محمد عكاشة - التنورة..

حين وقف أمامي- بعد طول غياب- ظننته قد سقط من فرط شدة الدوران، وحسبته قد ذاب مع عدد اللفات الكثيرة التي كان يلفها، أو ربما طار بتنورته محلقًا في الهواء، حين وقف أمامي- لم أعرفه، فقد كست التجاعيد ملامح وجهه، وضمر الصدر، الذي كان يومًا ما عريضًا على جسد ممشوق وملفوف بعناية، ولكنه عندما لمح اندهاشي من وقفته المفاجئة هذه أمامي، قفز على ترابيزة القهوة ورفع قدمه اليسرى، وارتكز بقدمه اليمنى في رشاقة لاعب باليه محترف، رغم تهدل بطنه وتضخم ردفيه، وصاح: ها؟ إفتكرتني؟ ساعتها لم أتمالك نفسي من فرط الضحك، ولم ينفض المريدون من المقهى من حوله، إلا عندما قفز بجسده متشقلبًا في الهواء ليسقط أمامي قائلًا: أنا راجح.. ألا تتذكرني وتتذكر تنورتي التي كنت جوالًا وراءها كي تشاهدني وأنا أتحدى جاذبية الأرض بأطراف أصابع قدميَّ؟ ألا تتذكر الألوان التي كانت تتماهى في انسجام، فيدخل الأخضر مع الأحمر، والأزرق مع الأبيض والبرتقالي حتى تبرق التنورة بكل ألوان الطيف؟ كنت تجلس في الصف الأمامي كل مرة، لتراني عن قرب، أنا راجح صديقك القديم، أي نعم لم ترني منذ خمسة عشرة عامًا ولكن لم أنسك، أنت هنا، وأشار إلى ناحية الصدر، في القلب، حينها ارتميت في حضنه، ولكنه ضمني بحميمية والدموع تهطل من عينيه، احتضني ولف بي عدة لفات بسرعة، وكأنه بلفاته هذه يحاول الرجوع للزمن الذي يجمعنا عندما كنا نعيش معًا في غرفة ضيقة على السطح، تطل على سريان النهر.
سحب الكرسي بخفة وجلس محدقًا في وجهي ليحكي أعوامه التي مضت وكيف أخذته التنورة بعيدًا، وعن الموالد التي جعلته يقفز في كل مكان ككرة مطاطية لا تستكين، وعن الفنادق التي أوفدته إلى عدة بلدان في الخارج وعن براعته في ابتكار عدة طبقات جديدة لتنورته، والدفوف والمزامير والحركات الصعبة التي لا يجيدها سواه، وحين وضعتُ يدي على كتفه وسألته: تزوجت؟ سكت، وواصل حديثه عن النساء اللاتي عرفهن، ووصف المرأة أنها مثل التنورة متعددة الألوان تلفها على خصرك وتظن أنك امتلكتها ولكن بعد برهة قصيرة تتهدل على رجليك وتسقط منك، وأنها تدور بك وتدور بها بحثًا عن عالم آخر ستظنه بين يديك، لكن سرعان ما يتلاشى هذا العالم بسرعة مذهلة كسرعة هذا الدوران، أكدت له: أنت الوحيد المسيطر على هذا الدوران، ضحك بأعلى صوته وأشار لصبي القهوة بحجر شيشة، استنشق نفسًا عميقًا، وزفر بدخان كثيف في وجهي، متمتمًا: أنا أيضًا كنت أظن ذلك، ولكن عرفت أن التنورة هذه هي التي تحركني وتلف بي، هي خادعة، تغرر بي حتى ألفها حول خصري، بعدما تجذبني بقوة كي ألف بها، أبدو متثاقلًا ولكن بعد لحظات أدور حولها بسرعة جنونية، وهي تلف متشبثة بي في جنون، قاطعته وكررت سؤالي: هل تزوجت؟ بص لي باستغراب، وتابع حديثه: التنورة، تمثل لي الحياة، عند كل رقصة أستحضر امرأة أحببتها فنرقص معًا ونلف العالم في هذه اللحظات القليلة، فتحكي لي وأحكي لها، أعانقها وتقبلني، أعتليها وتعتليني، نرسم دوائر متداخلة ومتلاصقة، ونبني بيوتًا وحدائق وأنهارًا وسماوات، ويحضرني أبي بملامحه الحادة وأمي بانكسار جفنيها حين ماتت على يد جندي أمن مركزي وسط شارع عطا مدافعة عن بضاعتها التي تفرشها، عندما أبدأ في الدوران تظهر صورتها أمامي كهدف ونقطة ارتكاز، ألف وأعود إليها، وتمر حياتي كشريط سينمائي يدور ليعرض كل ما مر بي، وأبي قلما يحضر دوراني، ولكن إذا جاء، أراه يجرجرني من قدمي، وعصاه تنهال على جسدي فيأخذني البكاء وأنا ألف كمروحة سقف منسجمًا مع دقات الدف وصوت المزمار الحزين، فيزداد التصفيق، وأنا أسمو بروحي لتتلاحم مع الأرواح التي فقدتها، وأعيش معها تلك اللحظات، ووقف فجأة ليودعني وقال: هاشوفك، في الغرفة القديمة فوق السطح، ألا تتذكرها؟
مشى، وقبل أن يمشي قذفني للوراء متحديًا فعل الزمن وحركة الكواكب، التي يرصدها القلب ويستجيب لها الجسد، كنت أشاهده مشدوهًا بتنورته، فهي تمثل لي حركة الكون التي تغير ملامح الكائنات في كل لحظة، والتي تحتفظ بكل الأحداث والحكايات التي تمر بنا، فتسجلها لتكون شاهدة علينا، إن الإنسان يتحرك وبداخله أسطوانة معبأة بكل ما مضى، ولا بد أن تمتلئ هذه الأسطوانة عن آخرها قبل رحيله، فيأخذها معه حتى لو تحلل جسده ولكن تبقى هي، قابعة داخل روحه التي تحلق في السماء، وتنورة راجح كانت تمثل لي أسطوانة مليئة بكل ما مضى، فظللت ملاصقًا له في غرفة فوق السطح كي يعبئ أسطوانته بكل ما عرفه عني، ليعرضها في رقصاته، وأجلس أمامه مرة منتشيًا ومرة حزينًا، ولكن كان برقصاته يفرغ ما بداخلي في شكل حركات لم أقدر على تقليدها، وحين حاولت مرة أقلده على السطح، وقعت مغشيًا عليَّ، حينها شدني من يدي قائلًا: أنت لا تقدر على تحدي الجاذبية، الأرض تلف أسرع منك، بعدها تعهدت أن أقوم على خدمته، أغسل له التنورة وأنشرها على حبل فوق السطح، أشترى له أحذية خفيفة، أدق له على الدف عند التدريب ليضبط الإيقاع، أطهو له الطعام في الليل، وهو يصطحبني في كل رقصاته.
فجأة وجدتني أمامه، كان راقدًا على كنبة بلدي بجوار الباب وتنورته مكومة أمامه، معلق على الحائط صورة له وهو يرقص وبجوارها صورة أمه وهي تبيع أوراق الحظ، ولعب الأطفال، وما شدني صورتي التي علقها في السقف متدلية بحبل رفيع، حتى إذا لفحها الهواء تتحرك وتلف، قام متثاقلًا وأشار: فاكر عندما كنت تترك عملك في تلوين الجدران لتطهو لي الطعام؟ وعندما كنت تحكي عن أبيك الذي سقط تحت عجلات القطار؟ وعن بلدتك التي هربت منها بعد هذا الحادث؟ قلت: عجلات القطار لفت لفاتها الحادة وأخذت أبي، وتنورتك تلف لفاتها فتأخذني إلى عالم أفتقده، إن الدوران هو سر بقاء الروح في كل الكائنات، ونحن إما أسطوانات معبأة تدور لتعبأ، أو أسطوانات تدور لتفرغ ما بها من أحزان وأفراح، وأحداث، قال: لهذا علقت صورتك هكذا متدلية من السقف كي تلف أمامى، وأقف على سور السطح وأرمي بطوبة على صفحة مياه النهر، كي أرى الدوائر التي ترتسم وتتلاشي كتلاشي اللحظات والأيام والسنين، وحين يأخذني البكاء وتلف بي الأرض بعد سهر طويل، أرى أمامي فقاعات مياه مستديرة تهاجمني لتجهز علىﱠ، فأعرف أن وقت الراحة قد حان، فأنام عدة أيام حتى تتوازن حركة الكون بداخلي، وأعاود الرقص وسط المداحين في الموالد حتى ولو لم يطلبني أحد، وأتذكر عندما كنت تأتي حاملًا جردل الألوان ووجهك ملطخ بألوان سميكة كبلياتشو مهرج يضحك الناس، ويضحك هو، كنت أراك بهلوانًا يضحك على الحياة وأرى نفسي مجرد دائرة مفرغة ليست لها نقطة ارتكاز.
لم أستطع أن أقاوم نوبة البكاء التي انتابتني والرعشة التي هزت جسدي، والدوران الذي أمتلك رأسي.
لم أدرك أن راجح حين لقاني صدفة بعد طول غياب، أنه كان يبحث عن أيام افتقدها وعندما رآني، مرقت الأيام أمامه كقطار طويل مكدس بالناس والحكايات، ولم أعِ أن مرور الزمن على راجح وتنورته، شكله كائنًا شفافًا تخترقه كل الأرواح الهائمة من حوله.
ودعته مسرعًا على درجات السلم المتهالكة وحين خرجت من بواية البيت صاح ضاحكًا لأشاهده، نظرت لأعلى، وجدته واقفًا على السور الرفيع المطل على الشارع، يرتكز بقدم واحدة والأخرى في الهواء لابسًا تنورته، يناديني مصفقًا وهو يرقص ويلف بثقل جسده متشقلبًا كلاعب سيرك، ناديته متوسلًا ليهبط، ضحك بأعلى صوته مقهقهًا، وفجأة وثب بجسده لأعلى فانتفضت التنورة كمظلة هوائية حملته بعيدًا عن حرف السور، حملته لحظات ولكن خدعته جاذبية الأرض فاختل توازنه وتهاوى كطائر خفيف أصابته طلقة صائبة، سقط مرتطمًا بالأرض الجامدة الجافة، وتنورته محكومة حول خصره بعناية وحوله دوائر دماء وألوان حمراء وخضراء وبيضاء كألوان الطيف حين يهطل المطر.

محمد عكاشة
مصر

- من كتاب دقات الصادر مؤخرا من الهيئة المصرية العامة للكتاب


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى