حاميد اليوسفي - الخادمة.. قصة قصيرة

عندما طلبت منه سيدة من العائلة أن يتوسط لها في البحث عن خادمة من القرية التي يعمل بها ، قفزت إلى ذهنه قصص وغرائب سوداء سمعها عن علاقة بعض الأسر المغربية بالخادمات .
روى له مدير المؤسسة التي يعمل بها مرة ، بأن أسرة من الدار البيضاء شغلت طفلة خادمة ، في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي ، لكن الزوجة أرهقتها بالعمل ، رغم صغر سنها . لا تترك لها فرصة لأخذ قسط من الراحة حتى يهدها التعب بعد انتهاء كل المهام الموكولة إليها ، فتسقط مثل جثة هامدة فوق سريرها . غسل الأواني ، تجفيف البيت مرتين في اليوم ، تصبين الثياب ، قضاء بعض الحاجيات من البقالة ، غسل الخضر وتنقيتها . والويل كل الويل إذا أخطأت ، أو لم تنفذ ما قيل لها بشكل مضبوط . تأخذها سيدة البيت من شعرها ، وتجرها بالقرب منها ، وتقرصها ، ثم تصفعها ، وبعد ذلك تضربها أينما اتفق حتى تشعر بأنها قد استنفذت كل قوتها ، ثم تخاطبها بلهجة تهديدية ، والسم يتقاطر من شفتيها :
ـ والله في المرة القادمة أقول لك افعلي كذا ! ولا تفعليه كما يجب ! وسترين وجهي القبيح ! ثم تتمنين ألا ترينه مرة ثانية !
بعد أشهر قليلة أضافت إليها مهمة جديدة ، وهي حمل الطفل الصغير في رَكّاب على ظهرها ، حتى إذا نام ، وضعته في سريره ، وباشرت عملها الذي لا ينتهي حتى تقترب ساعة الخلود للنوم .
تزورها أمها مرة في بداية الشهر . تأتي من منطقة نائية وتبيت ليلة ، تتقصى أحوال الطفلة التي تشكو لها من سوء المعاملة ، فتوصيها بالصبر . تأخذ الأجرة ، وتعود في اليوم الموالي إلى بلدتها محملة ببعض الثياب القديمة .
ولتستريح الخادمة قليلا ، لا بد أن يبكي الطفل ، وتطلب منها السيدة ترك ما بيدها وحمله . تهدهده ، وتضحك معه بطريقتها الخاصة ، فيسكت بسرعة ، فتأمرها بوضعه في فراشه ، ومباشرة عملها الذي لا ينتهي .
فكرت الطفلة الخادمة في حيلة تجعل بسببها الطفل لا يسكت من البكاء ، لتأخذ قسطا أطول من الراحة . أخذت إبرة صغيرة ، وأخفتها في طرف كُمّها . كلما هدأ الطفل وسكت ، أخرجت الإبرة ، ووخزت رأسه ، حتى يبكي من جديد . بعد مدة أخذ الزوجان ابنهما للطبيب ، فاكتشف وخزات الإبرة .
سلخت ربة البيت الطفلة ، ولم تترك فيها عظما صحيحا ، ثم طلبت من زوجها أن يأخذها يوم الأحد إلى القرية التي قدمت منها .
سأل أحد أبناء القرية من أصدقائه ، فوعده خيرا . وبعد أسبوع أخبره بأنه وجد له طفلة يتيمة الأب ، في عمر اثنتي عشرة سنة تقريبا .
أخبر السيدة المعنية بالخادمة ، فقدمت رفقة زوجها وطفليهما في عطلة نهاية الأسبوع من العاصمة . في المساء جاءت الأم وابنتها ، واتفقت معهما على المبلغ وأوصتهما خيرا بها .
في الرباط عاشت الطفلة حياة مختلفة ، وكأنها في حلم . كل النصائح التي قدمت لها أمها انهارت منذ اليوم الأول . اشترت لها السيدة ثيابا جديدة ، وأدخلتها الحمام ، وأخذتها إلى صالون الحلاقة لقص شعرها . وخصصت لها غرفة للنوم والراحة ودولاب لوضع ملابسها وحاجياتها ، وشاشة تلفاز صغير أربعة عشر بوصة . بعد ذلك حددت لها المهام التي ستقوم بها في الشقة . غسل الأواني ، وتنظيف الشقة ، ومساعدتها في وضع أطباق الطعام أثناء تناول وجبات الفطور والغذاء والعشاء ، ونشر الغسيل . أما التصبين فثمة غسالة الكترونية تتكفل بذلك .
مر حوالي شهرين . استأنست الفتاة بالعيش مع الأسرة الجديدة . تزورها والدتها من حين لآخر لتقصّي أحوالها . أما الأجرة فقد لعب قريب السيدة دور الوسيط ، وكان يتوصل بها عبر البريد ، ويكفي أن تزور الأم البيت بالبلدة ، فتأخذ الأمانة كما تسميها . وأحيانا تأتي قبل الموعد .
أخبرته فيما بعد قريبته التي تعمل بالعاصمة رفقة زوجها ، أنها قررت إدخال الطفلة الخادمة إلى مدرسة لمحو الأمية . كما اتخذت قرارا ثانيا على قدر كبير من الأهمية ، وهو تخصيص مصروف جيب شهري للخادمة ، كما تفعل مع ولديها .
بعد سبعة أشهر زارت الأم طفلتها . لم تعرفها . تغير شكلها كثيرا ، تلبس وتأكل بشكل جيد ، وتظهر آثار النعمة على خديها وجسمها الذي بدأ ينضج بسرعة . لم ترتح الأم للوضع الجديد . الطفلة بدأت تكبر ، وتتفتح عيونها على عالم جديد مختلف عن عالم القرية .
في مساء يوم ربيعي فاتحت زوجها في الموضوع :
ـ لو رأيت لكبيرة لما عرفتها يا عبد السلام ! الطفلة كبرت وتغيرت . أخشى أن تنزعها مني السيدة التي تعمل في بيتها .
قال عبد السلام محذرا :
ـ سكان العاصمة ناس صعاب ، وجب الخوف منهم . والفتاة بدأت تكبر . من قال غدا أنها لن تتنكر لك ، وترفض العودة إلى القرية . ونصبح لا حمار لا سبعة (فرانك)* .
أضافت متوجسة :
ـ كل الفتيات اللواتي يشتغلن عند أسر في المدن البعيدة ، يتعرضن للضرب ، ويقمن بأعمال فوق طاقتهن ، وعندما يزورهن الأب أو الأم ، يُقبّلن يديه ورجليه من أجل إعادتهن إلى القرية ، ووضع حد لمعاناتهن ، إلا ابنتي الكبيرة . لقد بدأ الفأر يلعب بعقلي .
سكتت لحظة ثم أضافت :
ـ فاطمة بنت عبد الله قالت لي نفس الكلام ، عندما فاتحتني في خطوبة الكبيرة لابنها عباس .
بعد شهرين طلبت من قريب السيدة التي تسكن بالعاصمة أن يخبرها بأنها اشتاقت لرؤية ابنتها ، وتود أن تأتي لتقضي معها عطلة نهاية الأسبوع ، وعندما ترغب في العودة إلى الرباط تأخذها معها .
زارته السيدة وزوجها في البيت رفقة الطفلة ، وهما في طريقهما إلى مراكش ، فوجدا والدتها في الانتظار ، قدما لها أجرة الشهر الذي لم ينته بعد ، وتواعدا على أن يجدا الفتاة عنده في البيت مساء الأحد .
لم تأت الأم بالطفلة يوم الأحد كما وعدت بذلك . انتظرت السيدة وزوجها حتى حل الظلام ، فغادرا إلى العاصمة .
منذ ذلك الحين انقطعت عنه أخبار الطفلة الخادمة ووالدتها ، حتى انتهى إلى علمه أنها تزوجت في الصيف عباس ولد فاطمة عن سن لا يتجاوز ثلاثة عشر سنة .
بعد أسبوع من ليلة الدخلة ، فشلت كل الوصفات التي قدمتها الأم للعروس الصغيرة ، ولم تعد الفتاة تقدر على الوقوف ، فأخذتها رفقة فاطمة بنت عبد الله إلى مستشفى محمد الخامس .


المعجم
ـ لا حمار لا ستة (فرانك)* : مثل يقال في المواقف التي بدل أن تكسب فيها تكون الخسارة مضاعفة عدة مرات .
مراكش 21 يناير 2021


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى