غياث المرزوق - غُلُوُّ ٱلْكِتَابَةِ ٱلْسِّيَاسِيَّةِ: لَغْوُ ٱلْتَّنَبُّؤِ بِالْتَّرَدِّي أَمْ رَغْوُ ٱلْتَّبَوُّءِ بِالْتَّحَدِّي؟ (القسم الأول)

حَذَارَيْكِ هَذْيًا مَا يَهْذِي بِهِ ذٰلِكَ ٱلْنَّبِيُّ ٱلْكَاذِبْ،
وَحْدَهُمُ ٱلْمَوْتَى يُبْصِرُونَ مُنْتَهَى ٱلْوَيْحِ ٱلْلَّازِبْ!

اَلْمَسِيحُ وَأَفْلاطُون



(1)

في سِيَاقِ الخَوْضِ في غِمَارِ الكِتَابَةِ السِّيَاسِيَّةِ بدافعٍ «تنويريٍّ» من الدَّوَافِعِ، أو حتَّى بداعٍ «تثويريٍّ» من الدَّوَاعِي، إنَّ مِنْ أهَمِّ مَا تتمَيَّزُ بِهِ لغةُ المُتُونِ لدَى الكُتَّابِ الإعلامِيِّينَ وَ/أوِ الصِّحَافيِّينَ طُرًّا في هذا العالَمِ العربيِّ المغلوبِ على أمرِهِ من جهاتٍ أربعٍ مرئيَّةٍ ومن جهاتٍ أكثرَ من أربعٍ لامرئيَّةٍ حتَّى، في هذا الزمانِ الشًّائكِ والعصيبِ (والكاتباتُ المَثيلاتُ بكَمٍّ لا بأسَ بهِ في هذا المَكانِ وفي هذا الزَّمَانِ، فيما يظهرُ، لَسْنَ، بدَوْرِهِنَّ هُنَّ الأُخْرَيَاتُ، مُسْتَثْنَيَاتٍ من هذا «التميُّزِ اللُّغَوِيِّ» بَتًّا)، إنَّ مِنْ أهَمِّ مَا تتمَيَّزُ بِهِ، في واقعِ الأمرِ، لَميزَتَيْنِ متلاصقتَيْنِ جَنْبًا إلى جَنْبٍ أو، على النّقيضِ، مُتَقَاصِيَتَيْنِ بَيْنًا على بَيْنٍ، حَسْبَمَا يقتضيهِ الاِنعطافُ، لا بَلِ الاِنحناءُ، السِّيَاسِيُّ حتَّى قبلَ النَّظيرِ الإعلاميِّ وَ/أوِ الصِّحَافيِّ، بطبيعةِ الحالِ. ثَمَّةَ في هذا السياقِ «الخَوْضِيِّ»، إذنْ، ميزةُ مَا يُمكنُ أن نُسَمِّيَهُ الآنَ مَرَامًا بـ«ٱلْتَّنَبُّؤِ بِالْتَّرَدِّي» Prophesizing Decadence، وذلك بالفَحْوَى «اللَّغْوِيِّ» المُوَارِبِ (نسبةً إلى «اللَّغْوِ» Loquacity، تحديدًا)، كما يُشيرُ بجَلاءٍ (ودونما مُوَارَبَةٍ) مَا يبنيهِ مبدأُ الشِّقِّ الأوَّلِ من استئنافِ عنوانِ هذا المقالِ، من طَرَفٍ أوَّلَ. وثَمَّةَ في ذاتِ السياقِ «الخَوْضِيِّ»، أيضًا، ميزةُ مَا يُمكنُ أن نَدْعُوَهُ كذاك تباعًا لذاتِ المَرَامِ بـ«ٱلْتَّبَوُّءِ بِالْتَّحَدِّي» Monopolizing Defiance، وذلك بالفَحْوَاءِ «الرَّغْوِيِّ» المُرَاوِغِ (نسبةً إلى «الرَّغْوِ» Garrulity، تعيينًا)، كما يُشيرُ بجَلاءٍ أكثرَ حتَّى (ودونما مُرَاوَغَةٍ، كذلك) مَا يبتنيهِ مَنْهَى الشِّقِّ الثَّانِي من استئنافِ العنوانِ عينهِ، من طَرَفٍ ثَانٍ. وقدَ وقعَ الاختيارُ غيرُ الجُزَافِيِّ، في هكذا مَسَاقٍ (لَغْوِيٍّ رَغْوِيٍّ)، والحالُ هذهِ، على عينِ الكاتبِ الإعلاميِّ «الجزراويِّ»، فيصل القاسم، لا لشيءٍ، في هكذا مَسَاقٍ حقيقةً، سِوَى لكَوْنِهِ عينَ الكاتبِ الإعلاميِّ الأبرزِ صَوْتًا والأبرَعِ لِسَانًا، والحقُّ يُقَالُ، من بينِ كافَّةِ الكُتَّابِ الإعلامِيِّينَ وَ/أوِ الصِّحَافيِّينَ وكافَّةِ الكاتباتِ الإعلامِيَّاتِ وَ/أوِ الصِّحَافيَّاتِ في «بلادِ العُرْبِ» هذهِ (بمَنْ فيهِمْ وفيهِنَّ سائرُ «القُوَّالِ النُّظَرَاءِ» و«القَائِلاتِ النَّظيرَاتِ»، إنْ جازَ التعبيرُ بهٰتَيْنِ العبارتَيْنِ ترديفًا بالمَهَامِّ في المَجَالِ الإخْبَاريِّ القِرَائِيِّ والشِّفَاهِيِّ، لا الكتابِيِّ، لأسبابٍ بَدَهيَّةٍ بَيِّنَةٍ بذاتِهَا). سَيُعْمَدُ في هذا القسمِ الأوَّلِ من المقالِ إلى تِبْيَانِ الميزةِ الأُولى، ميزةِ «ٱلْتَّنَبُّؤِ بِالْتَّرَدِّي»، بشيءٍ من التحليلِ السياسيِّ النفسيِّ المُبْعَدِ عن كلِّ مَا هو عَائصٌ مُغْرِقٌ في الإبْهَامِ بِقَدْرِ المُسْتَطَاعِ، وسَيُعْزَمُ في القسمِ الثاني منهُ، بالتَّوَازي المُؤَاتِي لاحِقًا، على تَبْيِينِ الميزَةِ الأُخرى، ميزةِ «ٱلْتَّبَوُّءِ بِالْتَّحَدِّي»، بشيءٍ مماثلٍ من هكذا تحليلٍ سياسيٍّ نفسيٍّ مُتَوَخًّى، تَبَعًا لِمَا تجترُّهُ مقتضيَاتُ كلٍّ من المبنَى والمعنَى اجترَارًا مُوَازِيًا ومُؤَاتِيًا، كذلك.

فأمَّا من حيثيَّةِ ميزةِ «ٱلْتَّنَبُّؤِ بِالْتَّرَدِّي» بالفَحْوَى اللَّغْوِيِّ المُوَارِبِ، من الطَّرَفِ الأوَّلِ، ففي مقالهِ الإعلاميِّ وَ/أوِ الصِّحَافيِّ الأخيرِ الذي تُشْتَفُّ فيهِ نزعةٌ كَلالِيَّةٌ «تَنَبُّئِيَّةٌ» جِدُّ تَوَعُّدِيَّةٍ وجِدُّ تَشَاؤُمِيَّةٍ حتَّى من مُجَرَّدِ النَّظَرِ إلى مُفْرَدَتَيْ عنوانِهِ اليَتِيمَتَيْنِ، «القادمُ أعظمُ» (القدس العربي، 7 آب 2020)، يَسْرُدُ هذا الكاتبُ الإعلاميُّ سَرْدًا تساؤلاتٍ شتَّى كانَ قدْ خَالَهَا من لدنْ غيرِهِ من «المتسَائلينَ» الرَّقميِّينَ (الاِفترَاضِيِّينَ)، إن تواجَدُوا على أرضِ الواقعِ بَتَّةً، تساؤلاتٍ عن نوعِ المآلِ المستقبليِّ الحَالِّ بعدَ كلِّ ذَيْنِك الدَّمَارِ والخَرَابِ اللذينِ حَلاَّ في «بلادِ العُرْبِ» هذهِ، على مدى تلك السَّنواتِ المُدَمَّاةِ العشرِ الخَوَالي (أي منذُ بداياتِ مَا يُسمَّى بـ«ثوراتِ الربيعِ العربيِّ»، إجماعًا). ومن ثَمَّ، ودونَ أن يرقى إلى تفكيرِهِ أيُّ شَكٍّ أوْ تَشَكُّكٍ (أو حتَّى استغرابٍ نفسيٍّ بحدُودِهِ الدُّنْيَا) مِمَّا قدْ خَالَهُ من هكذا سَرْدٍ رقميٍّ (اِفترَاضِيٍّ) منقُولٍ، يَخْلُصُ الكاتبُ الإعلاميُّ المَعْنِيُّ بالعَيْنِ إلى الاستنتاجِ «التَّنَبُّئِيِّ» الجِدِّ تَوَعُّدِيٍّ والجِدِّ تَشَاؤُمِيٍّ بأنَّ ذلك الدَّمَارَ الخَرَابِيَّ مَسْرُودًا (أو، بالعَكْسِ، ذلك الخَرَابَ الدَّمَارِيَّ مَسْدُورًا) لا يعدو أن يكونَ، في هذا العالَمِ العربيِّ المغلوبِ على أمرِهِ بالذاتِ وفي هذا الزَّمَانِ الشًّائكِ والعصيبِ بذاتِ الذاتِ، لا يعدو أن يكونَ مرحلةً تمهيديَّةً تجهيزيَّةً لِمَا حَدَّدَهُ تحديدًا في الاِبتدَاءِ مُحَذِّرًا ولِمَا عَيَّنَهُ تعيينًا في الاِنتهاءِ مُنْذِرًا بذلك «القادِمِ الأعظمِ». وهكذا، فيمَا يبدو جَلِيًّا للقارئِ والقارئةِ «اللَّامُتَمَرِّسَيْنِ» في هكذا نوعٍ كتابيٍّ سياسيٍّ حتَّى، بينَ جَمْهَرَةِ الإرْسَالاتِ «النَّقْلِيَّةِ» التي مَالَ إليها استقرَاءُ هذا الاِبتدَاءِ التحذيريِّ، من جَانبٍ أوَّلَ، وبينَ كَوْكَبَةِ الاِسْتِرْسَالاتِ «العَقْلِيَّةِ» التي آلَ إليها استنتاجُ هذا الاِنتهَاءِ الإنْذَارِيِّ، من جَانِبٍ ثانٍ، يَغْرِفُ الكاتبُ الإعلاميُّ من الأسفارِ مُنوِّهًا بضَيْقِ الشُّعُوبِ العربيَّةِ المَعْنِيَّةِ ذَرْعًا بالأحْوَالِ السياسيَّةِ والاجتمَاعيَّةِ والاقتصَاديَّةِ حتَّى قبلَ اندلاعِ «ثوراتِ الربيعِ العربيِّ» بسنينٍ وعقودٍ (على الرَّغْمِ من أفضليَّةِ تلك الأحْوَالِ بأضعافٍ مُضَاعفَةٍ مِمَّا هي عليهِ الآنَ في هذا الأوَانِ)، ويضربُ مِنْ ثَمَّ مِنَ الأمثالِ مُذَكِّرًا حتَّى ذلك الحينِ بالمِرَارِ التسعَ عشرةَ، بعدَ مثلِهَا من المِرَارِ التسعَ عشرةَ عَدًّا على الغِرَارِ الرقميِّ لهذا الكائنِ «الكورُونيِّ»، أو هكذا يتبدَّى من جَرَّاءِ الاِهتمامِ النظاميِّ آنًا بعدَ آنٍ، مُذَكِّرًا، والحَالُ هذهِ، بمَثَلِ «الفلاَّحِ والإقطاعيِّ أبي العنزتَيْنِ والدِّيكِ»، تَشَبُّهًا، في كلِّ مرَّةٍ من تيك المِرَارِ، بما يضربُ الأنبياءُ من أمثالٍ تعليميَّةٍ إرْشَادِيَّةٍ، كَمِثْلِ المَسِيحِ بالذاتِ وضَرْبِهِ، على سَبيل المِثَالِ، مَثَلَ «العَبْدِ الذي يُؤمَرُ مِنْ سَيِّدِهِ» (لُوقَا، الإصْحَاحُ السَّابِعَ عَشَرَ: 7-10)، أوْ مَثَلَ «العَبْدِ الذي لَمْ يُسَامِحْ رَفِيقَهُ» (مَتَّى، الإصْحَاحُ الثَّامِنَ عَشَرَ: 21-35)، أوْ حتَّى مَثَلَ «العَبْدِ الأَمِينِ» (مَتَّى، الإصْحَاحُ الرَّابِعُ والعِشْرُونَ: 45-51)، أو غيرَهَا من الأمثالِ التي تتعلَّقُ بالعبيدِ «الخُلَّصِ» منهُمْ أو حتىَّ بالعِبَادِ المتحدِّرينَ، أصلاً، من أصْلابِ العبيدِ – ناهيكُمَا، في هذا الزَّمَانِ «الكورُونيِّ» خَاصَّةً، عن أولئك النُّغَلاءِ الفُسَلاءِ الخِلاسيِّينَ العنصريِّينَ، أو الدُّخَلاءِ العِرْقِيِّينَ (المُضَادِّينَ)، أولئك الأَغِضَّاءِ الذينَ يُغْرَمُونَ بالاِستعمَالِ التَّنْبِيزِيِّ والتَّلْمِيزيِّ المُسْتَمِرِّ لألفاظٍ هُجَاسِيَّةٍ بَرَّاقَةٍ، كَلَفْظِ «العِلْجِ» بالمِثالِ، ظَانِّينَ ظَنَّ اللَّاأَثِيلِ الجَاهِلِ كلَّ الجَهْلِ أنَّهُ سَلْجُوقِيٌّ بالرِّقِّ، لا رُومِيٌّ، ولا حتَّى فَارِسِيٌّ بالرَّقِيقِ!

وعلى الرَّغمِ من بُدُورِ بَعْضٍ من إرْهَاصَاتِ «ذٰلِكَ ٱلْذَّكَاءِ ٱلْقَهْرِيِّ ٱلْتَّكْرَارِيِّ»، من طَرَفِ الكاتبِ الإعلاميِّ المَعْنِيِّ، في ذينك الإيرَادِ والاِستطرَادِ الحَرُونَيْنِ لحَشْدِ المُسَلَّمَاتِ والبَدِيهيَّاتِ وحتَّى البِدَائيَّاتِ في هكذا نوعٍ كتابيٍّ سياسيٍّ (لَغْوِيٍّ رَغْوِيٍّ) على مدى العَشْرِ العِجَافِ من تيك السَّنَواتِ بالذَّوَاتِ، مُورِدًا ومستطرِدًا إيَّاهَا في كلِّ مرَّةٍ (أو حتَّى في كلِّ سَانِحَةٍ بينَ المَرَّةِ والمَرَّةِ الأُخرى) وكأنَّهُ مُورِدٌ ومستطرِدٌ إيَّاهَا لأوَّلِ مرَّةٍ بِلُكْنَتِهِ الحَمَاسِيَّةِ الجِدِّ «تعلِيميَّةٍ» والجِدِّ «إرْشَادِيَّةٍ» وهْيَ تَفْهَقُ أيَّمَا فَهَقٍ بأضدادِ الأمْرِ السَّدِيدِ والنَّهْيِ الشَّدِيدِ (لٰكِنْ، بالارتدادِ المُرَادِ «عن طِيبَةِ خَاطِرٍ»، أو بالكَادِ) للخاوِيَاتِ خَيًّا عُقُولُهُمْ وعُقُولُهُنَّ من أولئك التلاميذِ القُرَّاءِ والتلميذاتِ القارئاتِ، مثلمَا يظنُّ كلَّ الظَّنِينِ – وعلى الرَّغمِ من صُدُورِ شَيْءٍ من إرْصَادَاتِ «ذٰلِكَ ٱلْزَّكَاءِ ٱلْلَّاقَهْرِيِّ ٱلْلَّاتَكْرَارِيِّ»، من طَرَفِ الكاتبِ الإعلاميِّ المَعْنِيِّ ذاتِهِ كذلك، في ذينك الاِرْتِمَاسِ والاِغْتِمَاسِ اللاحَرُونَيْنِ في مِيَاهِ التَّسَامِيَاتِ والتَّرَاقِيَاتِ وحتَّى التَّهَابِيَاتِ في هكذا النَّوعِ الكتابيِّ السياسيِّ (اللَّغْوِيِّ الرَّغْوِيِّ) بذاتِ الذَّاتِ، مُرْتَمِسًا زمنًا قصيرًا تارةً ومُغْتَمِسًا زمَانًا طويلاً تارةً أُخرى في تيك المِيَاهِ المُمَوِّهَاتِ إيهَامًا دَهَائِيًّا زَغَلِيًّا دَغَليًّا لِلسُّذَّجِ والسِّذَاجِ من أولئك التلاميذِ القُرَّاءِ والتلميذاتِ القارئاتِ بكلٍّ من أسبابِ التَّقَصِّي النظريِّ الرَّكِينِ وأسبابِ التَّقَرِّي العمليِّ المَكِينِ، مثلمَا ينقلُ، في نفسِ المقالِ مثلاً، عن مَا كتبهُ الكاتبُ الإعلاميُّ الفلسطينيُّ-الإسرائيليُّ «الجزراويُّ» الآخَرُ، مروان بشارة، في تلك الوثيقةِ الجَلِيَّةِ باللغةِ الإنكليزيةِ تحتَ العنوانِ التحذيريِّ والإنذاريِّ، بدَوْرِهِ هو الآخَرُ، Beware of the Looming Chaos in the Middle East (الجزيرة، 3 آب 2020)، بأنَّ «المؤشراتِ الجديدةَ [في الشرقِ الأوسَطِ في هذا العقدِ الثاني من القرنِ] تؤكِّدُ على أنَّ القادمَ أخطرُ وأسوأُ»، وأنَّ هذهِ المؤشراتِ سوفَ تؤدِّي بالتالي «إلى مزيدٍ من الفوضى وعدمِ الاستقرارِ والعنفِ وسفكِ الدماءِ» ممتدًّا بذاك، في غَمِيرِ مَوْجَةٍ أُخرى من ذينك الدَّمَارِ والخَرَابِ، إلى بلادٍ عربيةٍ أُخرى من هذا الشرقِ الأوْسَطِ بالعَيْنِ، أو مثلمَا ينقلُ قَبْلَذَاكَ، في مقالٍ آخَرَ، «هل كانَ تخريبُ المنطقةِ شرطًا لإنجازِ صفقةِ القرنِ؟» (القدس العربي، 1 أيلول 2018)، مثلاً آخَرَ، عن مَا كتبهُ الكاتبُ الصِّحَافِيُّ الإسرائيليُّ «اللَّاجزراويُّ»، عوديد يِنُونْ، في تلك الوثيقةِ الخَفِيَّةِ باللغةِ العبريةِ تحتَ العنوانِ التهديديِّ والوعيديِّ كذلك، «إستراتيجيةُ إسرائيلَ في الشرقِ الأوسطِ» (اتجاهات כוונים، عدد شباط 1982)، بأنَّ الكيانَ الصُّهيونيَّ، أوَّلاً وآخِرًا، إنَّمَا يهدفُ إلى إضْعَافِ، ومن ثَمَّ إلى تفتيتِ، العالَمِ العربيِّ عن بَكْرَةِ أبيهِ، وإلى حَدِّ تعريضِ هذا العالَمِ العربيِّ «لحربِ إبادةٍ حقيقيةٍ وتدميرٍ منظَّمٍ» [علمًا بأنَّ مجلَّةَ «اتجاهات» כוונים هذهِ لَهِيَ المجلَّةُ الرَّسْمِيَّةُ النَّطُوقُ باسمِ مَا يُسَمَّى بـ«المنظَّمة الصُّهيونية العالمية» WZO] – فَعَلى الرَّغمِ من كلِّ ذاك البُدُورِ الإرْهَاصِيِّ الدَّنِيِّ ومن كلِّ ذاك الصُّدُورِ الإرْصَادِيِّ القَصِيِّ، في آخِرِ المَسَارِ، نجدُ الكاتبَ الإعلاميَّ المَعْنِيَّ مستمرًّا، مع ذلك، في اعتزَاءِ دَوْرِ ذاك التَّأَمُّرِ أمْرًا سَدِيدًا وذاك التَّنَهِّي نَهْيًا شَدِيدًا، ومستمرًّا، كذلك، في ادِّعَاءِ طَوْرِ ذاك «ٱلْتَّنَبُّؤِ بِالْتَّرَدِّي» جَائِحًا بتلك النَّبْرَةِ النُّحَاسِيَّةِ الجِدِّ تَوَعُّدِيَّةٍ والجِدِّ تَشَاؤُمِيَّةٍ، حينًا، وبتلك اللُّكْنَةِ الحَمَاسِيَّةِ الجِدِّ «تعلِيميَّةٍ» والجِدِّ «إرْشَادِيَّةٍ»، حينًا آخَرَ، وجَاهِلاً، لا مُتَجَاهِلاً، بالإطباقِ من هذا القبيلِ، فَضْلاً عن ذلك، بكلِّ مَا هو مَلْغُوٌّ، أو حتَّى لامَلْغُوٌّ، فيهِ عن مَاهِيَّةِ ذلك «القادِمِ الأعظمِ» بالذاتِ قبلَ أكثرَ من أربعينَ عَامًا لِزَامًا (حتَّى قبلَ عَامِ تلك «الوثيقةِ الخَفِيَّةِ» المُتَنَطَّعِ بهَا من مجلَّةِ «اتجاهات» כוונים، على وجْهِ الخُصُوصِ)، كمَا قالَ الغنيُّ عن التعريفِ نْعُوم تشومسكي في مقابلةٍ صِحَافِيَّةٍ طَرُوءٍ أجرتْهَا مَعَهُ صَحيفةُ «الوسط البحرينية» (العدد 293، 26 حزيران 2003)، كمَا قالَ نقلاً عن خبيرٍ سياسيٍّ اقتصاديٍّ فرنسيٍّ في شؤونِ الشرقِ الأوسطِ، في أوَاخِرِ السَّبْعِينِيَّاتِ من القرنِ الماضِي، بحرفيَّتِهِ ما يلي: «إنَّ لدى العالَمِ العربيِّ نافذةَ فرصةٍ قصيرةٍ: إنَّ لديهِ موردَ البترولِ [بالذاتِ]. وهو موردٌ قابلٌ للنَّفادِ ولن يكونَ هناك إلى الأبدِ، ولدى العالَمِ العربيِّ اليومَ فرصةٌ لاستخدامِ ذلك الموردِ من أجلِ التنميةِ. وإذا لم يستخدمْ هذا الموردَ لكيما يتطوَّرَ [بالفعلِ]، فإنَّ الأمرَ سوفَ ينتهي بِهِ إلى إبادةٍ جماعيةٍ. وبشكلٍ عامٍّ، تبدو تلك النافذةُ قدْ شرعتْ فعليًّا بالانغلاقِ. وما لم يتصالحِ العالَمُ العربيُّ بشكلٍ كاملٍ مع سيرُورَةِ التطوُّرِ والتنميةِ الجادَّةِ، فإنَّهُ سَيُوَاجِهُ مستقبلاً بالغَ القتامةِ» – إذنِ، استئناسًا أنيسًا بمَا قالَهُ الشاعرُ النهضَوِيُّ، إبراهيم اليازجي، قبلَ أكثرَ من قرنٍ وعقدَيْنِ من الزَّمَانِ، «فلا تَنَبَّهُوا ولا تَسْتَفِيقُوا، أيُّهَا العَرَبُ / وَإِنْ طَمَى الخَطْبُ حَتَّى غَاصَتِ الرُّكَبُ»!

تلك هي عينُ الطامَّةِ الكبرى، إذنْ، وأعني بهَا عينَ الميزةِ الأُولى، ميزةِ «ٱلْتَّنَبُّؤِ بِالْتَّرَدِّي» في حدِّ ذاتِهَا، تلك هي عينُ الطامَّةِ الكبرى في الهَضْبِ في سِبَاخِ الكتابةِ السياسيةِ هَضْبًا، حينمَا يتجشَّمُ عَنَاءَ هذا الهَضْبِ كاتبٌ إعلاميٌّ (وَ/أوْ صِحَافيٌّ)، كمثلِ الكاتبِ الإعلاميِّ «الجزراويِّ» المعنيِّ في سُطورِ هذا العَرْضِ بشيءٍ من التحليلِ السياسيِّ النفسيِّ المُتَوَخَّى – ناهيكُمَا، فوقَ ذلك كلِّهِ في هذهِ القرينةِ، عن كونِهِ (كَوْنِ هذا الكاتبِ الإعلاميِّ) غيرَ آخذٍ بعينِ الاعتبارِ، لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ، مَا تقتضيهِ بالاِفْتِآلِ إرادةُ الشُّعُوبِ في التسْيِيرِ الثَّوْرِيِّ الأكِيدِ، ومَا تقتضيهِ قدرتُهَا كذاك على التنظيمِ الدَّوْرِيِّ السَّدِيدِ، لا بَلْ بالمِثَالِ على التغييرِ الجذريِّ العَتيدِ، مهما احتدَّ المُحَالُ ومهما امتدَّ المَآلُ مَرَّاتٍ ومَرَّاتٍ من جديدٍ. ولٰكنَّ طامَّةَ الطَّامَّاتِ التي تشتدُّ من أمَامِ السَّامِعِ والرَّائي أكثرَ فأكْثرَ، في هذهِ القرينةِ ذاتِهَا، إنَّمَا تتخلَّقُ من عينِ الميزةِ الأُخرى، ميزةِ «ٱلْتَّبَوُّءِ بِالْتَّحَدِّي» بدَوْرِهَا هي الأُخرى، عندمَا يَهْضِبُ هذا الكاتبُ الإعلاميُّ «الجزراويُّ» المعنيُّ أكثرَ فأكثرَ في سِبَاخِ الكتابةِ السياسيةِ ذاتِها، دونَ أيِّمَا رَادٍّ ضَميريٍّ أو صَادٍّ وجدانيٍّ، إنْ لمْ نَقُلْ أيَّ شيءٍ آخَرَ، ها هنا، كما سنرى ببعضٍ من التفصيلِ أيضًا في القسمِ الثاني من هذا المقالِ. وكمْ كنتُ أتمنَّى أن أكتبَ في هذا النوعِ من التحليلِ السياسيِّ النفسيِّ المُتَوَخَّى بالذاتِ بغَزْرٍ وغَزَارَةٍ كَافِيَيْنِ وَافِيَيْنِ، لولا ذلك الانشغالُ الكَدِيدُ المستديمُ، أو شبهُ المستديمِ، بأفكارٍ أشَدَّ عِيَاصًا وأحَدَّ مَنَاصًا فيمَا لهُ مِسَاسٌ بسَرَائرِ النفسِ الإنسَانيَّةِ أنَّى تواجدتْ في هذا العالَمِ المُرَيَّهِ والسَّريعِ بسُرْعَةِ البَرْقِ، أو بالكَادِ، في كلٍّ من دُنَى «الوَعْيِ» و«اللَّاوَعْيِ» ومَا بَيْنَهُمَا، كذلك.


[انتهى القسم الأول من هذا المقال ويليه القسم الثاني]



*** *** ***

لندن، 9 آب 2020


/ عن الحوار المتمدن

hthttps://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=697234

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى