رسالة من الدكتور أمين الزاوي إلى الروائي ياسمينة خضرا

2011/06/29

الصديق العزيز الروائي ياسمينة خضرا تحية أدبية صادقة وبعد:

إذ جاءنا النبأ الأدبي البهيج، سعدت كثيرا: سعدت لتتويجك بجائزة الأكاديمية الفرنسية، جائزة هنري غال الأدبية الكبرى، أعرف أن هذا ليس هو التكريم الأول فقد حصدت رواياتك عشرات التتويجات ولكن على المستوى الرمزي يظل هذا التكريم أهمها جميعا، ربما. وسعدت أيضا أن تكرمك وفي الأسبوع نفسه مملكة البحرين بأرفع وسام ثقافي أدبي فيها، وسعدت أيضا على حصول الروائي المبدع بوعلام صنصال على جائزة السلم من ألمانيا وهي الجائزة التي حصلت عليها قبل عشر سنوات الروائية وعضو الأكاديمية الفرنسية آسيا جبار، كان ذلك في أكتوبر 2000.
هنيئا لكما وللجزائر الأدبية على هذا التفوق.
صديقي الروائي ياسمينة خضرا لا أخفيك أنني وأنا أتابع بعض تصريحاتك الصحفية على هامش هذا التتويج الذي أنت أهل له لمست في حديثك نوعا من المرارة الطافية على شعور سعادة الانتصار والنجاح، تصريحات تشير وإن بشكل مباشر أو غير مباشر أساسا إلى تنكر أو إهمال البلاد لأبنائها الموهوبين، لسفرائها الحقيقيين، سفراء على غير العادة.
مثلك يا صديقي انزعج كثيرا لاحتفالنا الزائد بأنصاف المبدعين الذين نستقبلهم من الشرق أو الغرب أو من الوطن ونخصص لهم حرسا وخدما وحشما وحين يدارون الظهر يضحكون منا ومن سذاجتنا، وأعرف منهم الكثيرين وسيجيء الوقت للتصريح بأسمائهم من بيروت إلى باريس إلى داكار.
صديقي الأديب الكبير ياسمينة خضرا لا تحزن، فأنت صنعت مجدك الأدبي حجرا حجرا دون أن تتكئ على متكئ مشبوه، يا سليل الثوار المجاهدين والشهداء.
أتذكر يا صديقي يوم كنا بوهران، مطلع التسعينيات، وزرتني ذات يوم بقصر الثقافة الذي كنت وقتها مديرا عليه وحدثتني على الدعوة التي وصلتك من المكسيك لحضور ملتقى أدبي ولكن الجهة التي كنت تنتمي إليها وهي المؤسسة العسكرية رفضت الترخيص لك بالمشاركة فكانت الدموع بادية في عينيك وأنت تبلع هذه الحالة وتقاوم اليأس بالقراءة والكتابة.
كنت أستمع إليك، حتى وأنت في لباسك الكاكي، كنت تتحدث شاعرا، تتحدث بشغف عن همنغواي وفيكتور هيغو ومحمد ديب وجبران خليل جبران وغارسيا لوركا ونزار قباني ونجيب محفوظ... كنت أراك غريبا في لباسك العسكري، مفارقة عجيبة ما بين هندام عسكري ولغة شاعرية. شاعر بخطاب أدبي راق في لباس مؤسساتي، فيك ومنك تغيرت كثير من المعطيات والإيمانات المطلقة التي كانت تسكنني عن المؤسسة العسكرية وعن الجيل الجديد من العسكريين المثقفين. ومع كل حرصك على الانضباط إلا أنك استطعت وبمعاناة كبيرة أن تصنع صوتا آخر لجيل جديد في المؤسسة العسكرية. صوت مغاير، صوت يسكن خطابا جديدا حداثيا. صوت الإبداع في منطقة الخطر. أليس الأديب مُحارِبٌ ومُحَارَبٌ دائما؟
صديقي الأديب الكبير ياسمينة خضرا هنيئا لك التكريم من باريس إلى المنامة؛ تكريم يقول لك لا تصالح الرداءة، هكذا قال الشاعر المناضل الشريف أمل دنقل ذات قصيدة استثنائية:
لا تصالحْ!
.. ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك،
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى.
فأنت بنيت مجدك بيديك وباجتهادك وبتعبك ومن فقرك وتشردك.
أُتَذْكُرُ يا صديقي ذاك اليوم الذي التقيتك فيه بالحي الأسطوري الشعبي المدينة الجديدة بوهران وعرضت عليك دعوة لتكون ضيفي على برنامج "أقواس" الذي كنت أعده وأقدمه للتلفزة الجزائرية، وافقت مباشرة وبحماستك المعهودة لرسالة الأدب، لم تكن مشهورا آنذاك ولكنك لم تكن غريبا عن الأدب والكتابة، فقد كنت نشرت مجموعة من المجموعات القصصية والروايات في "المؤسسة الوطنية للكتاب ـ الجزائر"، الآن حتى وأنت في كل هذه الشهرة العالمية لم تتغير نبرة صوتك المتحمس دائما للأدب والأدباء. أذكر أنك فرحت للدعوة ورحبت بها، قلت لي، بعد أن اتفقنا على تاريخ محدد لتسجيل الحصة: علي أن أطلب رخصة من المؤسسة العسكرية التي أنتمي إليها. وافترقنا وحين سألت عنك أياما قبل موعد التسجيل قيل لي إنهم حولوك من ثكنة المدينة الجديدة بوهران إلى تمنراست!! قلت في نفسي إنها حياة العسكريين. ومضت سنوات، وإذ أنا بمدينة فيرني فولتير Ferney-Voltaire لتقديم روايتي "الغزوة" (La razzia) طلب منك المنظمون أن تدلي بشهادة عن تجربتي الأدبية وعن علاقتنا الأدبية والثقافية، كان ذلك عبر الهاتف، كان ذلك ليلة أول نوفمبر، وكنت لاتزال لم تغادر المؤسسة العسكرية، وقد فوجئت بما جئت به في تلك الشهادة والتي كان الحاضرون يستمعون إليها مباشرة عبر مكبر صوت للمكالمة الهاتفية، وعدت إلى حكاية برنامج أقواس وموعدنا الذي لم يتحقق وقلت: "لقد كنتُ أنا السبب في إبعادك من مدينة وهران إلى مدينة تمنراست، إذ أنك بمجرد أن قدمت طلبا للسماح لك بأن تكون ضيفا على هذه حصة الأدبية التليفزيونية قال لك المسؤول العسكري: أتُريدُ أن "تطلع" أو "تخرج"!! في التليفزيون!! قالها ساخرا وفي اليوم التالي عقابا لك تم تحويلك إلى أقصى جنوب الصحراء، كانت تلك واحدة من الفواتير البسيطة التي دفعتها من حياتك دفاعا على الأديب فيك، حفاظا على صوت المبدع فيك.
صديقي الروائي ياسمينة خضرا لا تحزن وأنت الذي حين ألحقتك أسرتك طفلا بمدرسة أشبال الثورة بتلمسان شرفت بانضباطك المؤسسة العسكرية وكنت كبيرا في مواجهة الإرهاب بحياتك ولم تتهاون في الدفاع عن قيم الجمهورية، وحين قررت أن تكون أديبا روائيا كنت كبيرا أيضا، لقد شرفت الجزائر محاربا شريفا وها أنت اليوم تشرفها كاسم أدبي عالمي، ماركة جزائرية عالمية.
حين رُفِعَ الستارُ عن الاسم الحقيقي الذي يختفي خلف "اسم ياسمينة خضرا" وكان اسمك، الكثيرون من أشباه الكتاب وأنصاف الموهوبين لم يصدقوا، بل إن بعضهم أصابته الصاعقة. أتذكر يا صديقي حين زرتنا بشقتنا بوهران بشارع محمد خميستي كنت وزوجتي الشاعرة ربيعة جلطي بانتظارك، حول فنجان قهوة وحديث أدبي متشعب، فاجأتنا بأن أحضرت معك لنا روايتك الجديدة "بِمَ تحلم الذئاب"، والتي ترجمتها لاحقا إلى العربية ولم تعجبك الترجمة، لا يهم، أهديتنا النسخة وكشفت لنا بأنك أنت هو من يوقع باسم ياسمينة خضرا، لم أتفاجأ لهذا السر وكذا لم تتفاجأ ربيعة لذلك، فأنا أعرف عنادك وإصرارك وجنونك الأدبي، وحكيت لك ساعتها ما ادّعاه صديقنا القاص المبدع شوقي عماري والذي كنت قد التقيت به في واحدة من طبعات مهرجان "24 ساعة للكتاب" الذي ينظم سنويا بمدينة لومان Le Mans الفرنسية إذ قال لي ونحن على مائدة العشاء حيث كان هو الآخر مدعوا: إنه هو من يختفي خلف اسم ياسمينة خضرا.
لا تيأس يا صديقي فأنت أصبحت مؤسسة رمزية كبيرة، بواسطتك ومن خلال اسمك أخذت الجزائر مساحة أكبر في الوجود، ومن يتجاهلك اليوم سينساهم التاريخ الذي لن يحتفظ إلا بمن هم من أمثالك من المبدعين الخالدين.
لا تيأس يا صديقي فأنت الأبقى في ذاكرة القراء في الجزائر وفي العالم كله، فكم من الحكام والخلفاء والسلاطين والوزراء والولاة مروا وعاشوا قابضين على رقاب الناس ولكن التاريخ مسحهم من ذاكرته واحتفظ وخلَّد من ذاك الزمن الذي عاشوا فيه أسماء من أمثال المعري وأبي نواس والمتنبي والحلاج والشريف الرضي وبدر شاكر السياب وخليل حاوي وكاتب ياسين ومحمد خير الدين وأبي القاسم الشابي...
شكرا لك صديقي الروائي ياسمينة خضرا على أنك أعطيت القارئ في 41 بلدا محبة جديدة للكتاب وعطرا آخر للرواية، وهنيئا لك الانتصار يا شبل الثورة، هنيئا لك التكريم من المنامة إلى باريس.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى