لطفية الدليمي - حفل شاي لابن رشد

أنا المادة والإسم صورتي بينكم

يتراءى ابن رشد كائنا افتراضيا ممكن الحدوث وأسمع لصوته رنين كأس من ذهب ,
ومعه امضي ليلة عجبا, لاسماوات للغرفة , لارائحة للألم ,لا أحد سوانا نحن الثلاثة :ابن رشد , وشريكي الوهمي , وانا العالقة في شرك الحمى والهذيان..
كل شي مهيأ للمزيد من الالتباس ,فثمة امر غير مؤتمن في هذا الليل ,بخاصة لامرأة تنام مسجاة على السريرشبه ميتة نصف غائبة تحاول ان تفهم مايحدث في ليلة الشاي العجيبة لكنها تعجزعن فتح عينيها او لمس قميص نومها الحرير,كل شيء واخز حتى حريرها , كل شيء ممتع حتى ذهولها .
أتناثر قطرات من غياب على الفراش وانا في الحمى, تمسخني الحمى الى امراة من ظلال حتى ان الريح كانت تخترقني فاهفهف فيها مثل وشاح واتلاشى في الضوء شبه انعكاس لرؤيا الرجل عن وجودي الشبحي ..
نوافذ غرفة الحمى لا تغوي بشيء سوى الحمى , لكن ابن رشد قلب الامور على ضدها حين حضر, واحتشد في المكان توتر يشبه لحظات الحب قبل ذروتها, بدأت اسمعه وارى مقولاته ترتسم في الهواء عبارات وهجية بزرقة نيونية تتلاشى حين ينطق سواها .
لا أحد لو وجد معي , كان سيسمع صوت ابن رشد لانه كان يتدفق من اعماق لاوعي المرأة المحمومة التي أراها واتفرج عليها وهي أناي الاخرى وصورتي , وانا المادة التي قالها ارسطو
وانا الصورة التي ظن انها تبقى بعد زوال المادة..
ابن رشد , كان يتحدث الي من اعالي العقل. وكنت أسمعه ولا أراه وعجبت كيف لا أرى الرجل وانا موقنة من وجوده؟؟
همس ابن رشد : هو ذا ما يعول عليه..
فظهرت عبارته التماعا ازرق في الهواء..
- ماذا ؟؟
تساءلت وانا مستغرقة في الكوابيس..
- ماذا ؟؟
- هذا الذي بين يدي ..!!
بمشقة فتحت عيني وتوهج امامي مصباح شبه دمعة كبيرة بين راحتي ابن رشد ا لذي لم ابصر له وجها..بهر عيني ضوء المصباح الذي كان يضيء ذاته بذاته وكانه بلورة تتضاعف فيها انعكاسات اضواء نجوم ومجرات..
عجبت كيف ان المصباح لايحرق يدي ابن رشد وهو بهذا الوهج الضوئي.
لم اواصل عجبي لانني سقطت ثانية في غيبوبة الحمى .
بلغت ابن رشد حيرتي من أمر المصباح ورأيت عبارته تمتد امامي بسطوعها الازرق على شبه شاشة حاسوب ضوئية عائمة في الفراغ:
- هو يخرق العتمات ولا يحرق ، يزيح الظلال والوهم والفكرة القلقة التى لا يسندها برهان..
2

- انت مدعو لحفل الشاي انت الاتي الينا مما وراء الغيوب , ضيف شرف ليلتنا .
هل نطقت الدعوة بلسان ذهولي ام ان الرجل نطقها فحسبتها كلماتي؟؟
.لعله. هو الذي قال ونطق ودعا ابن رشد , وانا االتي اتوهم ماليس لي من كلمات الليل, واذن ذا صوته يتداخل في صوتي ويموج في ثنايا نبرتي المحمومة واخاله صوتي..
لكنه لايتماهى مع هذياني بل يدوزن اللغة ويزنها وانا اضحك اضحك بينه وبين ابن رشد والاحق تصويبات اللغة التي يدونها على مسمعي وكانها ايقاعات صنج..
لااظن ان احدا سمعني حين تمتمت بكلمات مضادة للغات..
كانا ينصتان الي وكأنهما لا يسمعان هذياني فينصرفان عني الى حوارهما.
سمعت الرجل يدعوه لاحتساء الشاي وابن رشد يدير الحوار كما لوأنه يذيب سكرا في
القدح ,يمزج مرارة الحقائق الملموسة بحلاوة التخيلات المتصورة..
ويتداول معه الصواب من القول ويهمل هذياني عن شهوة نقض اللغة..
هاهو الشاي يزهو بامتياز انه تناهى الى ابن رشد في عصره الافتراضي وهو شراب العامة في عصرنا وشراب النساء المتراميات في وحشة الجسد والرجال الوحيدين في ليل الندم, شاي له اشذاء سهول اليانغتسي والوان شروق الشمس على ثلوج اوساكا ومذاق شجرة زيتون معمرة
: مرة عصية وشامتة بحلاوة التمر والتين والسكر ..

من بين سكرات الحمى كنت ارى ظل الرجل يقترب مني حين انحنى علي وقال وهو يمسك يدي :-
- هيا انهضي وقومي من موتك قيامة , انت مادة اللحظةوصورتها ,بك يصير الوقت آنا ,
انت (الآن ), ولاشيء سوانا في آونة نهوضك , اجل هيا انهضي,
لم تكن رعشة الحمى التى اعترتني , انما ما سببه انهمار صوت غريب في دمي الراجف..
..يردد الكلمة بايقاع زخات مطر وبرق..
كلماته تحط على جسدي قطرة قطرة ووميض برق يضاعف الحمى ..
على عنقي تذوب الكلمة على شفتي تذوب فارشفها..
كنت اراني متماهية في الحمى معه تستغرقني الكوابيس مابين شطحاتى في رؤيا ابن رشد وتخيلاتي في امكان ان يكون الرجل معي وهو محموم في الطرف الاخر من جغرافيا المتخيل ولكنه الأن في اللحظة الراهنة هنا مع ابن رشد يتداولان تأ ويلات توما الإكويني لمقولات ارسطو ويضحكان ..
اجل , انهما يضحكان ليس من ضحكى وهذياني بل من تأويل الوجود في الوهم..انا وهم , والرجل وهم , واما ابن رشد فانه الوحيد الذي يتجلى حضورا بين وهمين ..
انا المادة والصورة ، الحمى حولتني الى امراة من هذيان وهذياني مسخني الى محض صوت ملتبس بين صحو مرير و غيبوبة آمنة..

3

تنتابني رجفة البرداء : اين انت ؟؟
تراودني الكلمات وانت تهتف بي أيها الظل البعيد:
- تعالي تعالي ..
أين أجيء أين أمضي أين أكون وانا صورة مهددة بخسران مادتها؟
الىً تعالي تعالي ..
أهمس في الهذيان : لا...لا ..
ابن رشد يقدم مناظرته على الفضاء الافتراضي ويقف بيني وبين الظل ويعقد بين صمتنا وافقهِ ميثاق غياب.
أرى إبن رشد يتواثب عبارات من ضوء تمتد في الهواء واسمع اسمه اللاتيني يتردد لازمة موسيقية: افيرويس افيرويس افيرويس ..موسيقى رتيبة تتكرر, افيرويس افيرويس.. ، ابن رشد يدون في الهواء :
انا لست من ترون وأفيرويس ليس اسمي ،ماهيتي في كنيتي، أعيدوا لي اسمي ايها الفلاسفة فلست احيا بغير اسمي , انا المادة و الإسم صورتي بينكم.
اسأل من يراني اسأل من يسمعني:
- من اتى بابن رشد الى ليلة الحمى ؟؟
يهمس لي:
- ابن رشد متوضع في وعيك ، انه فيك راقد في اعماق العقل ..
-انا اسمعه ولااراه , هل تراه؟؟
- هو لايرى لاننا ملكناه فكرة لا مادة ، هو الصورة المتجلية لنا فينا...

5
ابن رشد يمضي في المدن يسوس العقل ليوقظ الجموع المأ خوذة بالخرافة , لكن الجموع تحني هاماتها وتنكص بعيون مطفأة وتلتذ بضربة السوط وصليل القيد ، تتشهى الويل وتطلب الغفران لخطايا لم تقترفها لأنها ماكانت خطايا في عرف العقل ..
تستسلم ا لجموع لعصا الراعي يسوسها لتأمن مجازفة العقل فيما ينقض إرث عبوديتها ومغامرتها في مجهول مايقترحه التفكر ، تلوي الجموع اعناقها الى الوراء مستنجدة بخرافات وتعويذات وأضرحة تأخذها الى أمان الرضا بما وجدت من تهاويل النصوص والقداسة الملتبسة..
يمضي ابن رشد وانا اركض وراء خطوته وأراه يعلن نقده العاقل بين الجهات،
يصرخ توما الأكويني : لا يبقى من الأشياء إلا صورتها ، لا يبقى من الموجودات الا صورتها..
يدون ابن رشد مقولاته على الهواء:
- طالما المادة فانية فالصورة زائلة بالضرورة...
أراني ثانية أرقد مادة متعالقة مع صورتها : مادة وصورة مرئية فاذا فنيت الساعة ستنتهي الاثنتان ..

6

ابقى في متعة الرؤيا , اشم رائحة العدم في الهواء , انهض من لجج السخونة وفمي متيبس وظمأي مديد واطرافي متنملة , ذهب ابن رشد حين ايقظتنى انت , ذهبت انت حين غابت مقولات ابن رشد, ذهبت انا حين سئمت من رتابة المي في غرفة الحمى ..
اين ذهبت ؟؟
انا لااذهب ولااجيء لاني اساسا غير موجودة في المشهد ولاني خارج التكوين الهلامي للحلم
انا احضرتك الى الرؤيا وانا اخرجت ابن رشد من اعماق اللاوعي وانا ارتدي عباءة فضفاضة
من الاقاويل والشبهات , وأسير بين اثلام ترابية على ارض حرثتها الحرب وأتعثر بمخاوفي والبنادق متجهة الى راسي وعلى مبعدة نافذة تمر قذيفة هاون وتسقط في الحديقة الخلفية لبيتي حيث النا فورة وتمثال المراة واشجار الليمون والموز والجوري وزنابق الأماريلليس
ادخل بيتي الذي اقتحمه المارينز ونثروه اشلاء , واجد ابن رشد شاخصا على الرف الاوسط لمكتبتي الكبيرة التي تواجه الباب..
ارى دموعا متحجرة في مآقيه , ارى ابن طفيل يواسي الجاحظ وهما مرميان على الارائك الخضراء مزقا مزقا وارى فريد الدين العطار يحاور عنقاءه بمنطق البوم,
, ارى شتاينبك يكظم غضبا و اندريه جيد يحاور ابا نؤاس ويحتسيان ثمالة
كأس عثرا على شرابها في خزانتي القديمة , ارى مجلدات الف ليلة طبعة بولاق تبحر في ماء انسكب من المزهريات التي حطمها المارينز , انطوان دي سانت اكسوبيري يجمع دموع الامير الصغير في اناء من الكريستال ويقدمه الى ( حي ابن يقظان) الهارب من امه الغزالة الى وحشة الحياة.
وميشيما ينتحر امامي على مقربة من حلمه الامبراطوري و (الخيول الهاربة) تعدو على (ثلوج الربيع) و ( الجميلات النائمات ) يصحون على موت كاواباتا وماركيز يعيد صياغة حلمه الايروتيكي بمراهقة نائمة تقلد جميلات كاواباتا وتحول مسار الهوى الى سقطة فنية..

ابكي معهم على ماجرى , اخذ بيد ( ايزابيل الليندي) و ( كورتازار ) و(ابن المقفع) و استورياس)
ونشكل جوقة لنسلي الاصدقاء الحزانى الذين اسقطهم المارينز عن عروشهم في مكتبتي , نضع اقنعة من السليكون لمجانين رائعين واقنعة لشعراء التروبادور الجوالين ونوقظ ( دون كيخوتة ) و( لوركا) و ( بودلير ) و ( الرصافي ) بضجيجنا ونحن نمثل مشهد القتلة يقتحمون بيتي المهجور بعد تحطيم الابواب واطلاق النار على الشعراء و رموز الهة سومر واواني الزهور والشمعدانات والمصابيح والرسائل العتيقة واقداح الشاي واكواب اقلامي الخشبية والخزفية..
.. بعضنا شرع بالنحيب , اخرون انفجروا ضاحكين, بكى( جليل القيسى) وهو يطوي اوراقا ويبللها بالدموع وينظر بعينين غائمتين الى قلعة كركوك , ورقصت( ايزابيل الليندي) على
انغام التانكو التي عزفها ( فكتور جارا ) باصابعه المقطوعة , ورايت( ابن رشد) يمسح دموعه بجبة( الحلاج ) و( امين معلوف ) يضمد جراح ليون الافريقي و(كونديرا ) يسأل (انيتا ديساي ):
- هل عانيت من متلازمة الهوية؟؟
تضحك انيتا ديساي وترتب رداء الساري على كتفها الايمن و تشير الى( ادوارد سعيد) وهو يقف خارج المكان- يقود اوركسترا غير مرئية وتجلس الى جانب ( اناييس نن) في ركن المذكرات وبينهما ( نسائي الوحيدات) وتتهامس المرأتان بحديث ينضح منه عرق الانوثة..
الاف الأوراق المبعثرة تتراكض في ممرات البيت يحركها تيار عنيف جارف من
هواء يهب عاصفا من النوافذ الواسعة التى تحطم زجاجها, فتتناثر الكلمات والدموع على السجاد والارائك البيضاء والموائد والوسائد الهندية المزخرفة بالمرايا , و ترتطم الكلمات بالجدران واصوات الرصاص وبيوت العناكب والظلال المحفورة على وجوه الساعات والانفاس المتجمدة على الستائر ومونولوغاتي الحزينة المرابطة في الزوايا..
الاوراق عاصفتي و قيامتي تدور في انحاء بيتي المستباح , وتطيح في جنونها بالأقداح و تمثال الهة الخصوبة من جزر الخالدات وكرة الرخام من مالطة وعنقود العنب من حجر اليشب , يتهاوى عالم الذاكرة في العصف , وتنهمر الاغاني من اللامكان ويسيح كل شيء في الغرف
شبه طوفان يتعذر التحكم فيه وتختلط اصوات الرجال والنساء وصراخ الصغار بدمدمة الانفجارات..

يغادرنا الوقت الى نهاياته ولايبقي لدينا سوى لحظة ( الان) , فتعاودني الحمى وأرى ابن رشد متجسدا امامي, يحتسي الشاي مع ظل الرجل في الجوسق الخشبى امام النافورة , ويتبعهما الاخرون ليبدأ حفل الشاي على شرف الكلمات الراحلة في الحريق..
يد الحمى تسحبني الى رواق الذهول و تدعني وحيدة في متع الهذيان..



* عن موقع المدى


لطفية الدليمي.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى