كنانة عيسى - قراءة الناقدة المميزة كنانة عيسى في قصة "مسرح الهواء الطلق" صديقة علي

الأستاذة صديقة تزيح ستارة مجهولة اللون والزمان عن مسرح حقيقى ينطق بلغة مدهشة، نشم فيه رائحة الدم بلا جريمة واضحة المعالم،ونقرأ خلف كواليسه طقسا مشهديًا يشد الأنفاس، ويخلق حضورًا كاملا لشخصيتين متناوبتين وظل غائب للأم التي ستختفي في استهلال السرد بخفة.
المحور الشيق هو الضحية ومن الضحية يشع الحدث الخفي كظل كلي لا نقدر على تتبعه ولكننا نشعر به كلما ازدادت غرابة السرد تشويقًا، المذنب هو الابن الشقي بعذابات أمه
هو المفصول عن واقعه بهلاوس وهواجس خلقت له صديقًا وهميًا، ينأى بألمه، ينتقم له، يخفف عنه وحدته وجوعه وعذاباته ، إننا نرى إعادة خلق لعقدة هاملت بمرارة أكثر وتكثيف مذهل، و نرى هذا الانتقال الماهر في تصوير الفعل باستخدام (نا الداله على الفاعلين)، حين يبدأ مشهد الذبح العرضي للحمام، رمز السكينة والسلام والأمل. (مريض الشيزوفرينيا ربما) ذو (الضحك الهستيري) ، والهلاوس الغيبية ( صرت بلا وزن بلا تردد)
يستبدل جريمة شكسبيرية من عقدة أوديب إلى مخزن مياه على سطح لبيتٍ نعرفه، كأننا تربينا فيه، كأننا شربنا منه. نعيش معه أوهامه ونكره زوج أمه مثله ونشعر بالأسى لأمه التي ستتقيأ لمشهد المياه الملوثة.
لم تترك لنا الكاتبة المبدعة مجالا للحياد،نحن متحيزون لعقد المريض النفسية ومدافعون عنها، وكارهون لبيئته الاجتماعية وقوقعته التي قضمت عقله وتركته في ارتياب وجنون. ونسأل أنفسنا لم كان على الحمامة ذات الطوق الأزرق أن تكون رمزًا نهائيا وغير عشوائي لنهاية القصة؟ إنها العقدة الضدية للجمال، فإن كان الطوق الأزرق تميمة حماية والحمام رمز براءة وطهر فإننا هنا نرى نهاية قاسية لأحلام شاب فقد عقله ظلما فاغتال رمز حمايته وأمله، أصبح جلاد نفسه وقاتل حلمه. ظلم المجتمع وتبعاته قد لا يكون منه عودة أبدا
بورك إبداع الرائعة.... التي لا تتوقف عن إثارة إعجابنا وهز عوالمنا أبدًا.
Kinana Eissa




*******************


قصة قصيرة
مسرح الهواء الطلق بقلم / صديقة صديق علي

يتراءى لي باب السطح الموصد كمارد يصل رأسه للسماء، يسد منافذ النجاة، أصرخ بأعلى صوتي قبل أن يجف حلقي، وما كان لقيدي أن يفك بيد أمي.
أسمع نشيجها، همسها، وقع خطواتها المبتعدة، ثم صفعة باب بيتنا التي أخمدت بقلبي بارقة الأمل... كم كنت أمقت ضعفها واستكانتها، وتفطُر قلبي دموعها.
الجوع والعطش تملكاني، قواي خارت، الشمس تسكب كل قسوتها بي، والسجن سجن ولو تحت الشمس، بت أشتهي عتمة السجون ورطوبتها.
وحدها طيور الحمام تلتقط رزقها بعيدة عني، وتنعم بحرية بأجنحتها في هذه الزرقة المخيفة، وحدي أنتظر عودتها لتؤنسني، أشاغل نفسي بغيوم خجولة، أتابع قطعانها الهاربة، خذلتني، وابتعدت عن قرص النار:
- فقدتُ تعاطفك معي يا غيمة... فممّ خوفك هذا؟
أعود لأريح رقبتي، أراقب الحائط، أعد شقوقه، أقدّر أبعاده، أمنّي نفسي بصبغة المغيب تحتله، وإذ بخيال رفيقي يرتسم عليه، فألتفت يميني حيث تعودت على قدومه من هذه الجهة، إذ كان وحده من يتسلق الحائط الفاصل بين سطحينا دون خوف بل بكل رشاقة وثقة، كنت أشعر بدوار بتتبع قدميه المتبادلتين على حائط ضيق، وأغبطه على جرأته.
اقترب مني وأنا مقعٍ وظهري مستند على جدار بيت الحمام، يدفع بكتفي إلى الأمام، ويمد رأسه خلفي، ليرى يديّ الموثوقتين إلى حلقة حديدية صدئة مغروزة بالجدار. ينصب قامته أمامي، يعقد ذراعيه خلف ظهره، يتابع استجوابه دون أن يسمع توسلي:
- لم فعل بك هذا؟
- ذنبي أنني حِلتُ بين قبضته ووجه أمي ...ثم شكوته لجدي.
- وأين والدك؟
- مات منذ سنتين وشقيقه تزوج أمي.
ارتسمت ابتسامة احتقار واستهزاء واضح على فمه لوى شفتيه وقال:
-وماذا فعل جدك؟
تركني في حيرتي، ولم ينتظر ردي، تسلق الحائط كالعنكبوت، قافزا إلى المقلب الآخر، غير آبه باستغاثتي. ..
هو دائما يفعل أشياء غريبة... وكنت قد عرفته منذ أشهر وهو يطارد حمامات عمي ويهشها عن سطحهم المقابل.
كنا نعد النجوم ونصعد إليها مرات ومرات، نتسامر حتى الفجر، لم يسألني عن حالي وبالكاد يعرف أسمي، يكبرني بثلاث سنوات عمرا وسنين طويلة خبرة وتجارب دنيا لا تناسب سنواته العشرين، بعد إلحاحي أخبرني بشحيح معلومات أنه من السكان الجدد في الحارة.. تذكرت أننا لم نلتق يوما إلا على السطح، الكثير من الغموض يلفه، أسعد بصحبته لكن كنت أتقزم أمامه دائما...إلى أن يناولني من حبوب يلفها بورق ملون، وعندها أشعر أنني ملكت الكون.
شعور خفي بداخلي يقول: إنه سيعود.
رأسي تبلل بزرق الحمام العائد إلى مبيته، يتهادى. فوقي وهديله يحل في قلبي سكينة تنسيني آلام القيد، حمامة بيضاء أثيرة لقلبي تلك التي وضعت بساقها طوقا من الخرز الازرق، تغط على كتفي، تنقر وجهي كأنما تواسيني.
ما يجمعني بعمي حب الحمام فقط، كنت أسعد كثيرا لانحسار الصرامة والقسوة عن وجهه، بصفيره وبتلويح الراية عاليا يجمع الحمام، يدربه على المبيت في بيت صغير، رفوفه خشبية مسودة، وجرن حجري تتزاحم مناقير الحمام على مائِه.
لم يطُل انتظاري كما توقعت ..قفز صاحبي إليّ، وسحب من جيبه مدية صغيرة، لمعت حمرة الغروب على نصلها، وراح يقطع الحبل الثخين، يحرر معصمي، ويدلك يديّ إلى أن غابت زرقتهما. ركضت إلى خزان الماء أرتوي منه يغسل رأسي من مائه، ويجلسني في فيئه أشعر بحنان خفي بوجوده، يفتح كيسا تأبطه طوال الوقت ويضعه أمامي، رحت ألتهم الطعام بنهم وعرفان.
- لم تركتني... ماكنت تحتاج لهذه كي تقطع الحبل.
- كل واصمت... هذه ليست لقطع القيد فقط... وسترى الآن أن الشكوى لا تفيد مع عمك.
حول نظره نحو باب السطح وحدق به مطولا، وهو يعض على شفته السفلى انتابتني قشعريرة؛ هو دائما يفعل ما يفكر به ولم يُشركني يوما، بعد صمت ثقيل لم أجرؤ على قطعه راح يعطي أوامره وعيناه لا تفارقان الباب.
- علينا أولاً جرّ الماسورة الحديديّة هذه، وإغلاق الباب لكن دون أن نصدر ضجيجاً.
بلا اعتراض نفذت، وضعناها بشكل قُطر قاطعت الباب، وحجزنا أطرافها بحديد أعمدة كأنها وجدت هناك لهذا الدور.
- والآن إلحقني.
انطلق كالسهم، يلتقط الحمامات من رأسها ويجز أعناقها، الدم يتناثر على وجهي أدور حوله أرجوه بصوت واهن:
-لا... لا لن نفعل هذا ..؟
- إخرس وكن رجلا ..
أخطف رأسي بعيدا عن مسار مديته، وهو يشق بها الهواء، ومع كل قوس يرسمه.. تسقط عدة رؤوس ...كيف تعلّم هذا؟! ..كنت أتساءل وأنا ألمح علامات التشفي على وجهه القاسي .
..أخذت أتعرق، تصطك أسناني .. وترتجف ساقاي، أتشبث بكتفه بكل ما تبقى لدي من قوة أرغمه على إيقاف معركته.
حدق بعيني لائما وأنفاسه تتسارع كالعائد من سباق طويل بهدوء مدهش لف خصري بذراعه القوية، والمدية الرطبة بيده، والدماء اللزجة محيطة بنا من كل جانب وتحتل ذرات الهواء. بدوت كصعلوك تحت إبطه، وساقني إلى حيث الخزان، غسل يديه، ورشق بالماء وجهي عدة مرات، رحت أشهق، ناولني الحبة وقرّب حفنة ماء من شفتيّ اليابستين، شممت رائحة الدم من راحتيه.
تلاشى خوفي وضعفي، برودة لذيذة سرت بكل جسدي، صرت بلا وزن ..بلا تردد.
قبل أن يجن الليل أنهينا الهدنة عدنا إلى ساحتنا، بنشوة عارمة وضحك هستيري أجزّ أعناق الحمام، منتعشا بطراوتها ولزوجة دمها بين يدي وبارتجافها الساخن.
كنت أقهقه ..وكان يصرخ مشجعا، يملأ السطح حماسنا ويجن مع جنون طرقاتهم وصراخهم .. وتهديداتهم ..ومحاولاتهم خلع الباب .
لم نبالِ بتوسلاتهم نركض جيئة وذهابا بخفة ونشاط، نتابع إسقاط الحمام المذبوح بخزان عمي.
كلّت قبضاتهم، وانسحبوا فهدأ الكون من حولي. سقطت على ظهري تلفّت حولي لم أجد رفيقي، وكأن السماء قد سحبته، فعدت إلى النجوم...
عند الفجر نهضت مستندا على حافة الخزان الطافح، كدت أتقيأ إذ خطر لي أن أمي ستشرب منه، أصابني دوار، وأنا أتابع دوامة الماء الأحمر حول الحمامة البيضاء الطافية بطوقها الأزرق.

صديقة علي - اللاذقية 18-8-2020





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى