د. عادل الاسطة - معين بسيسو : يوميات غزة

"في المعركة ، يوميات غزة : مقاومة دائمة " هو أحد كتب معين بسيسو النثرية التي لم يلتفت إليها ، باستثناء مسرحياته الشعرية وسيرته " دفاتر فلسطينية " ، إلا الدارسون ، فأكثر ما درس من أعمال معين هو شعره ومسرحياته وسيرته ، وحتى هنا في فلسطين فلم يعرف أكثرنا من أعماله إلا المشار إليها .
نادرا ما أعادت دور نشر فلسطينية هنا نشر كتبه الآتية :
" نماذج من الرواية الإسرائيلية المعاصرة " و " بيروت : ٨٨ يوما خلف المتاريس " و " باجس أبو عطوان: مات البطل ، عاش البطل " و" الاتحاد السوفيتي لي " و " أدب القفز بالمظلات " و" في المعركة ، يوميات غزة: مقاومة دائمة " ، وإن أعادت بعض دور نشر قسما منها فإنها - أي الكتب - لم تحظ بمراجعات نقدية أو نقاشات في ندوات ، ما يجعلها غير حاضرة في ذهن أكثر مثقفينا ، وعندما عثرت في معرض الكتاب على نسخة من بعضها لم أتردد لحظة في اقتنائها ، ولسوف أعود إليها مرارا .
من الكتب المذكورة " يوميات غزة " الذي صدرت طبعته الأولى في بيروت عن دار الفارابي سنة ١٩٧١ وطبعته الثانية في ٢٠١٤ عن الدار نفسها .
وفيه نقرأ عن غزة التي عدها الشاعر مملكته الشخصية ، على حد تعبير محمود درويش في كتابه " في حضرة الغياب " .
عندما عاد درويش ، بعد اتفاقات أوسلو إلى فلسطين ، عاد أولا إلى غزة ، وأول من تذكره فيها هو رفيق دربه ، فكتب :
" سألت السائق : أين معين بسيسو ، لماذا لم يأت معي؟ فذكرك بأنه نام في حفرة رمل في ضاحية من ضواحي القاهرة . لم يجدوا له مكانا في غزة. فتمتمت : كنا نبحث عن بيت، وصرنا نبحث عن قبر. آه، لو انتظر قليلا... لو لم يسافر إلى لندن لو لم يضع على باب غرفته في الفندق " الرجاء عدم الإزعاج " لكان مضيفي اليوم في غزة. غزة ملكيته الشخصية، ومملكته الشعرية الخاصة. كم ستبدو غزة ناقصة ! " .
ولم تكن غزة مملكته الشعرية الخاصة وحسب ، بل كانت أيضا مملكته في النثر ، ولنا في كتابيه " دفاتر فلسطينية " و " يوميات غزة " دليل ، وإذا كان الدارسون التفتوا إلى الأول ، فإن الثاني نادرا ما التفت إليه .
في " يوميات غزة " نقرأ عن غزة قبل النكبة . تحضر المدينة ومشاركتها في ثورة ١٩٣٦ حيث انتزع أهلها " قضبان السكة الحديد " بين غزة واسدود لإعاقة نقل الجنود البريطانيين ولم تنقطع المقاومة حتى تاريخ إصدار الكتاب ، وتحضر أيضا قصة مدينة خان يونس التي كانت محطة لقوافل التجار وتكسرت على متاريس الحامية التي تدافع عنها هجمات الجنرال ( اللنبي ) حيث ارتد عن أسوارها غير مرة لولا دليل بدوي اشتراه الجنرال فدله على أضعف جزء تسلل ( اللنبي ) من خلاله إلى قلب المدينة فاحتلها .
في " يوميات غزة " يربط معين بين الفلسطينيين وما جرى معهم في ١٩٤٨ وبين مصير الهنود الحمر ، وهذا الربط هو ما سنقرأه لاحقا في قصيدة محمود درويش الشهيرة " خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض " .
يأتي بسيسو على جهود الكويكرز الأمريكان الذين قدموا البقج للاجئين الفلسطينيين وقدمت دولتهم في الوقت نفسه القنابل والطائرات لدولة إسرائيل لتقصف معسكرات اللاجئين ، على أمل أن يرحلوا من جديد بعيدا عن القطاع ، ويمدح المعلمين الفلسطينيين ، وكان واحدا منهم ، الذين علموا الأطفال بالطباشير دون أن يسألوا عن الرواتب " حيث تحولت رواتبهم في نهاية الشهر إلى كيلو جرامات من البصل والسمك المقدد .. وبعض المعلبات .. وقبل المدرسون هذا الشكل الجديد من الرواتب التي فرضها عليهم الكويكرز .." .
يربط معين غير مرة في كتابه بين معسكرات اللاجئين الفلسطينيين ومعسكرات الإبادة في ألمانيا ، كما يربط بين القيادة النازية هناك والقيادة الصهيونية في الدولة الإسرائيلية ، وهذا الربط عموما بدأه في الأدب الفلسطيني ناصر الدين النشاشيبي في روايته " حبات البرتقال " ( ١٩٦٤ ) وصار فكرة محورية أساسية في أدبياتنا لدى بسيسو ودرويش والقاسم وغيرهم وتكرر في رواية أسعد الأسعد الأخيرة " دروب المراثي " ٢٠٢٠ ، ولفرط تكراره صار القاريء منا للأدبيات الفلسطينية يردد بلا وعي العبارة القديمة " ما أرانا نقول إلا معادا مكرورا " .
" كثير مما ورد في الكتاب يقرأه المرء في أشعار معين التي كتبت في فترة كتابة مقالات الكتاب ولسوف يقرؤه لاحقا في كتاب " دفاتر فلسطينية " وفي مسرحية " شمشون ودليلة " .
يكتب معين في " يوميات غزة " عن اللاجئين الفلسطينيين الذين استبد بهم الحنين إلى بياراتهم فتسللوا إليها وقتلوا بالرصاص الإسرائيلي ، وعن بحارة يافا الذين عشقوا البحر فلم يفارقوه في غزة ، فركبوا مراكبهم ليصطادوا فاصطادهم رصاص الزوارق العسكرية الصهيونية ، ويكتب عن المقاتل الفلسطيني في ١٩٥٦ ، حيث أجبره المحتلون على دوس المنشورات برجليه الموحلتين فاحتضنها بيديه وغطى عليها برأسه وجعل حذاءه الموحل في وجه المحتلين ، ويكتب عن محاولة إهانة رموز الفلسطينيين بتفجير تمثال الجندي المجهول بالديناميت ، وحين يأتي الحاكم العسكري الإسرائيلي في صباح اليوم الثاني ليتفرج على أشلاء التمثال تكون غزة أخفته في صدرها ، فتبدأ حملة تفتيش على البيوت ، ويحاول أحد الجنود ( بن كنعان ) اغتصاب امرأة ليبث الرعب في نفوس الفلسطينيين مكررا ما حدث في دير ياسين وغيرها في العام ١٩٤٨ يبدأ سكان البيت بقرع جالون من الصفيح فيتجاوب الجيران معهم ويواجه سكان مخيم الشاطيء بهذا الأسلوب دوريات الجيش الإسرائيلي ، ويتظاهر سكان غزة ضد مشروع التدويل ويسقطونه ، وحين ينسحب الاسرائيليون في ١٩٥٦ يسلبون وينهبون ما استطاعوا مكررين بذلك ما فعلوه في ١٩٤٨ في مدينة اللد ، وهو ما قرأناه في رواية الكاتب الإسرائيلي ( يورام كانيوك ) " ١٩٤٨ " ، فقد كان مشاركا في احتلال اللد وكتب عن السلب والنهب ، وقد توقفت في مقالة سابقة لي أمام هذه الرواية .
وحين تنطلق الثورة الفلسطينية في ١٩٦٥ ويظهر الفدائي ببدلته ذات اللون الكاكي تتجه إليه العيون ، فيكتب معين عن تحولات الفلسطيني ، ومع احتلال قطاع غزة ثانية في حرب ١٩٦٧ واشتداد المقاومة الفلسطينية حتى ١٩٧٠ يسترجع معين قصة شمشون ودليلة من سفر القضاة في العهد القديم ، وسيكون لهذه القصة حضور في اليوميات وفي المسرحية الشعرية التي حملت عنوان " شمشون ودليلة " وفي كتاب " دفاتر فلسطينية " وأيضا في أشعاره .
إن استعراض ما كتبه معين في كتابه يحتاج إلى كتابة أخرى ، ولعلني أعود فاكتب في مناسبة أخرى .
والخلاصة أن ثمة أفكارا نؤمن بها تتعمق في وعينا وتظهر في كتاباتنا بين حين وحين .
لمعين بسيسو في ذكرى رحيله المجد والخلود .
الجمعة والسبت
٢٢ و ٢٣ كانون الثاني ٢٠٢١
( مقالي الأسبوعي في جريدة الأيام الفلسطينية متوسعا فيه .الأحد ٢٤ كانون الثاني ٢٠٢١ )



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى