح مكروب، يسرّح ببصره القانط في الوحشة، يبحث عن شراعٍ جليٍّ في ضباب الأفق البعيد، عن ريحٍ تسوقه إلى شاطىء قريب.
من خلف كونتوار الخشب، صاحب المقهى يلمّع قدحا، ويرمقني بغيظ، فهو غير مستعدّ لأن يفرّط في مثل هذه الزبونة، التي تترك بأريحية تامّةعلى وجه طاولتها، خمسة أضعاف ثمن فنجانها.
يومىء إليَّ، كي أوزّع حضوري بين الزبائن، والكف عن التربّص بالزبونة، أبادله النظرة، وأسرّ لنفسي:
ماعداها، هذا المكان، يخلّف طعما مرّا في لهاتي.
يدخل ثلاثة سيّاح على وجوهم آثر لفح الشمس؛ فألتهي عنها قرابة نصف ساعة، بتنفيذ طلباتهم المستعجلة و مسايرة أمزجتهم الصعبة.....من دون أن أدري، يباغتني منظر طاولتها الخالية!
تدقّ الساعة معلنة انتصاف الليل؛ أغلق باب المطعم الزجاجيّ، وأضعُ لافتة: مغلق...
يربت صاحب المقهى كعادته على كتفي محذّرا:
أريدها لمّاعة حين آتي في الصباح.
أجيبه بثقة: حاضر سيدي.
أرفع سيقان الكراسي على وجوه الطاولات؛ وأنظّف بلاط الأرضيّة... أنتهي، فأحكم دروع النوافذ وأغلق الباب الحديديّ...
أمرُّ بالشحّاذ الذي يفترش (جوبلان)، لم يبق من ألوانه سوى لبدة أسد باهتة، أرمي إليه بـ (دراخما)، فيثني عليّ بانحناءة تخجلني، أتركه فتبتلعني متاهة الشوارع، التي تأخذني أنحاءات سككها وظلامها إلى مستقرّي: بنيسيون (ميرادا).
أقضى ملل المسافة الطويلة، في النبش في الذاكرة؛ فيضجّ المكان من حولي بمواكب الجيوش الراجعة من بابل، وحشود الأثينيّين تتراصف وتتزاحم على جانبي الشوارع؛ لتظفر بمكان تلمح فيه وجوه فتيات بابل، ذوات الجدائل الطويلة، والأعناق اللامعة، والعيون الواسعة الصافية، والخدود الموّردة، وهن حزينات، لايدرين في أي مكان، سيصفو مآلهن.
أشبه بقصّة غريبة، بعد قرون من اقتحام جيش الأسكندر مملكة بابل، سيترك بابليّ خلفه جنائنه تأكلها آلهة الحروب، ويبحث عن عمل في مدينة أثينا، يجنّبه الجوع، والمبيت تحت سلالم الفنادق الرخيصة، الرطبة المظلمة.
أتلو صلواتي، بأن يتعب البحرُ السفن، وأن يضيّع عليها أسباب الوصول، كي لا ينزل البحّارة منها إلى البرّ، قاصدين بنسيون (ميرادا) ليدلقوا كل ماء فحولتهم في غرفتي، فيخلّف مَنيّهم روائح عطنة، و لطخات على فراش سريري، تشبه أشكال جزر موحشة.
أمام باب البنسيون الداخلي، حين رأيت السيّدة المقدونيّة (ثيـسالونيكي)؛ قُبض قلبي، ولساني راح يصبّ الشتائم واللعنات... فهي تخرج إلى الفناء؛ لتصرف المستأجرين أمثالي، إن كان لديها زبائن شبقين، قادمين من عرض البحر.
طالعتني بوجه صلب، وبنبرة صارمة قالت:
الغرفة مشغولة الليلة،نم تحت السلّم، هناك سرير مجّاني، لهذه الليلة فقط!
لعنت أيامي كلها، وساعة مجيئي للحياة، أخذت حقيبتي منها، ومضيت متكاسلا نحو السلّم.
لم أحتمل النوم؛ رائحة الرطوبة وأصوات الصاعدين والنازلين وصرير الزيزان طردوا رغبتي للنوم، تركت السرير وقصدتُ الحديقة، كان فيها ثلاث نزلاء سبقوني إلى هناك، يلعبون الورق على العشب، أبتعدت عن ثرثرتهم، توسّدت حقيبتي وهوّمت عيناي، إلى أن إختلطت في أذني أصوات جزم البحّارة وكعوب المومسات مع ضحكاتهم المجلجة، وهم يغادرون البينسيون بعد ليلة حافلة. بعدها علت صياحات الديكة ذوات الأعراف الحمر، وأطراف صفار الشمس بدأت ترتفع.
خادم البنسيون نقل لي رسالة من السيّدة (ثـيسالونيكي)، مفادها أن لامكان لي هنا.
لم أحاججه، ولم أرغب في استيضاح السبب، أو التماس السيّدة كي تبقيني عندها، فالمكان قذر، وليس عسيرا عليّ إيجاد مثله.
حملت حقيبتي وقصدت مكان عملي.... نوافذ المطعم لاحت لي، وقد تحرّرت من دروعها الحديدية، والباب الرئيسيّ مُشرّع، شككتُ في نفسي، فأنا متأكد بأني أغلقت الباب والنوافذ في الليلة الماضية...
دخلت مذهولا، فاستقبلني شخص يرتدي ملابس الندل، سألني إن كنتُ أنا البابليّ، فأجبته بعد أن بلعت ريقي بمشقّة: نعم.
قال لي: السيّد (جمشيد)، يقول لك أجورك قبضتها مقدّما، لاعمل لك هنا.
تركتُ النادل، وقصدتُ طاولة الزبونة، أنزلت من عليها الكرسيّ، وجلست أستردّ بعض هدوئي، وأعيد ترتيب الفوضى التي تكالبت عليّ منذ البارحة.
النادل الجديد رقّ لحالي، غاب وراء الكونترا، وجائني بقدح ماء وفنجان قهوة، أخذتهما من يده وشكرته.
رحت أسرّح بصري في شساعة البحر الأزرق الماثل أمامي، في مشهد النوارس البعيدة، التي تلطم أجسادها الواهنة أمواج شرسة، في صيّاد شاب انزلق مع زورقه على سطح الماء الهائج، بعد أن رفع قبعته لفتاة تعبث في فستانها الريح، تقف على صخرة الشاطىء.
استوعبت الموقف، ونهضت. النادل كررتُ له شكري، وأوصيته بالزبونة، وأنطلقت أفتّش عن كبينة هاتف...
أتّصلت بصديقي القديم، وتوجّهت إلى شارع البطريرك (يواكيم)، الذي يقع فيه فندق (غولدن إيدج)، حيث يعمل صديق لي هناك، في خدمة الغرف.
استدنت منه درخمات، وزّعت إنفاقها في شراء ثياب توحي للناظر بأني جاني ثمار متمرّس، وقبعة خوص، والباقي ادّخر منه لاستقل عربة الترامواي، الذي ستنتهي مسيرته بالقرب من ميناء (بيرايوس)، ومن الميناء سأركب العبّارة إلى مدينة (ميسينيا)، هناك سأعمل قاطف زيتون، في عزبة جنرال متقاعد، النزيل الدائم في فندق (غولدن إيدج).
صديقي لم أتركه يكمل حديثه، حين أخبرني عن حاجة الجنرال للعمّال، قلت له دون تريّث: موافق. دون أن أدري ما التفاصيل!
ركبتُ عربة الترامواي حذاء النافذة، رغبة أن أملأ عيني بلقطات المشهد الأخير من الشوارع والبنايات والمحال والساحات والتماثيل.
تمثال (ميدوزا)، لاح لناظري وهي غاضبة تحت وهج الشمس، تفحّ أفاعيها في وجوه السائحين المبتسمة، وهم يلتقطون صورا تذكارية معها. رفعت لها قبّعتي أحيّها، وملت بنظري فرأيت فتاة أثينيّة تجلس في الجهة المقابلة، وقد أغراها مشهد رفع قبّعتي لـ (ميدوزا)، فخلّف على فمها ابتسامة خفيفة.....
ركبت العبّارة، ورسينا بعد ساعة على اليابسة.
أعطيت العنوان لأحد ساقة، حدّق السائّق بالورقة ونظر إلي نظرة المشفق، نصحني بالرجوع من حيث أتيت، فالعمل قاس لايطيقه أمثالي.
قلت له هي ثلاثة أشهر، سأتحمّها وأعود للعاصمة، العمل عند العقيد هي فرس رهاني الوحيدة التي أملكها الآن.
انطلق بي بعد أن تجلّى له إصراري، وتوقف بعد أكثر من ساعة، قبالة منازل بائسة مصنوعة من القصدير والخشب والحجارة، ترجّل وأشار نحوها بأبهامه الأيمن.
عرفت منه أنها محطّة استراحة العمّال ومنامهم...
قصدت المنازل، حاملا حقيبتي وهمومي وتعاستي وغربتي وخساراتي، أدوس على تراب لا أعرف ما يضمر وجهه الهادىء المستكين من مفاجأتٍ لي تحته، تجتاحني الرغبة في الاستدارة نحو السائق، الذي فتح غطاء المحرّك ليبرّده، والعودة من حيث أتيت، أضع حقيبتي على الأرض وأوزّع ناظري بين المنازل والعمال الذين تكاثروا أمام دكك البيوت، ينظرون للقادم الجديد، وبين منظر السائق الذي ينظر إلي ويشجّعني على الرجوع، يرفع يده إليّ، فأرفع حقيبتي بإتّجاه المنازل.
كان العمّال من بلدان شتّى، ألقت بهم الظروف في هذا المكان القاسي مثلي، محطّمون كبقايا سفن مجهولة، على صخور الشاطىء القاسية، فلم يعد عندهم بصيص أمل.
رئيس العمّال بعد أن دلّني على المنزل، الذي سأقضي به الأشهر القادمة، قال لي: لابد أن يراك العقيد، ارتح الآن وعند المساء سنقصد القصر.
وضعت الحقيبة على السرير، وأجتمع من حولي العمّال، كل واحد يريد أن يروي لي قصّة تعاسته بالتفاصيل.
مال قرص الشمس للغروب، فقصدنا القصر الفخم، الذي تُرى أضواؤه الباهرة من مسافة بعيدة.... دبّ في نفسي الروع حين وصلنا أمام بوّابة القصر الكبيرة، التي يقف على جانبها الأيمن، تمثال (قنطور) في حالة غضب شديدة، يمسك قوسا كبيرا ويسدد سهمه على الداخلين، وعلى جانبها الأيسر، يقف (آخيليس) رافعا سيفه القصير، في وضعية الانتصار، وتحت ساقه أمير طروادة: (هكتور).
وقف رئيس العمّال، وقال بنيرة مرتبكة:
ستلتقي العقيد قريبا، خذ هذا الدرب المرصوفة وتنتهي بك الى الباب الداخلي، ستجده أمامها جالسا على كرسيه الهزّاز في هذا الوقت، مع كلبه وحارسه الضخمين، سأنتظرك هنا.
تركته ومضيت بهدوء يخالطه حذر، كأني أخطو على حقل ألغام. حين تذوّق رائحة خوفي، أطلق الكلب عواءه، وتسمّرت في مكاني.
رأيت العقيد واضعا ساقه على أختها، يتارجح في كرسيّه الهزّاز، يمسك بين أصبعيه سيجارة فاخرة، قريبة من فمه، ينفض عنها الرماد، ويمسّد باليد الأخرى هامة كلبه: (البيتبول)
أشار إلي أن أجلس، على إحدى الطبليّات الواطئة المتآكلة، المتناثرة على دغل.. جلست جلسة الهادىء الوديع، وعلامات الخوف فضحتها الأضواء القوية التي تقابل وجهي.
تفرّس بي، وأطلق ضحكة مجلجة أفزعت الكلب، الذي هدأ للتو، فأشار لحارسه، أن يضبط إيقاع الكلب، الذي أخذ يسحب سلسة الطوق بعنف. وأشار له مرّة ثانية، أن يأخذ الكلب إلى داخل القصر، ويتركنا.
دون تردد سلمته جواز سفري، بعد أن طلبه مني، تملّى فيه وظل يقلب أوراقه، نظرة لي نظرة المستخف، ورماه في الموقد المضطرم القريب منه.
وقفت بكامل طولي، وركضت نحو الموقد، والصرخات تملأ فمي: لا، لا.
مددتُ يدي كي أخرجه، لكن لهب النار القوي أحرق أصابعي، فتركت محاولة انقاذ الجواز، والتهيت بالحروق التي نشبت آلامها فيّ.
الحارس ظهر بسرعة، ومعه الكلب على أثر صراخي، أراد أن يتدخل لولا يد العقيد، التي أوقفت حماسته.
أمرني العقيد بالانصراف، ورئيس العمّال سيتكفّل بالباقي.
تركت المكان على عجل، حتى التقيت رئيس العمّال، تلفّتُ ورائي أكثر من مرّة، وقصصت عليه ماحصل، لم يتأثر فيه ماجرى عليّ، كأنه خلق من طينة العقيد القاسية.
رجعنا، فتدخل العمال في اصلاح ماجرى لأصابعي بالمراهم، ونمت أول ليلتي على المسكّنات.
في الصباح، ايقظني أحد العمّال، طلب مني الاسراع؛ كي لا نتخلّف عن الشاحنة، التي ستقلّنا الى حقول الزيتون، وإلا ستكون عقوبتنا أشدّ على يد العقيد.
ازدحمنا في حوض الشاحنة، ومضت بنا على درب ترابي طويل، تلوح في نهايته البعيدة أشجار كثيفة، قبل أن نصل، علا صوت لأحد العمّال بغناء شجي، على الرغم من عدم فهمي لكلماته، إلا أن نبرته الحزينة، أعادتني إلى مؤئلي، إلى جنائني التي التهمتها آلهة الحروب.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى