صديقة علي - مِلْحُ الذَاكِرَة.. قصة قصيرة

[SIZE=22px]يجرّبُ الفراغَ، وقد أصبحت ذاكرتُه صفحةً بيضاء . يلاحظ ُ أنّهُ يعنيْ الكثيرَ لعائلتِهِ لكنّهم غرباءُ عنْ ذاكرةٍ يتسابقونَ لإنعاشهِا فتصدُّ أبوابَها بوجهِ محاولاتِهم ...هُمْ يستبسلونَ في إثباتِ وجودِهم فِيها وهي تئِنُّ من وطأةِ خواءٍ لا يتسعُ لَهمْ .[/SIZE]
دَعَوْهُ إلى وليمةِ حُبٍّ وصورٍ ..فرشَوا لَهُ ماضيَهِ على طاولةٍ مستديرةٍ ...صور َطفولَتِه ، حفلَ تخرّجِه ،عرسَه ..ببرودٍ يرفضُ وليمةٍ مذاقُها معدومٌ كهواءٍ باردٍ ..سألَهم مرهقاً بسببِ إلحاحِهم : هَلْ الحُبّ ُممكنٌ دونَ ذاكرةٍ حتّى ولو مُلّحَ بالصّورِ؟ مِلايينُ الخلايَا في دماغِه تَوَقَفَتْ على اسمٍ وحيدٍ يبحثُ عنه في الغرفِ البيضاءِ والسوداءِ بشرود يلهجُ بِذِكرِهِ:
ـ أينَ ناصرٌ؟
سألَت زوجتُه: من ناصرٌ ؟؟
لا جوابَ سوى نظراتٍ صقيعياتٍ، وصمتٍ، ودهشةِ الجاهلِ بما يسألُ.
كانَ الطبيبُ قد أخبرهَا (زوجُك قد يتوهّمُ أحداثاً لم ْتحدثْ وأشخاصاً لا وجودَ لهَمْ)
حتماً ناصرٌ من ضمنَ هذهِ الأوهامِ ..
نظراتُ الشفقةِ التي انهالَتْ عَلِيْهِ من زوّارِه، تِزيدُ مِنْ تَوتُّرِهّ وهمساتُهم سهامٌ تنغرزُ في قلبِ أُمِّهِ.
يقينُها بالمزارِ المقدَّسِ الّذي أعادَ لهَا ابْنَها من ساحاتِ الموت،ِ جَعَلَهَا تُصِرُّ على تَكْرَارِ الزيارةِ و الوفاءِ بنُذرِها. وتقدمةِ نذرٍ جديدةٍ علَّها تستردهُ من قرارةِ بئر عميقٍ.
الطريقُ ثقيلٌ والحواجزُ الّتي فِرضَتْها الحربُ تَزيدُه ثّقْلاً.وعَينَاهُ تبحثانِ في كلِّ الوجوهِ عن وجهٍ واحدٍ فَقَط. زوجتُه تبسملُ وأمُّه لا تخبّئ دموعَها وهي تشرح له كدليلٍ سياحيٍ..مع عبارةِ :ألا تَذكرُ .. القريةَ وذاكَ الشارعَ ومدرستَك هذه؟ ...هو لا يجيبُ ...بل يغرقُ بعالمٍ لا ملامح له
توقفتِ السّيارةُ عندَ الحاجزِ الأخيرِ ...صرخَ بأعلَى صَوتِه ..(مرحباً ...شباب ..أينَ ناصرٌ؟ )
خبّأَت زوجتُه وجهَهَا بكفيّهَا خجلاً،وحاولَتْ والدتُه ثَنيهُ عَنْ النّزولِ من السّيارةِ ...وأخذتْ تتوسَّلُ إليهِ ( أقبّلُ يد‌َكَ لا تفْضَحْنا ). لكنّهُ تجاهلَ رجاءَها، وغاب َعن نظرها بين الجنودِ الّذين ذُهلوا لمرآه وتحلَّقُوا حولَه
..منهم من قبلّ رأسَه ومنهم من عانَقَه وبعضُهم من اِكْتَفى بلمسَ كَتِفْه ...
يشرئب عنقُه ليحلق بنظره فوق الرؤوسِ و يصرخُ بأعلى صوتِه أين أنتَ يا رفيقي؟...تعطّلَ مرورُ السّياراتِ فقد كانَ المشهدُ شهياً للمتابعةِ ..ونسيَ الرّكابُ ضجرَهم ...وترددَ صوتٌ قويٌ من خلفِ المحرسِ الخشبيّ تحتَ الجسرِ :ظَنَنتُكَ مُتَّ يارفيقي
يطلُ الرجلُ من وراءِ الصدى، يعرجُ برِجْلٍ حديديّةٍ وأُخْرَى حقيقيّةٍ ...وشوقٍ لا يـُقدّرُ بعناقٍ أبكى الحضورَ ...
وكطفلٍ فاز بهديّةِ العيد ِ يهزُّ منكبي الرجلِ دافعاً إيّاهُ باتجاه ذهولِهم المبللِ بدموعِ الفرح ِ
ـ:هذه أُمّي .. وهذه زوجَتي وهذا ولدي الحبيبُ...
........... أُعرّفُكم ... هذا ناصرٌ ..
يحدِّقُ بعينيّ أُمِّه وگأنَّه يراهُما للمرة الأُولى ويُتابعُ
عندما نَسفَ اللّغمُ ساقَ ناصر، انهالَ الرصاصُ عليَّنا من كلِّ حدبٍ وصوبٍ ..حينها قالَ لي أنا ذاهبٌ حتما ً فلْتَبقَ أنتَ .. و غطَّانِي بِجَسَدِه ...

صديقـة علي


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى