أدب السيرة الذاتية د. أيمن تعيلب - شفاء الهالكين.. مقطع من السيرة الذاتية

كان معظم أهل قريتي يثقون بكرامات الشيخ محمد ثقة كبيرة، يعتقدون أنه يصادق الجن وتسلم عليه الذئاب ليلًا، وتخشع أمامه الثعابين فلا تتحرك.رجل قصير مدكوك، وجهه لحيم أسمر، يلبس جلبابًا أبيض فضفاض يضوي مع سمرة وجهه المعتمة،عينان واسعتان مدورتان جاحظتان إلى الخارج قليلًا تلتمعان بوميض غامض يشع برهبة المجهول. عينان صامتتان تشعان بالغرابة كأنهما غارقتان في أسرار البلاد والعباد. يقيم الشيخ محمد طقسه الروحي في أوائل المساء بعد أن تكون الشمس قد رقرقت شعاعها البرتقالي النعسان، فيغرق عرض السماء بنزيف الوداع والشجن. شمس ضارعة وأصيل مشجون، مغيب يطمس هامات الشجر بعتمته الزاحفة، وطيور تحلق في غبشة السماء آيبة إلى أعشاشها.
ما إن يشعل الشيخ محمد البخور الجاوي في داره، حتى تترى جموع النسوة متشحات بالعطر والحزن والأسرار الدفينة، تحكي كل امرأة عما يوجعها للشيخ، ثم يأمرها الشيخ بالامتناع عن الطعام والكلام مدة ثلاثة أيام، فلا تكلم الناس إلَّا رمزًا، ثلاثة أيام بلياليها، وبعد هذه الأيام الثلاثة ستعود إليك روحها بعد أن تكون قد سمت فلا زمان يقيدها، ولا شيطان يحجزها ويتلبسها، وتكون قد قد حامت في ملكوت الرحمن، فلا مكان يحجزها، فهي روح طاهرة خارجة من روح الرب العظيم. يقترب الشيخ من النسوة مرددًا هذه الآيات ﴿قال كذلك قال ربك هو على هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئًا، قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويًا، فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيًا﴾، يقترب الشيخ من وجوه النسوة واحدة واحدة نافخًا عليه ثلاث مرات.
ما إن ينتهي الشيخ من الترحيب بالنسوة حتى تبدأ السهرة، تجلس النسوة على سجاجيد منقوشة بخطوط حمراء وبيضاء بصورة متوازية ومتعانقة جلبها الشيخ من المنطقة الحرة ببورسعيد، أيام عصر السادات زمن الانفتاح الاقتصادي، تمتد أمام النسوة على الحصر والسجاجيد أوان مملوءة بأحجار صفراء وخضراء وحمراء، بعضها مكشوف، وبعضها ملفوف، تحيط بالنسوة أعشاب يابسة مكرمشة على بعضها البعض كأنها صرر مكتومة على أسرارها، وعلب خشبية مزركشة حزمت بخيوط رقيقة، وقد كتب على جوانبها أسماء بعض الأنبياء، على كل جانب اسم نبي حتى إذا اكتملت جوانبها الأربعة اكتملت بأسماء أربعة أنبياء: محمد، وعيسى، وموسى، ونوح. صلوات ربي عليهم أجمعين.
بدأ الشيخ محمد يبتهل بصوته الشجي، دقت الدفوف، وعلا نشيج النسوة مطوحات رءوسهن بعيدًا عن أجسادهن حتى ضجت ساحة البيت بجمر التوسلات، ووهج الابتهالات، وشبوب التضرعات، وعويل الآهات، تنوح النفوس الضامرة المهلوكة، تشتعل الأيدي الطائرة في السماء، فلا تراها إلا خطفًا، كأنها سيوف من شرر، أو نثار نجوم يترامى من الولع، تترامى الأجساد في رقصها منخلعة عن حدودها الدنيوية فتفهق الأجساد الممسوسة بالوجع كسهام محترقة مشبوبة صوب الأفق البعيد، تصطلي الدار ببخور دهن ملتهب، يعلو رويدًا رويدًا في سقف الدار كضباب يتضرع بالشوق واللهفة، يصطخب الدف فتجاوبه الأجساد الممسوسة بوجع السنين. تصطفق القلوب في الصدور نازفة أوجاع الدهور على عويل النايات وبكاء الإيقاع المدوي الضخم، تهيج أجساد النسوة حتى تبين ساتانهن الحريرية السوداء ملتصقة بدنتيلا نهودهن المشبوبة ترمي بلهب اللوعة ونزيف الحرمان، تتلوى الوجوه المسكونة بالجذب والفجيعة على أسرار صدورها الموجوعة، ثم تتلوى منكبة صوب الأرض كأنها تدلق خفاياها في ظلمة التراب، يدوي الجسد برعشات سريعة مرتعدة، فتتقلص الأجساد منكمشة من شدة الخفقان، فلا تكاد تراها بعد أن تحولت في مجمرة الرقص المشتعل إلى خيط رهيف يضوي في الزحام المختنق.
هنا الجسد يفقس أحزانه العتيقة، يستخرج بلايا معمعانه في ساحات الحلم والخيال. يغور الجسد في أصله وفصله، فتتساقط كل ثمراته المعطوبة المعلقة على أشجاره السرية الدفينة، يعلو صوت الشيخ منشدًا مصهللًا، فينغل الصوت إلى خفيات الألم، لامسًا مكنون الوجع، تنهمر الصدور بالعويل، عرق وبخور ولهب يصطلي وليل وحرمان ووجع ورحيل، تتهادى حبات العرق المملحة على الوجوه والرقاب والصدور والأقدام، كأنها دموع الجسد ينفثها حين يتكلم بعدما سكت كل الكلام، عرق الروح وبلل السر، وشجو الجسد، وزرقة أنياب اليالي، ترتمي بعض الأجساد فوق الأرض مهتزة مرعوشة كأنها تفكك أوصال نواح الزمن اللابد فيها، ثم تلتم من جديد على بقايا دموع منسية في الحنايا الغائرة، سحابة رجراجة حبلى بالبخور والنغم والوجع، تعلو سقف الساحة صاعدة هابطة، تكاد تمطر المن والسلوى، وترشرش نسيانًا على الجميع.
كنت أستمع وأصغى لحكايات الست أم سيد وهي تحكي لأمي عن حفلات الشيخ محمد التربي كأني أصيخ للعالم الآخر الخفي من العالم. شربت الست أم سيد آخر رشفة قهوة من فنجانها، ثم قالت لأمي بصوت خفيض كأنها تسرب لها سرًا خطيرًا:(كانت الحاجة خضرة رئيسة الحضرة تنشد على دقة سيدنا ومولانا أبو الغيط، ينهمر صخب الدف والكمبورة والشخاليل المرتعشة، بينما الست خضرة تعصر صوتها الجنائزي المكظوظ بالوجع والشوق والحنين منشدة صلوا على أهل الكمال على النبي باهي الجمال، قدره عال مفخم، دائمًا سامي مكرم، صلوا على أهل الكمال، تصطف النسوة متشحات بالسواد ترقصن متمايلات متراميات مغمضات العيون كأنهن أزمعن سفرًا بعيدًا في غموض أرواحهن، وطين الجسد المتفحم بالنسيان، تتلوى أجسادهن ذات اليمن وذات اليسار متطوحات في الهواء، ثم ترتمين على التراب منسكبات في دائرة اللهب المتقد تتمايل أجساد النسوة في حركات دائرية لولبية، فتصطدم الروح بالجسد بالوجع: يعلو نشيج الشيخة خضرة محترقا بالدمع مختصرًا وجع الليالي وبلايا السنين ممزقًا أضرحة الزمن المدفونة في النفوس، تتصهلل الأجساد بالحرقات الخفية واللوعات الليلية، أحسست أن صوت الشيخة قد شرخ صدري فاخترق روحي وكبشني من صياصي نفسي، انحرفت عن مسار الدائرة مطوحة بجسدي في عويل المجهول تسحقني هلكات الليالي، واصطبارات السنين، يسحقني الدمع والعويل تهالكت فسقطت ففح جسدي بلهاث مخنوق متقطع، انحبس صوتي فجأة، ثم ارتعد جسدي رعدات حادة كأنني أنشق بمنشار خفي إلى نصفين، أحسست بلسعات في روحي، وتشنجات في جسدي كأنني مسست سلك كهرباء عار خرج مني فجأة صوت رجل بدوي يقول للحاضري إنه الشيخ محمد، ثم تكلم بصوت معدني أجش:" إحنا قلنا كتير إننا بنحب الحاجة أم سيد بنحبها خالص قلوللها متخافيش منا أبدًا، إحنا قولنا ليها أكتر من مرة خلي بالك من نفسك واللي رامي حموله على الله ما يندم أبدًا" صمت الجني الشيخ محمد قليلًا، ثم ارتعش جسدي حتى تفصد مني، ثم غرقت في عرقي: قال جني الوجع السري بصوت مبحوح يبلله الأسى مخلوط بصوت رجل كسير وصوت أنثى مكتومة:" إحنا بنقولك سيبك من الحزن والغم والهم، ربنا هوه المعين وقادر على كل شيء. ذكر الإوز اللي طار من بيتكم سرقوا حرامي من حتتكم، متتعبيش ابنك الطيب، ده حبيب الله، لا قلة المال ولا كتره يخلي الإنسان ليه قيمة، ليه انتي غضبانة من قدره وقدرته، ربنا هيعوض كتير واللي ظلموكي وجوزوكي الراجل بتاعك اللي مات صغير متزعليش منهم دا قدر ونصيب مكتوب، المهم أنتي تشوفي ولدك، ويا بخت مربية اليتيم أهم حاجة تصلي، وتتوكل على ربك وربنا مش هايسيب عبده أبدًا".
تحكي الست أم سيد لأمي، وأكاد أتكوم على نفسي من الرهبة، أتساءل مدهوشًا من أين تأتي هذه العوالم المجهولة؟ الأغرب أنها قالت لأمي إنها ظلت على هذه الحال أكثر من نصف ساعة، كانت تقول لأمي: "ما إن أفاق جسدي الذاهل عني يا ست أم أحمد، حتى أحسست كأنني عبرت محيطًا لجيًا كان يلتج في جسدي، حتى دخلت مرجان الروح، وتفتح لؤلؤ وجعي، وانتثرت قواقع ظلمتي الخفية اللامتناهية، سبحت في أرخبيل أعماقي حتى تقطعت أنفاسي، ولم يعد لي سوى الخروج من معمعان البوح إلى شاطئ جسدي مرة أخرى؛ علني أجد نفسي التي ضاعت من نفسي غسلني عرق غزير تولى جسمي كله من شوشة رأسي حتى أخمص قدمي، قلت لروحي البعيدة التي تركتها وحيدة في المجهول وسط حلقة الرقص هلمي إليَّ أيتها الموجوعة الحيرانة، فادخلي في جسدي راضية مرضية، أتنسم عطر رجوعي إلى جسدي أتنفس بعض الهواء الهادئ اللطيف بعد أن خنقني جني الشيخ محمد، بعدها أحسست أن جل النساء اللائي كن معي قد رجعن إلى بيوتهن خلا الست أم بهاء، جلست تنتظرني لتأخذ بيدي والشيخة خضرة تربت على كتفي وتأخذني في حضنها السماوي الدفيء، ثم تدعو لي ربي بأن يفك أسري ويفرج كربي".
كنت أسترق السمع للست أم سيد وهي تحكي لأمي وأنا منزو في ركن البيت أتخبط في رعبي ودمعي لا يراني أحد، بينما كان خيالي يشتعل في المجهول، وقلبي يتفطر أسى يكاد يفط من صدري بعد أن كتمت دموعي في عيني، فبكت جوارحي، يا إلهي ما هذا الكلام الغريب النابع من آبار الأسرار السحيقة يطلق كوامن الألم من أرخبيل الصمت الكظيم؟ ما هذا البوح الجواني اللابد في قواقع النفوس الخفية؟ ما صوت هذا الرجل البدوي الذي حكت عنه الست أم سيد؟ وهل تلبس جسدها حقًا جني رجل؟
كنت أظن من قبل أن أسمع هذا الكلام أن الآفاق الخفية المجهولة تسكن السماوات البعيدة فقط، لم أكن أدري أن المجهول الحقيقى المرعب هو الذى يسكن الطين والتراب،تغيرت في نظري فكرة الاتجاهات، حتى رأيت أن التحليق المدهش المذهل يكون إلى أسفل صوب الأعماق الغائرة، ثمة آفاق تحتية غير مرئية تكاد تبلع العالمين سرًا وغرابة ودهشة وعجبًا. كنت طفلًا بريئًا في الصف الرابع الابتدائي أتساءل بيني وبين نفسي أسئلة حيرانة مرتبكة، فلا تبل ريقي ببرد الجواب، كانت المرة الأولى في حياتي التي تتطوحني فيها أسرار المجهول المهول المهيب، المجهول الذي ظل يلاحقني وألاحقه طوال عمري، أنا ابن المجهول والصمت والرؤى الغائبة،أسئلة ظللت تتغورني فتتطوحني بأسرار المجهول ورجفات الغيوب، لماذا يذهب هؤلاء النسوة الجميلات الصغيرات دون مرض واضح عليهن إلى حفلة الشيخ محمد التربي بصورة منتظمة، وهو ليس دكتورًا ولا يحزنون؟ والأعجب أنهن كن يشفين من مواجعهن، وأعجب العجب أنهن كن يتزايدن يومًا بعد يوم.
كنت أعرف الدكتور محمود مدير مستشفى بلدتنا كان شابًا في سنة الامتياز بكلية الطب جاء من القاهرة ليمارس عمله بالوحدة الصحية بقريتي الكفر القديم الواقعة بجوار مبنى مركز الشباب على ترعة القرية، وهو المكان نفسه الذي طار فيه ذكر الإوز من بيت الست أم سيد ذات ليل بهيم، طار ولم يرجع قط، قال معظم الناس قد اختطفه الجن، كم بحثت عنه أنا وصديقي سيد حتى كلت أقدامنا وانهد جسدانا، حتى صدقت أن الأرض قد بلعته أو أن السماء لحسته، كانت الحاجة أم سيد فقيرة فقرًا مدقعًا دفعها إلى أن تبذل محاولات مستميتة في البحث والتحري عن ذكر الإوز، في البدابة أحضرت الشيخ أحمد أبو شديد فقرأ لها (عدية) يس، ثم عملت أحجبة عند الحاجة مريم بترتيبات خاصة من الحاجة عائشة أم عيسى، لكن ذكر الإوز طار ولم يرجع. لم تكن تعرف الحاجة أم سيد أن الولد أبو لبدة ابن فكيهة الولادة قد جمع حوله عصابة من بعض الشباب الجائعين في القرية لسرقة الدجاج والإوز، وكانوا يسرقون أيضًا الملابس المنشورة فوق أسطح المنازل ليلًا.
عشت في طفولتي عوالم الخفاء بكل ما تعج به من خبايا، عوالم مبهمة غامضة لا أنساها أبدًا. كان عقلي لا يفهم شيئًا مما أرى، لكن روحي كانت تلمس وتشم وتذوق وتبصر وتسافر في كل الاتجاهات، أشرب العالم بحواسي الخمس، عالم الطفولة عالم السمعيات والمشمومات والملموسات، العين تسمع، والأذن ترى، واليد تفكر، والجسد يتخيل. أثر كل ذلك في روحي وعقلي تأثيرًا كبيرًا. ترامت أخيلتي الطفولية ترتاد خفايا الدنيا من حولي، الشيخ محمد البدوي الذي كان يتلبس جسم الحاجة أم سيد، أبو رجل مسلوخة الذي يكمن سرًا في بعض الزوايا الغامضة، الشيخة زكية أم خطوة، كوبرى المجنونة السارحة بالليل تتخطف زينة شباب قريتي، النداهة التي تخطف أطفال القرية سرًا في عز الليل، ثم تمص دماءهم في كهفها المسحور. كأكأة الغربان عندما تشاهد ملك الموت وهو يمر في صمت ليقطف روح واحد من الجيران، تظل الغربان تصيح منذرة بالموت المحقق، عويل الكلاب المختنق في الليل عندما ترى ملك الموت يسير مهرولًا سرًا في الحلك، فنستيقن جميعًا أن أحدًا سيموت هذه الليلة، نعيق البومة الحاد الذي ينذر بشر قادم، أمشي متوجسًا مرعوبًا بجوار الممر القديم بين مسجد قريتي وبيت الحاج علي أبو عيسى أبو صقر تهمس نفسي مرتعبة هنا مات فلان شابًا في عمر الزهور، فتخطفته يد الجن كما قالت لي أمي، أعبر مهرولًا مرعوبًا، أكاد أتحول هواء لامرئيًا حتى لا تطأ قدمي التراب، فربما كانت ترقد هنا روح قديمة فتعلق رائحتها بجسمي، رفة العين تدل على أن أمرًا مجهولًا سيحدث، طنين الأذن يدل على أخبار سارة ستأتى، جرادة فرسة النبي الخضراء التي تتسلق جدار بيتنا دليل على أن خيرًا سيكون، أحس دبيب نمل في يدي علامة ضيف عزيز سيزونا الليلة، الذبابة الزرقاء التي كانت تحوم في سقف بيتنا، تخبرني أن روح أبي جاءت تطلب الرحمة ليلة الجمعة.أم أثداء حديد التي تقصد زين شباب القرية في الممرات الغامضة في عز سواد الليل، فتضمه إلى صدرها ضمة، فتشفط دمه، ثم تأخذه لبيتها الذي بنته تحت الأرض فلا يعود أبدًا. قصة أستاذي محمد الخضري الذي كان يدرس لي مادة الحساب في المدرسة الابتدائية الذي لم يتزوج حتى سم الربعين؛ لأنه كان مخاويًا، فتزوج من جنية جميلة.أم عيسى الكفيفة التي كانت تمشي ليلًا، فتتحدر فوق الطريق مثل الماء لا تضل ولا تخشى، تسكن حجرة صغيرة مظلمة في نهاية حارتنا الضيقة بجوار دكان الحاج سعيد أبو غمري.
كان الليل يرعبني بسفليات غرائبه ووهميات هواجسه التي تتلامح وتتقافز سرًا من حولي، فأظن أن الليل كائن خرافي مرعب قيده الحلك إلى حبائل الأسرار، فتطل كائنات مرعبة متخفية منقبة من خلل شبابيك الغوامض. أتخبط في الممرات المدلهمة الضيقة أتسمع ضجيج السكون فضضه القمر البعيد، أتنهد من جميع جوارحي؛ لأنني وصلت بسلامة الله إلى بيتنا. أخطو في همس كأنني طبيب يجس مريضًا أمسك اللمبة السهاري الصغيرة التي علقتها أمي خلف الباب أتوجه بها إلى حجرة نومي، اللمبة تنير لي نورًا مختنقًا مهزوزًا، فأرى كل شيء من حولي شاردًا ذاهلًا في حلم مضبب، أجد أخي سعيد قد سبقني إلى سريرنا ولحافنا المشترك. أخلع ملابسي في صمت، ثم أتسحب في هدوء لأندس في الجزء المدلدل من اللحاف على الأرض أتكوم فيه وأتكور بجميعي حتى لا تشدني أم رجل مسلوخة، أو يعبث بي عابث الظلمات الخفية.
عوالم لامرئية خفية مشحونة بالرهبة والخيال. عوالم لا تحدثنا إلا رمزًا، فتحتني على أبواب المجهول العظيم، لكن كل هذا كوم، وذهاب النسوة للحاج محمد التربي كان كومًا ثانيًا. لم أكن أعي بعد الوجوه الأكثر خفاء وغموضًا وألمًا في حياة الناس، أسرار الكدمات الخفية، والعاهات المزمنة المستديمة، والأشواق المصطلية بالتوق والشوق، والرغبات المتقدة المشتاقة إلى الانعتاق والتحرر من ربقة الخوف والمرض، مستشفى روحاني يرتمي فيه كل متضرر ومتضررة من عبث السنين وهلكات الأيام، حين تطردنا الحياة من بهاء مسرحها ولعلعة أنوارها إلى ظلمة كواليسها الخفية، تتنامى فينا مخلوقات سفليات الغوامض والأكاذيب والأوهام، يتزاوج جني وسواس الناس بجني الوسواس الخناس، معظم الناس في قريتي لا يعرفون معنى الطب النفسي؛ لأن من يذهب إلى الطبيب النفسى يعني في نظرهم أن هذا الإنسان مجنون أو مضطرب عقليًا، وسوف ينظرون إليه نظرة شفقة واستهزاء، وهذا إحساس قاتل في القرى يؤثر تأثيرًا ساحقًا في مستقبلك ومستقبل أولادك؛ لهذا كان كل موجوع أو موجوعة يتوجه إلى المشايخ من أصحاب الرقى والتعاويذ كي يخرج الجني الذي يعشش في روحه أو النحس والسحر الذي طاله، والذي صنعته غالبًا نساء حاسدات شريرات أو رجال طامعون في إرث كبير، أو ينتقمون لثأر قديم بايت، كان الشيوخ يصرون على أن يظهروا بملامح الصالحين في ملابسهم وكلامهم، وأن لهم علاقات قوية بالجنة، كانوا يوزعون الشياطين على مراتب وطرائق كل حسب وظيفته وقوته؛ فمنهم المائي، ومنهم الناري إلى آخره، كل واحد منهم متخصص في فك كرب محدد فجن للإنجاب، وجن لمساعدة الضرة على ضرتها، وجن لرد الحبيب الغائب أو الزوج الهارب، وجن لغلق باب الطلاق، وجن لفك أعمال الربط، وجن لإنهاء العقم، وجن لفك الحسد، وجن لرد الكيد. ولكل جن من هؤلاء خدام من المشايخ يلعبون دور الوسيط بين الجني وصاحب الحاجة، مستغلين له أبشع استغلال، وكانت المرأة هي الضحية الأكبر في هذا الجو الخانق؛ لأنها الأكثر ضعفًا وقهرًا، حاجاتها كثيرة وحيلتها قليلة وهوانها ضخم، كان كل شيخ من هؤلاء يحفظ لونًا من الأدعية خاصًا بكل جن من الجنة السابقين، دعاء للشفاء من المرض، ودعاء لتفريج الغم والهم، ودعاء لإزالة الكرب، ودعاء لتوسيع الرزق، ودعاء لتوثيق المحبة، ودعاء لإنهاء الخلافات الزوجية. وللكلمات وقعها السحري العميق في تحقيق الرغبات والأماني والخلاص من عذابات الهالكين.
هناك جهة علوية فوق طاقة البشر تتولى عنا تخليصنا من عذابنا، وكلما اشتدت حاجة صاحب الحاجة إلى الخلاص من كربه كان الشيخ يزيد ويعقد في صيغ الدعاء وشروط قبوله بالتعاويذ والرقى الغريبة التي توقع في قلب المحتاج أهميتها القصوى.ورغبته العنيفة من الإفلات من ذل زمانه وأسر مكانه.كان الشيوخ يقولون إن السحر والجنة والشياطين يتلبسون جسم الإنسان وهم مذكورون في القرآن. كنت أصغى إلى هذا الكلام وأنا مرعوب. كنت في حيرة بين حقيقة ما يحكون وحقيقة ما يحكي القرآن، فأحس هذا الكلام لا يدخل عقلي؛ لأنني كنت موقنًا أن الله سبحانه وتعالى عادل لا يضع مصير البشر في أيدي أحد من الناس، ولا حتى في أيدي المجهول. كما أن شيخ مسجدنا الشيخ أبو طاحون قال لنا كثيرًا إن هذه المخلوقات توقيفية لا علم لنا بها، ويتوقف علمنا بها على ما ورد في كتاب الله، وقد أكد ربنا أنه لا الجنة ولا الشياطين ولا السحرة بقادرين أن يضروا أحدًا من عباده إلا بإذنه، حتى جنة وشياطين سيدنا سليمان لبثوا في العذاب المهين؛ لأنهم كانوا يجهلون الغيب، وإلا لما لبثوا في العذاب المهين. لكن كلمات الشيخ أبو طاحون بأن الجنة لا تضر أحدًا إلا بإذن الله فتحت في نفسي قبوًا من الرهبة تطل على المجهول، مجرد الإقرار بنفي أذاهم عني كان يعني أنهم قادرون على ضرري فعلًا في الدنيا وإن كانوا لا يضروني إلا بإذن الله، هكذا كنت أفكر، وإذا صح هذا سيصبح للمشايخ الأدعياء ضرورة في حياتنا.
أوقفتني كلمات شيخ مسجدنا الشيخ أبو طاحون معلقًا ممزقًا بين غيوب السماء ومجهول الأرض، أترنح بين عوالم الخفاء وعوالم الواقع، عوالم عجيبة مبهمة، لكنها كانت محببة إلى قلبي. كم طوحتني فيما وراء حدود الدنيا حتى أدركت أن العالم أوسع بكثير مما نتصور أو نتخيل. ما أقسى المجهول وألذه!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى