محمد فيض خالد - سلوى

أمسكت بصورتهِ بين يديها ، وابتسامة فاترة تكسو وجهها المُشرب بحمرةٍ ، حدّقت حتى سطعت عيناها في دلالٍ وتصابي ، مرّ بذهنها خاطر أول يوم لزواجهما ، اسدلت جفنيها في استسلامٍ ، وغرقت في نشوةٍ طاغية ، بدت وكأنّما أوقدت في قلبها مصباحا مضيئا .
تحرّكت صوب النافذةِ تخطرُ في مشيتها خاملة، فقد تجسّم في ذهنها خياله ، شعرت برعشةٍ تتمشى في أحشائها ، وضعت يدها فوق بطنها المنتفخ بحملها ، مرّرتها عدة مراتٍ في حنوٍ تتحسّسه ، لترسل ابتسامة عذبة ، لقد نضَجَ حملها ، وأصبح في شهرهِ الأخير ، الشيء الوحيد الذي تتعزى بهِ عن همومِ فراق " محروس " ، الذي جند في الجيشِ منذ عامين ، أعادت نظرها سريعا لصورتهِ ، حدّقت في إعجابٍ ولهفة ، اطلقت زفرة حارة كادت أن تحرِق صدرها ، تركت نفسها تنجرِف في أحلامها العذبة للحظات ، كانت الشّمس قد انجذبت نحو مستقرّها ، بعد أن طفلت للإياب ، تحرّكت ببطئ داخل الحجرة ، وقد اسندت صورته إلى صدرها ، رمت ببصرها الزائغ بعيدا من النافذةِ ، ناحيةِ الحقول الخُضر المحيطة بالبيتِ ، ترقُب الطريق الفاصل ما بينَ البيت والسِّكة العمومية ، تمنّت ساعتئذٍ _ في نفسها _ أن يشرق بوجههِ متمخطرا بزيه العسكري الأنيق ، فتهرول إليه لتغيب بينَ ذراعيهِ كما يفعل كُلّ مرة.
ألقت ببصرها جافلة جهة التقويم المُعلّق فوق الحائطِ، انتزعت ورقته ، ثم قالت بصوتٍ متهدج مكلوم : هذا أوان أجازتهِ المعتاد ، لماذا تأخر يا ترى ..؟!
بدى وجهها وكأنّما تعاورته الشّكوك ، ارتجفت وهي تُنازِع إحساسها بلا فائدة ، كان الليل قد هجَمَ بسوادٍ غريب ، يحمل بين طياتهِ كآبة لم تألفها ، أثارت رؤياه في فؤادها نيران الخوف والهلع ، ارتمت فوق فراشها في سهادٍ ، لم تذق النوم طيلة ليلتها ، حتى لاحت في الأفقِ تلاميع الصّباح ، رنت في الفضاء أصوات الطيور صاخبة ، تملأ المكان بضجيجها ، تبدى النّهار أمامها في مسحتهِ حزينا ، يحترق بصمت الغموض ، هنية وتكاثرت همومها ، اطلقت زفرة ملتاعة ، حانت منها التفاتة جهة الطريق ، سرعان ما ارتدت خاسرة لتزيد من خسرتها ، زاحمت رأسها لجج من التفكيرِ، ولواعج من الألمِ ، فلم تجد بدّ من أن تسلم جسدها المُنهك للفراشِ ، لحظات استفاقت بعدها على وقعِ صراخ يملأ الدار ، انتزعت نفسها من الفراشِ انتزاعا ، اكتظّ الفضاء الواسع بوجوهٍ غريبة في زيها العسكري المعروف ، عندها أوجست في نفسها خيفة ، جاءوا وفوق أكتافهم استقرّ نعش لُفّ في العلم ، تواثبت الخواطر المقلقة من حولها كأشباحٍ ، لم يمهلها والدها ؛ فتقدّم منها والدّمع يسحّ من عينيهِ ، تظاهر بالقوةِ ، لكن خانه تماسكه في الأخيرِ ، جَاهدَ كي يتكلم لكن خنقته العَبرات ، فاكتفى بالبكاءِ ، استجمع أحدهم شجاعته، وقال باقتضابٍ : البقاء لله ، رحم الله زوجك ، مات بطلا .
رمتهُ بنظرةٍ حارقة ملؤها الانكار ، واندفعت في توجعٍ ناحيةِ النعشِ، تُرِسل من قلبها شواظا من نار ، حالوا بينها وبينه في كمدٍ ، هنية وساروا بهِ لمثواه الأخير ، وبعد الدفن ، وضع قائده في أسى متعلقاته بين يديها ، فضّ وصيته الأخيرة ، وقرأها على مسامعِ الحضور ، أوصاها بالصّبرِ والثباتِ ، فقد وَهبَ روحه فداء للوطنِ ؛ كي يحيا أبنائه في عزٍّ وكرامة ، تمالكت نفسها في تهافت بعد معاناةٍ ، احتضنت ثيابه جعلت تشمّها في صمودٍ، ثم ارسلت طرفها في هدوءٍ ، توزِّعه بين صورتهِ المُستقرة على الجدارِ ، وبطنها ، لتغيب في تفكيرٍ طويل ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى