د . محمد سعيد شحاتة - التشكيل السير ذاتي في شعر البهاء حسين.. قراءة في قصيدة (كاتب الخطابات) الجزء الثاني

الجزء الثاني

العنوان مفتاح تأويلي:
يعدُّ العنوان العتبة الأولى للولوج إلى عالم النص ودسائسه غير الممكنة، كما أنه الرسالة المشفَّرة بين الناصِّ والنصِّ من جهة والقارئ والنص من جهة أخرى، ومن ثم فإن رصد العنوان وتفكيكه من شأنه أن يكشف عن دلالات الخطاب وأسراره، وهذا يعني أن العنوان ذو دلالة خاصة ومثيرة بالنسبة للعمل الأدبي، ومتلقي هذا العمل في الوقت نفسه؛ فالعنوان يثير في المتلقي هاجس التوغل في كنه العمل الأدبي ومحاولة اكتشاف أسراره ودسائسه، والسباحة بين عوالمه الداخلية التي لا تنكشف للوهلة الأولى، ومن هنا يكتسب العنوان أهميته المائزة من حيث كونه نصا قصيرا أما العمل الأدبي فهو النص الطويل، وإذا نظرنا إلى عنوان النص/ كاتب الخطابات فإنه يضعنا منذ اللحظة الأولى في بؤرة التصور الدلالي للنص؛ إذ يتشكل من جملة اسمية حذف المبتدأ فيها، والتقدير (هذا كاتب الخطابات –أنا كاتب الخطابات) وبذلك يكون العنوان خبرًا لمبتدأ محذوف، ومن الممكن أن يكون تقدير الجملة الاسمية (هذه حياة كاتب الخطابات) وبذلك يكون العنوان مضافا إلى الخبر، ويكون المبتدأ والخبر في الجملة محذوفين، ومن الممكن أن يكون العنوان متشكلا من جملة فعلية، والتقدير (قال كاتب الخطابات)، فإذا افترضنا العنوان (هذا كاتب الخطابات) فإن هذا التكييف النحوي يقودنا إلى التصور الدلالي للنص؛ إذ يكون بذلك النص كله تسجيلا لحياة كاتب الخطابات، وكأن الشاعر يصف حياة هذا الكاتب الذي عاش فقيرا، وتصوَّر أن العلم سيمنحه الحياة الكريمة من خلال تربية الكلمات/الفكر، ورأى أن الحياة ينبغي يحكمها الفكر المتنامي الذي لا يملُّ التجدد والارتقاء، وتظهر علاماته بارزة في كل شيء، وتنعكس على الحياة بأسرها (تلك التربية التى لا يمكن أن تعرف كم من السنوات استغرقت ولا كم من التجاعيد لكنها تظهر فى اليدين) فهذا الفكر هو الزاد الذي ينتشل الحياة من مآسيها المتوارثة، ولكن كاتب الخطابات يكتشف أنه أصبح مجرد كاتب لخطابات النسوة في القرية، بل أصبح مجرد نسيج من أنسجة القرية يعاني مما تعاني منه بدلا من انتشالها، وفشلت الكلمات التي كان يربيها كما تربي أمه الكتاكيت في انتشاله هو أيضا من مأساته (ياما كتب عن نفسه وهو يكتب للأرامل خطابات يستنجدن فيها بالحظ) فالقرية لم تستطع أن تخرج من معاناتها، على الرغم من أنها قدَّمت التضحيات الكبيرة، وساهمت في الدفاع عن الوطن، ودفع أبناؤها حياتهم وسعادتهم ثمنا لهذا الوطن، لكن هذه القرية وأبناءها لم يستطيعوا رغم كل هذه التضحيات أن يخرجوا من مأساتهم التي يحكمها الفقر والجهل والمرض، وتحوَّل كاتب الخطابات نفسه إلى رسالة من الرسائل التي ضلَّت طريقها، أو لم تعرف عنوانها الذي ينبغي أن تصل إليه (أتجول فى المسافة بين كل قلبين حتى تحولتُ إلى خطاب أرسل منذ زمن بعيد لكن لم يصل عليه جواب) ويكتشف في نهاية الأمر أنه جزء من أنسجة القرية المختلفة التي تشكلت من المعاناة، وأن التصوُّرات التي كانت تعانق فكره ووجدانه بالخلاص ما هي إلا سراب وأوهام، بل إنه كان ممن ساهموا بهذه التصورات في معاناة القرية وأهلها؛ إذ يقول (كم من حياة ترملتْ فى صناديق البريد بسببى) فهل كان يوهم أهل القرية أن الخطابات سوف تحلُّ مشاكلهم؟! وأنه عاش في هذا الوهم وجعلهم يعيشون فيه؟! ليصل في النهاية إلى هذا الاعتراف (أنا كاتب الخطابات .. عشت عالقاً أتجول فى المسافة بين كل قلبين حتى تحولتُ إلى خطاب أرسل منذ زمن بعيد لكن لم يصل عليه جواب). إن التكييف النحوي للعنوان جعلنا نتصوَّر هذا التشكُّل الدلالي، ولا يختلف الأمر إذا كان العنوان (أنا كاتب الخطابات) ولكن الاختلاف الوحيد في الدلالة هو أن الشاعر يعترف بأن هذه الحياة هي حياته، بيد ملامحها التي أشرنا إليها سابقا لن تتغير، ونحن نميل إلى هذا التصور؛ لأن الشاعر يقول ذلك صراحة في نهاية نصه فيما يشبه حالة وجدانية متدفقة، ومعبرة عن اليأس الذي وصل إليه فلم يجد أمامه سوى الاعتراف مناجيا ربه، وكأنه لم يجد مخرجا لهذه القرية من المعاناة سوى الله (أنا كاتب الخطابات يا رب .. كانت السطور تجرى تحت يدى كما تجرى السنوات دون أمجاد)، وإذا تخيلنا أن العنوان (قال كاتب الخطابات) فإن هذا التكييف النحوي يدفعنا إلى تصور النص حكاية لكاتب الخطابات يحكيها عن قرية من القرى مرَّت بهذه الأحداث، ثم يشير إلى أنه يشبه كاتب الخطابات في معاناته. وفي جميع الأحوال فإن العنوان قد أصبح مفتاحا تأويليا يقونا إلى التصوُّر الدلالي للنص، واستكناه عالمه.
لقد اشتمل العنوان (كاتب الخطابات) على عنصرين اثنين، هما (كاتب) الذي يمثل فاعل الحدث، و(الخطابات) التي تمثل تسجيلا للحدث، وجاء اللفظان منزوعيْ الملامح، وهو ما سوف يكون فاعلا في تشكيل العلاقات اللغوية داخل النص والتي تتشكل بمقتضاها لعبة المعنى، كما أن نوعية الجملةمن حيث خبريتها سوف تكون فاعلة أيضا في تشكيل المعنى العام للنص؛ إذ يتحول النص بذلك إلى خبر يحمله الشاعر إلى المتلقي، ولكنه ليس خبرا بالمفهوم التقليدي للخبر وإنما همٌّ يؤرِّق الشاعر، ويستحوذ على تفكيره، ويريد من المتلقي أن يشاركه هذا الهمَّ، ويتحمل معه أعباءه.
البناء الدرامي في النص
تتجلى قضية المعاناة بملامحها المتنوعة في النص، وتتقاطع أشكالها ومحمولاتها الرمزية؛ لتشكل زاوية مهمة من زوايا الرؤية، فالنص يحتفي بالبسيط والمهمَّش، ويرسم صورة محددة تضعهما في متن الرؤية، ومحور الفعل الشعري، وينقسم البناء الدرامي في القصيدة إلى ثلاثة محاور، المحور الأول الأمُّ التي تربي الكتاكيت في باحة البيت والابن الذي يربي الكلمات في فمه، في إشارة إلى الفقر المسيطر على المنزل وأهله، ورغبة أفراد هذا المنزل في الخلاص من هذا الفقر بالعلم الذي يرونه بابا للخلاص، ومن الملاحظ قلة عناصر هذا المحور وشخوصه وأحداثه؛ فهو يتشكل من عنصرين هما الأم والابن إلى جانب الكتاكيت، وبالتالي ضيق فضاء الرؤية المتركزة على بيت واحد من بيوت القرية، واتساعها في الوقت نفسه لتكون نواة مؤسِّسة ينبني عليها مجتمع القرية بأكمله، ثم يأتي المحور الثاني ليشكل تطورا دراميا في النص فينفتح على مجتمع أوسع هو مجتمع القرية بأكملها، وهنا تتعدد عناصر المشهد الدرامي وتتنوع أحداثه، ليتشكل من كاتب الخطابات والأرامل والنساء اللاتي سافرن أزواجهن بحثا عن العمل والأخت التي تريد أن ترسل خطابًا إلى أخيها الذى مات فى الحرب ولم يجدوا جثته، وزملاء الجندي الشهيد، وهم عائدون يحملون أشياءه بدلا منه (فأرسلوا أشياءه بدلاً منه: الجورب الغليظ وبقايا جرة المشّ وصورة مكرمشة لحبيبته) والسيدة التي تلزق الخطاب بلسانها؛ لتطمئن على أنها أحكمت المظروف على الوحشة بعد أن تقبِّل المرسل إليه والعنوان، ومع كل عنصر من عناصر هذا المشهد الدرامي مجموعة من الأحداث ذات محمولات رمزية متنوعة، ثم يأتي المحور الثالث من محاور البناء الدرامي ليمثِّل خاتمة للنص الشعري وقصته بأكملها ونتيجة مأساوية للقرية وأهلها الذين حاولوا الخلاص بطرق شتى، منها العلم/تربية الكلمات/الفكر؛ للخلاص من الجهل، والسفر إلى الخارج بحثا عن الرزق؛ للخلاص من الفقر، والتضحية بالنفس والحبيبات دفاعا عن الوطن، وقد جاء المحور الثالث من محاور البناء الدرامي منقسما إلى قسمين في مقابلة للمحورين الأول والثاني ليمثل انتكاسة لعناصر المحور الأول وكذلك انتكاسة لعناصر المحور الثاني؛ ففي الجزء الأول من هذا المحور نجد الأرامل ما زلن ينتظرن كاتب الخطابات؛ ليكتب لهن خطابات يستنجدن فيها بالحظ، في إشارة إلى أن خلاصهن بعيد المنال، وكذلك فإن الأزواج قد عادوا ليجدوا زوجاتهم فى حضن التراب، ومن ثم فقد ضاعت الحياة، وإذا كانت المرأة رمزا للنماء والعطاء والحياة فإن وفاتها يمثل ضياعا للحياة وانتفاء الرغبة في الاستمرار، وإذا كانت هذه المرأة زوجة تمثل السكن والراحة والأمان فإن فقدانها يعدُّ فقدانا لتلك العناصر، ومن ثم فإن هذا الجزء من المحور الثالث كان انتكاسة لعناصر المحور الثاني الذين كانوا راغبين في الخلاص من معاناتهم ومآسيهم، أما الجزء الثاني من المحور الثالث فإنه يمثل انتكاسة لعناصر المحور الأول المتمثل في الشاعر/كاتب الخطابات الذي كان يرى في العلم خلاصا، إذ كان يتصرف فى حصة القرية من الكلمات كأنه وريثها الوحيد، كما كان يجد لكل قلب ما يناسبه، وكذلك كان يكتب بالنيابة عن القرية وأهلها خطابات إلى الله، في إشارة إلى الناحية الدينية، ولكنه يكتشف أن السطور تجرى تحت يده كما تجرى السنوات دون أمجاد، فلم يحقق شيئا، بل إنه عاش عالقًا يتجول فى المسافة بين كل قلبين حتى تحوَّل هو نفسه إلى خطاب أرسل منذ زمن بعيد لكن لم يصل عليه جواب، وبذلك تنغلق الدلالة ويضع النص عصا الترحال على نهاية مأساوية مفادها ألا خلاص من معاناة الشاعر وقريته.
من الواضح أن القصيدة منذ سطورها الأولى تختطُّ لنفسها خطا دراميا محددا يتناسب مع شكلها السردي الهادئ المتدفق ظاهريا، والمتفاعل الموَّار الهادر باطنيا، ومنذ العنوان تنبئ القصيدة أن الشخوص الواردة فيها ليسوا شخوصا محدَّدين، ولكنهم يمثلون قيما اجتماعية وفكرية عامة يتوزع حضورها على مساحة القرى بأكملها، وفضاءات البنى الاجتماعية والفكرية والدينية الفاعلة والمشكِّلة لأنسجة الحياة بكل تفاصيلها، والمتحكمة في مصائر القرى وشرائحها المختلفة مهما علا قدرها أو انخفض، وبذلك تخرج القصيدة من إطارها المحدود بحدود السيرة الذاتية لشاعر عاش في مكان محدد، ورصد ملامح فضائه الاجتماعي والفكري إلى اتساع زاوية الرؤية، فتشكل بذلك إطارا عاما لملامح القرى في بلدان متعددة ومجتمعات مختلفة، ومعنى ذلك أن الأنا الشاعرة/كاتب الخطابات، ومعه كافة عناصر القصيدة/الأرامل والأم التي تربي الكتاكيت، والجندي وزملاؤه، وغير ذلك من عناصر القصيدة، كل هؤلاء قد خرجوا من الطبيعة الفيزيائية ليصبحوا تجريدا خالصا، فتتخلى القصيدة بذلك من خلال عناصرها المشكلة لها عن الطبيعة الفيزيائية لتتلبس بالطبيعة التجريدية فتتحول إلى طبيعة إدراكية سائلة، فكاتب الخطابات لم يعد ذلك الشاعر الذي عاش في بيئة فقيرة، وعبَّر عن شرائحها الاجتماعية، ولكنه أصبح رمزا لكل معبِّر عن المجتمعات وما يعتورها من تغييرات حادة تجعلها رازحة تحت قبضة الفقر والجهل والمرض، واهتراء المشهد الثقافي والفكري والديني، وحيرة كاتب الخطابات، وعجزه عن معرفة الجهة التي يوجِّه لها رسائله وخطاباته، في إشارة إلى تشابك الجهات المختلفة ومسؤوليتها عن الوصول إلى هذه الحالة التي وصلت إليها القرية لحساب شرائح اجتماعية أخرى لا ترى من الضروري العاجل انتشال القرية/البيئات الفقيرة من حالات الضياع والمعاناة، أو لا تلتفت إلى تلك المعاناة المتعددة المستويات، وهنا تخرج القصيدة من إطارها المحلي لتعانق أطرًا إقليمية نستطيع أن نرصدها من خلال إبداعات متعددة في بيئات مختلفة، وأقاليم متنوعة، لتكون القصيدة بذلك ناطقا رسميا باسم هذه الشرائح والمجتمعات، وراصدة لملامحها مهما اختلفت البيئات وتنوَّعت الأقاليم، ولم تكن القصيدة لتكتسب هذه الصفة لولا خروجها من الطبيعة الفيزيائية إلى الطبيعة التجريدية السائلة، وهذه طبيعة قصيدة النثر عند البهاء حسين التي تحاول جاهدة أن تتخلى عن الغنائية المفرطة منعتقة من أسر الأطر الفكرية والبلاغية التقليدية، أو الانغماس الحاد في مخاطبة العالم الداخلي للشاعر في شكل طلاسم عصيَّة على الفهم والتأويل.
الثنائيات ودورها في إنتاج الدلالة
تسيطر على النص مجموعة من الثنائيات التي تتحكم في إنتاج الدلالة، وليست بالضرورة أن تكون هذه الثنائيات متضادة أو متطابقة، ولكنها يوضح بعضها بعضا ويكشف دلالته، ويختزل بعض بعضا، فمنذ اللحظة الأولى يخبرنا النص أننا أمام موقفين يؤديان مهمة متشابهة من الناحية الدلالية، ولكن كل واحد منهما يسير في اتجاه مختلف عن الآخر تماما، يقول النص (كان يربي الكلمات في فمه كما تربي أمه الكتاكيت في باحة البيت) فنحن أمام ثنائية تحتل المشهد كاملا في هذه السطور الشعرية، الأولى أمٌّ تربي الكتاكيت في باحة البيت، ويستدعي ذلك في البيئة الريفية أن تكون هذه الأم غير متعلمة، ومن ثم فإن وقتها كله أو معظمه يدور حول هذه المهمة، وهي تربية الكتاكيت، أما الطرف الثاني من الثنائية فهو شاب يربي الكلمات في فمه، وتتجه الدلالة هنا إلى الفكر، فهذا الشاب يقرأ ويداوم على القراءة والمعرفة، واكتساب الجديد، ، فطرفا الثنائية متشابهان من الناحية الدلالية وهي التربية، وقد أشرنا سابقا إلى أن أحد الطرفين يكشف ملامح الآخر، ويحدد أبعاده ودلالته، وقلنا إننا إذا تخيلنا تربية الكتاكيت، وما تحتاج إليه من صبر وأناة، ورعاية مستمرة، وإدراك تام للغذاء اللازم، والتحصين المستمر ضد الأمراض المفترضة، والملاحظة الدائمة لحالة هذه الكتاكيت، إذا تخيلنا ذلك أدركنا ملامح تربية الفكر وما يحتاجه من صبر وأناة ومراقبة مستمرة لحالته وتناميه، وتراكم المعارف، وقدرة الوعي على الإدراك التام لما يحتاجه الفكر من مراقبة دائمة؛ حتى لا تختلط به الرؤى المتناقضة التي تربكه، وتخرجه عن إطاره العام.
أما الثنائية الثانية التي تظهر بوضوح في النص فهي ثنائية الحضور والغياب، وهي ثنائية ضدية، وقد بدت هذه الثنائية في العلاقة بين الأزواج في القرية، فالزوجات حاضرات أما الأزواج فإنهم غائبون، وعندما حضر الأزواج في نهاية النص غابت الزوجات، ولكن غياب الأزواج في بداية النص كان غيابا عن المكان فقط، بيد أن غياب الزوجات في نهاية النص كان غيابا أبديا نتيجة الموت، وقد تحكمت هذه الثنائية بصورة كبيرة في إنتاج دلالة النص، فغياب الأزواج أدى إلى تمزق الأسر، وحنين الزوجات الذي عبَّر عنه الشاعر بقوله (يعرف من انتصاب الحلمات أن إحداهن تريد أن ترسل خطابًا إلى زوجها المغترب من شحوب الوجه من اللوعة من اشتياق الملامح ليد تلمسها من العين حين تلمع وتصبح سريرًا يعرف أن السيدة بحاجة لأن تتقمص دور ملاءة تتلوى) فالحياة الزوجية ليست طبيعية؛ لأن الزوج غائب والزوجة في لوعة دائمة وحنين مستمر، فلا هي قادرة على تحقيق مفهوم الزواج من خلال الارتواء نفسيا أو جسديا أو اجتماعيا، ولا هي قادرة على الركون إلى زوجها وقت الشدة والاحتياج إليه، ومن ثم فإن الثنائية هنا قد أبرزت تمزق العلاقات الزوجية، والتفكك الذي أصاب الأسرة في القرية، وحين حضر الأزواج كانت الزوجات قد غادرت الحياة نهائيا في إشارة إلى طول غياب الأزواج، ومن ثم فإن الأسرة في القرية تعيش في ضياع سواء حضر الأزواج أو غابوا؛ لأن غيابهم غياب للرعاية للأسرة والزوجة، وحضورهم فيه غياب للزوجة، وبالتالي فإن اللقاء المباشر بين الأزواج يكاد يكون مستحيلا نتيجة هذه المعادلة الصعبة.
التشكيل البلاغي وإنتاج الدلالة
وسوف نتوقف في هذا الجزء من الدراسة عند التشكيل البلاغي للنص، ومدى قدرته على إنتاج الدلالة، فنتوقف أولا عند التشكيل البديعي للنص، ثم نتوقف مع النص بين الخبرية والإنشائية، كما نتوقف أمام بعض الصور البلاغية الواردة في النص محاولين اكتشاف علاقة كل ذلك بالإطار العام للرؤية التي أوضحناها سابقا، وقدرة ذلك على استكناه عالم النص، والبوح بما لم يبح به في التحليل السابق؛ فقد تعاضدت الآليات جميعا للكشف عن الرؤية المتخفية خلف شبكة العلاقات اللغوية، والانحيازات الجمالية في النص، فهذه الزاوية من زوايا التحليل هي محاولة لاكتشاف جوانب أخرى لم تستطع زاوية التحليل السابقة الكشف عنها، أو لتأكيد ما رصدته زاوية التحليل السابقة؛ لتتجلى بذلك عوالم النص، وتنكشف الدلالة، وتصل الرسالة التي أرادها المبدع، وأطلقها مغلَّفة بمجموعة من الأقنعة؛ كي يغري المتلقي بمتابعة إغواءات النص من أجل اكتشاف دسائسه.
أولا: التشكيل البديعي للنص
يعدُّ أسلوب التفصيل بعدالإجمال أحد العناصر البديعية التي يعتمد عليها الشاعر في بناء صوره، ولابد أن نؤكد أن "الجانب الإشاري للتركيب هو الذي يقوم بتشكيل الدلالة وإنتاجها من خلال مجيء هذا التركيب ضمن شبكة من العلاقات التي تربط بينه وبين غيره من الدلالات المتخفية خلفه، والتي تمثل خلفية تصوُّرية يمكن دفعها إلى ذهن المتلقي من خلال التركيب البارز على السطح" (3) أما الإجمال فقد عرَّفه علي بن عبد العزيز الجرجاني بأنه (إيرادُ الكلام على وجه يحتمل أمورا متعددة) (4)وفي تعريف آخر (إيراد الكلام على وجه مجمل) وهذا يعني أن اللفظ المجمل غير دال بصورة واضحة ودقيقة على المعنى المراد التعبير عنه؛ لأنه يحتمل أمورا متعددة، ومن ثم فهو غير محدد الدلالة، فيأتي التفصيل ليوضح ذلك، وقد عرَّف الجرجاني التفصيل بأنه (تعيين تلكالمحتملات أو كلها) ومن ثم فإن التفصيل هو ما كان مبينا ومفسرا لمجمل كلام سابق لغرض من الأغراض البلاغية، أو كما قال الخطيب القزويني (البيان الذي يرد على الإجمال فيزيل الإجمال عنه) (5) وقد لجأ الشاعر إلى أسلوب التفصيل بعد الإجمال للكشف عن المعنى المراد التعبير عنه فقال (فأرسلوا أشياءه بدلاً منه: الجورب الغليظ .. وبقايا جرة المشّ .. وصورة مكرمشة لحبيبته) ففي البداية أورد الشاعر المعنى مجملا (فأرسلوا أشياءه بدلا منه) ولكن هذا المعنى المجمل لم يكن قادرا على الإيفاء بالدلالة المراد التعبير عنها والإشارة إليها، بل قد يؤدي تماما إلى غير المعنى المراد من الشاعر، فمن الممكن أن تكون هذه الأشياء التي تم إرسالها هي حقائبه ومقتنياته والأموال التي كان يدخرها، وهنا يذهب ذهن المتلقي إلى غير ما أراده الشاعر؛ فالدلالة المرادة هنا هي الإشارة إلى الفقر الشديد الذي يعاني منه هذا الجندي؛ فهو لم يأخذ معه سوى ما توفر له من بيئته الفقيرة، ومن ثم استدرك الشاعر فأثبت الأشياء التي أرسلت؛ ليكون ذلك دالا على المعنى المتوافق مع الرؤية العامة للنص، فقال (الجورب الغليظ .. وبقايا جرة المشّ .. وصورة مكرمشة لحبيبته) وهذا التفصيل يرتبط بالدلالة الكلية للنص، والرؤية الفكرية للشاعر، ومن التفصيل بعد الإجمال كذلك قول الشاعر (كان يكتب بالنيابة عنها خطابات إلى الله .. عن انتظارها المزمن .. عن البلهارسيا قبل أن تتقوض سلطتها .. عن الأقفال الصدئة التى ملَّت دورها .. عن البيوت الواطئة التى لم تكن قادرة يومًا على تبرير فقرها) فقد أورد المعنى مجملا في البداية حين قال (يكتب بالنيابة عنها) ولكن هذا التعبير وحده لم يكن قادرا على الإيفاء بالدلالة المرادة فلجأ الشاعر إلى التفصيل فذكر الانتظار المزمن، وفيها إشارة إلى أن هذا الانتظار لا نهاية له؛ لأنه كالمرض المزمن الذي لا شفاء منه، ولكن على المريض أن يتعايش معه، وكذلك على القرية أن تتعايش مع ذلك الانتظار دون أن يكون له نهاية مرجوة، كما أشار الشاعر إلى البلهارسيا قبل أن تتقوَّض سلطتها في إشارة إلى ما حصدته البلهارسيا من أرواح أهل القرية قبل أن تتراجع حدَّتُها، ويتم اكتشاف العلاج لها، ثم ذكر الشاعر البيوت الواطئة في إشارة إلى الفقر الذي يعانيه أهلها، ولم تستطع هذه البيوت ولا أهلها تبرير فقرهم، أو معرفة أسبابه، وإن كانوا قادرين على معرفة نتائجه الملموسة بينهم، ومن ثم كان التفصيل قادرا على رسم ملامح المشهد كاملا، ولو لم يذكر الشاعر التفصيل وعناصره لما استطاع المتلقي أن يدرك مرامي الشاعر من قوله (يكتب بالنيابة عنها) في إشارة إلى القرية.
وقد يلجأ الشاعر إلى التفصيل مباشرة مع حذف اللفظ المجمل توافقا مع التكثيف اللغوي الذي تتصف به القصيدة مع عدم الإخلال بالمعنى والدلالة فيقول (يعرف من انتصاب الحلمات .. أن إحداهن تريد أن ترسل خطابًا إلى زوجها المغترب .. من شحوب الوجه .. من اللوعة .. من اشتياق الملامح ليد تلمسها .. من العين حين تلمع وتصبح سريرًا) فقد لجأ الشاعر إلى التفصيل مباشرة فذكر انتصاب الحلمات وشحوب الوجه واللوعة واشتياق الملامح والعين اللامعة، وكلها علامات دالة على شوق الزوجة إلى التحدث إلى زوجها من خلال الخطاب؛ لتعبر عن شوقها إليها، ورغبتها في التواصل معه معبِّرة عن حبها له، وافتقادها إياه. وإذا كانت الأغراض البلاغية للتفصيل بعد الإجمال متعددة بين التشويق والتوكيد والتوضيح فإننا نرى أن الغرض من استخدام الشاعر لهذا الأسلوب هنا هو التوضيح؛ فقد عرَّفه الجرجاني بأنه (عبارة عن رفع الإضمار الحاصل عن المعارف) ولكن ذلك لا يمنع أن تنضاف دلالة التشويق إلى دلالة التوضيح؛ فليس غرض الشاعر التخييلي مجرد الشرح والتوضيح فقط، ولكنه أيضا يلجأ إلى تشويق المتلقي لمتابعة النص، والبحث عن دلالاته المتخفية خلف شبكة علاقاته اللغوية. لقد نجح الشاعر من خلال استخدامه أسلوب التفصيل بعد الإجمال في الكشف عن المعنى المراد، وإنتاج الدلالة في الجمل الوارد فيها هذا الأسلوب لتتوافق بذلك مع الدلالة الكلية للنص.
ثانيا: النص بين الخبرية والإنشائية
يحكم الأسلوب الخبري سيطرته على النص بشكل كامل؛ فلم يرد في النص سوى أسلوب إنشائي واحد في النهاية في قول الشاعر (أنا كاتب الخطابات يا رب) وهو أسلوب نداء خرج عن معناه الحقيقي إلى أداء معنى مجازي الغرض منه التضرع، أما بقية أساليب النص فقد جاءت كلها خبرية، ومن البدهي أن يكون للأسلوب الخبري حضوره البارز؛ لأن الشاعر يخبر عن التجربة الحياتية بكل تفاصيلها، وتشابكات عناصرها، وتداخل خيوطها، وتنوُّع أحداثها، وقد تنوَّعت الأغراض البلاغية لهذه الأساليب الخبرية، ويعدُّ السياق المحدد الفعلي لدلالة الأساليب من خلال (كشفه عن دلالات الأبنية اللغوية التركيبية بصورة دقيقة لا ينصرف الذهن إلى غيرها من الدلالات التي يمكن أن تتضمنها أو تؤديها سيما تلك التراكيب المحتملة لأكثر من معنى وبواسطة تجاوز الكلمات حدودها المعجمية المعروفة إلى دلالات جديدة قد تكون مجازية أو إضافية أو نفسية أو إيحائية أو اجتماعية، أو غير ذلك من الدلالات) (6) ومن الأساليب الخبرية ما جاء دالا على التقرير، مثل (كان يربي الكلمات في فمه كما تربي أمه الكتاكيت في باحة البيت) فالشاعر يقرر واقعا حيًّا تعيشه القرية وأبناؤها؛ فتربية الكتاكيت صفة ملازمة لأبناء القرية، وفي الجوار قد نرى الأبناء وهم يقرأون، فلا يوجد في ذلك الوقت في القرية إلا نادرا اختصاصُ الأبناء بحجرات منفصلة للقراءة أو المذاكرة، ولكنهم يكونون في باحة البيت، ومن ثم فإن الشاعر حين يرصد مشهد تربية الكتاكيت وبجواره مشهد تربية الكلمات، أي القراءة والتعلم فإنه يقرر واقعا معاشا في القرية بصفة عامة. ومن الأساليب الخبرية الواردة في النص قول الشاعر (كان يتصرف فى حصة القرية من الكلمات كأنه وريثها الوحيد .. يجد لكل قلب ما يناسبه) وإذا تأملنا الدائرة اللغوية الوارد فيها الأسلوب سنعرف أن الغرض منه الفخر وارتفاع الشأن، فكاتب الخطابات هو الوريث الوحيد لحصة القرية من الكلمات، أي أنه الذي يمتلك الفكر، ومن ثم فهو القادر علىالحديث باسم القرية، والتعبير عن قضاياها وآلامها وهمومها وآمالها، كما أنه يستطيع أن يجد لكل قلب ما يناسبه، وهو يدل على الفهم لاحتياجات الناس في القرية وعلى دراية بما يشغلهم، ويندرج في ذلك أيضا الأسلوب الخبري في قوله ((يعرف من انتصاب الحلمات أن إحداهن تريد أن ترسل خطابًا إلى زوجها المغترب) فهو يدل على الفهم والمعرفة، أما قوله (تقبّل المرسل إليه والعنوان وعندما ينتهى تلزق السيدة الخطاب بلسانها) فإنه يدل على الشوق الشديد، ذلك الشوق الذي ظهر من خلال تقبيل اسم المرسل إليه الموجود على الخطاب وكذلك تقبيل العنوان، وأما قوله (لم يعرف أبداً لمن يوجه الخطابات (فإن الغرض منه الحيرة، تلك الحيرة التي بدت من خلال استخدام اللفظ (لم يعرف) فرغم أنه القادر على الفهم، وأنه الوريث الوحيد لحصة القرية من الكلمات، وأنه الذي عاش حياته يكتب الخطابات، ويعبر عن المطلوب، ويفهم من خلال الحركات الجسمانية ما يعتمل في الصدور، وما يدور في الأذهان إلا أنه لم يستطع أن يعرف الجهة أو الشخص الذي يوجه له الخطابات في لمحة موحية بالعبثية المفرطة من صاحب الخطابات الذي عاش حياته كاتبا للخطابات، وكان يظن أنه يفهم كل شيء بحكم كونه متعلما، ووارثا وحيدا لميراث القرية من الكلمات لينتهي به الأمر غير عارف لمن يوجِّه الخطابات، بل ينتهي به الأمر بالأسلوب الخبري الدال على التحسر في قوله (تحولتُ إلى خطاب أرسل منذ زمن بعيد لكن لم يصل عليه جواب) فهو أسلوب خبري أنهى به الشاعر النص؛ ليدل على التحسر على حاله الذي آل إليه من تحوله إلى مجرد خطاب أرسل منذ زمن بعيد ولم يصل إلى عنوانه في إشارة إلى فقدان الأمل في تحقيق أهدافه، وقد كان ذلك واضحا منذ زمن بعيد ولكنه لم يره، ومن ثم تحسَّر على نهايته التي انتهى إليها. ومن الملاحظ تنوُّع الأساليب الخبرية بين أساليب خبرية ابتدائية، وأساليب خبرية دالة على الشك أو الإنكار أما الأساليب الابتدائية فهي التي لا يوجد فيها أي نوع من أنواع التوكيد مفترضة خلوَّ ذهن المتلقي، فهو ليس شاكًّا ولا منكرا، وقد ورد هذا النوع من الأساليب بكثرة في النص، منها (فأرسلوا أشياءه بدلاً منه: الجورب الغليظ وبقايا جرة المشّ وصورة مكرمشة لحبيبته – تقبّل المرسل إليه والعنوان وعندما ينتهى تلزق السيدة الخطاب بلسانها – كان يتصرف فى حصة القرية من الكلمات كأنه وريثها الوحيد ... الخ) أما الأساليب الخبرية غير الابتدائية فإنها تقوم بإنزال غير الشاكّ منزلة الشاكِّ وهذا الغرض يجعل من المُخاطب "خالي الذِّهن" شاكًّا أو منكرًا لمعلومة يقولها المُتكلِّم، فيسوق المُتكلِّم في الجُملة مؤكِّدًا واحدا أو أكثر؛ ليواجه بها شكَّ المخاطَب أو إنكاره - وإن لم يكن مُنكِراً في حقيقة الأمر- وينبغي أن نشير إلى أنّ المُؤكِّدات في هذه الأغراض البلاغيّة ليست إضافاتٍ شكليّة زخرفيّة، ولكنها تمثل إضافات لغويّة تُعطي قوة للمعنى، ومن ذلك قوله (كان يقول إن طرقات القرية أكثر حظاً منهن حيث تمشى فيها البغال والحمير عارية) فقد ورد في النص أداة التوكيد (إنَّ) فيما يشبه أن تصوُّر المتلقي قد شكَّ في الخبر الذي هو أن طرقات القرية أكثر حظا من الأرامل؛ لأن الطرقات تمشي فيها البغال والحمير عارية، أي دون خجل على عكس الأرامل التي تخجل من التصريح برغباتهن وإن كانت مشروعة، وعندما تصوَّر المبدع شكَّ المتلقي في هذا الخبر أورد التوكيد؛ ليؤكد صحة الخبر الوارد على لسان المبدع، وبذلك أنزل المبدع المتلقي الخالي الذهن منزلة الشاكِّ فأورد التوكيد، وتكثر المؤكدات كلما ازداد شكَّ المتلقي في الخبر.
لقد ساهم التشكيل البلاغي في النص في الكشف عن ملامح الرؤية المتخفية خلف شبكة العلاقات اللغوية، وتحولت العلاقات البلاغية إلى معادل للعلاقات اللغوية في النص.
وهنا تضع الدراسة عصا الترحال لتكتفي بهذه الإشارات موقنة أن النص يشتمل على الكثير الذي يمكن قوله، ولكن الإشارة تكفي المتلقي الذكيَّ الذي يستنتج مما أشير إليه سابقا كلَّ ما لم تشر إليه الدراسة.
كاتب الخطابات
شعر البهاء حسين
كان يربّى الكلمات فى فمه
كما تربى أمه الكتاكيت فى باحة البيت
تلك التربية التى لا يمكن أن تعرف
كم من السنوات استغرقت ولا كم من التجاعيد
لكنها تظهر فى اليدين
*
كان يتصرف فى حصة القرية من الكلمات
كأنه وريثها الوحيد
بحيث يجد لكل قلب ما يناسبه
يعرف من انتصاب الحلمات
أن إحداهن تريد أن ترسل خطابًا إلى زوجها المغترب
من شحوب الوجه
من اللوعة
من اشتياق الملامح ليد تلمسها
من العين حين تلمع وتصبح سريرًا
يعرف أن السيدة بحاجة لأن تتقمص دور ملاءة تتلوى
وحين لا تتوفر الكلمات التى تلبى الحب
يلجأ إلى تذكيرها بأحزانها
ربما أرادت أن ترسل خطابًا إلى أخيها الذى مات فى الحرب ولم يجدوا جثته
فأرسلوا أشياءه بدلاً منه
الجورب الغليظ وبقايا جرة المشّ
وصورة مكرمشة لحبيبته
ولأن كاتب الخطابات لا يجد عند السيدة دموعاً تكفى لنصب مأتم
يستلف من الرصيد الحىّ كلمات مؤثرة
تقبّل المرسل إليه والعنوان
وعندما ينتهى
تلزق السيدة الخطاب بلسانها
لتطمئن على أنها أحكمت المظروف على الوحشة
*
ياما كتب عن نفسه
وهو يكتب للأرامل خطابات يستنجدن فيها بالحظ
كان يقول إن طرقات القرية أكثر حظاً منهن
حيث تمشى فيها البغال والحمير عارية
لا شىء يستر رغباتها
كان يكتب أن الأرامل أولى من الطرقات بهذه التلقائية
لكن لم يعرف أبداً لمن يوجه الخطابات !
*
حتى القرية
كان يكتب بالنيابة عنها خطابات إلى الله
عن انتظارها المزمن
عن البلهارسيا قبل أن تتقوض سلطتها
عن الأقفال الصدئة التى ملَّت دورها
عن البيوت الواطئة التى لم تكن قادرة يومًا على تبرير فقرها
كان يكتب أحياناً فى الهواء
دون أن ينسى وضع النقاط على الحروف
غير أن الله لم يكن يحفل بالرد على ولد
يستخدم الدموع على أنها حبر أو كلمات
*
يا الله
الأرامل ما زلن ينتظرننى
وشوارع القرية أخذت منى خطواتى على سبيل الرهن
لحين الوفاء بالدين
فلا تحرج أصابعى
أقلامى الجافة التى كتبت إليك
أن تسمح لـ " أبى " بزيارة أمى
حتى فى أحلامها
أن يستأذن من قبره ساعة كل ليلة ويترك لها
ما يكفيها من المصاريف والقبلات
كى تكفّ عن البكاء
*
أنا كاتب الخطابات يا رب
كانت السطور تجرى تحت يدى كما تجرى السنوات دون أمجاد
بالعكس
كم من حياة ترملتْ فى صناديق البريد بسببى
عاد الأزواج فوجدوا زوجاتهم فى حضن التراب
وأحياناً كانت خطاباتى تذهب إلى العناوين الخطأ
ومرات كثيرة لم تستطع اجتياز الحدود
أنا كاتب الخطابات
عشت عالقاً
أتجول فى المسافة بين كل قلبين
حتى تحولتُ إلى خطاب أرسل منذ زمن بعيد
لكن لم يصل عليه جواب .
(3) د . محمد سعيد شحاتة، قصيدة المديح في شعر حمد أبو شهاب: مقاربة نقدية، 150
(4) التعريفات، ص 13
(5) الإيضاح في علوم البلاغة 3/196
(6) شاذلية سيد محمد السيد، السياق وأثره في بيان الدلالة، ص 6



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى