صديقة علي - حيرة.. قصة قصيرة

ألَا ترَيْن أن الحياةَ على هذا النحوِ الذي تهرقِينها فيه تافهةٌ؟ لِمَ لا تهتمِّي بفكرِكِ ..بالكتبِ مثلًا؟ أتعلمينَ أنّ اختيارِي لكَ في أحدِ جوانبِِهِ بُنيَ على أنّكَ ابنةُ الأستاذِ معتزّ؟!
- الأستاذُ معتز !! أبي!!
رحتُ أُقهقِهُ لشدَّةِ دهشتِي:
لم تكنْ خالتِي تبخلُ علينا بشيءٍ، ترسلُ لي ولأخَواتِي الثّيابَ، المكياجَ، العطورَ والأحذيةَ، وتخصُّ أبي دائمًا بحقيبةٍ لا يفتحُها أمامَنا وكانت أثقلَ الحقائبِ. يربِطُ خالَتِي بأبي صداقةٌ قديمةٌ يعتزانِ بها، وكانت هي من زوّجَتْهُ والدتِي.
بعد أن تجاوزتْ خالتِي الأربعينَ، تُقرِّرُ أن تتزوجَ من مغتربٍ وتسافرُ معه.
كنّا قد أصبحْنَا في ريعانِ الصِّبَا حينَ هبطتٰ علينا بشكلٍ مفاجئٍ . ممّا خلقَ عندنا أسئلةً كثيرةّ والأمرُ المحيِّرُ أكثرُ تلك الحقائبِ الثّقيلةِ التي منعتٔنَا من فتحِها وقتلتْ فينا أيَّ أملٍ بهديّةٍ ما كما عوّدتْنا.
كانت هيئتُها المهملةُ تنمُّ عن حزنٍ شديدٍ، تنهُّداتُها المتحسِّرةُ توحِي بامتلاءِ أعماقِها بالأسَى . بقيتُ صامتةً رغمَ محاولاتِ والدتِي الضّاغطةِ كيْ تستخلصَ منها ولو معلومةً واحدةً عن سببِ مجيئِها المفاجئِ. بدخولِ أبي إلى البيتِ انفرجتْ أساريرُ خالتي وسمِعْنا صوتَها لأوّلِ مرَّةٍ منذُ قدومِها وهي تطلبُ منهُ أن يُدخلَ الحقائبَ إلى مكتبِهِ، كان مكتبُهُ ممنوعًا علينا نحنُ البناتُ، حتى أصبحتُ وأخَوَاتي ننسجُ القصصُ عن مغارةِ أبي، وكانت أمّي دؤوبةً على تنظيفِها كلَّ صباحٍ وقفلِ بابِها لحينَ عودتِهِ، وكُنّا نتأفَّفُ من صرامةِ أمّي وهي تصدرُ أوامرَها بألّا نُقلقَ راحتَهُ وهو يقرأُ أو يكتبُ:
أبوكم في مكتبِهِ.
تقولُها بهمسٍ حازمٍ نفهمُ منها أن ضحكاتِنا يجبُ ان نكتمَها صوتُ التّلفازِ يجبُ أن نخرسَهُ، ثرثراتُنا يجبُ أن نوئِدَها فقط أعينُنا هي المتحرّكةُ تلاحقُها وهي تُدْخِلُ له القهوةَ والشايَ العصائرَ والحلوياتِ وأحيانًا الطّعامَ.
يومَها أمّي ارتاحتْ من همِّ ّخالتي بإقناعِها بأخذِ حمامٍ ساخنٍ، وبتقديمِ ثيابٍ مريحةٍ لها، وإجبارِها على تناولِ الطّعامِ ثمّ أنزلتْها عن كاهلِها وسلّمتها لأبي . كان الحوارُ بينهُما همسًا لم نتمكَّنْ من سماعِهِ مع تأجُّجِ النّقاشِ باتَ صوتُهما مسموعًا فسارعتُ إلى الشّرفةِ حيثُ نافذةِ المكتبِ المنخفضةِ ورحتُ استرِّقُّ السّمعَ خالتي تشكو إهمال َ زوجِها وعدمَ تقديرِهِ لها، وكان أبي يؤكِّدُ لها أن كلَّ الرِّجالِ هكذا، ويكرِّرُ: كم أنتِ سيدةٌ صعبةُ المِرَاسِ ! لم يعدْ يشغلُني حالُ خالَتِي، كان فضُولِي يدفعُني إلى معرفةِ ما في الحقائبِ ..وهل لي حصّةٌ فيها ؟ كانا يهُمَّانِ بفتحِها حين لمحَاني أتلصَّصُ عليهما ,فلُذْتُ بالفرارِ إلى الدّاخلَ، لأجدَ أُمّي تُهوِّنُ الأمرَ على زوجِ خالتي الذي يحتلُّ وجهُهُ المحتقنُ غضبًا شاشةَ حاسوبِها، شعرتُ أنه سيخرجُ إلينا وهو يصرخُ:
أُختُكِ بدَّدَتْ المالَ بتوافِهِ الأمورِ، لا شغلَ لها سوى إفراغ ِ مكتباتِ المدينةِ من الكتبِ ثم دفعِ أجرةٍ باهظةٍ لشحنِها بالطّائرةِ.. أخْتُك تظنُّ إنها ستخلدُ كي تتمكنَ من قراءةِ كلّ كتبِ الأرضِ.. مللتُ من فلسفاتِها التّافهةِ وأنا أتناولُ طعامي من الوجباتِ الجاهزةِ... بعزلتِها المتواصلةِ لم تتركْ لنا أصدقاءَ..أقولُ لك أنا لم أعدْ أحتملُها...
كبرتُ على كرهِ الكتبِ التي تعيدُ لي وجهَ خالتي الخائبِ وقد انفجرت بالبكاءِ إذ يصارحُها أبي بهدوءٍ قاسٍ :
أنت صديقةٌ رائعةٌ لكن زوجةٌ متعبةٌ ..أحمدُ الله أن أختك لا تشبهك .

صديقة علي


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى