رسالة من عبد الهادي التازي الى الأستاذ روم لاندو

وهو تقليد سليم، قد تأخذ به هذه المجلة، وإن كنا نرى أن على كل مجلة، ومن حقها أيضا، أن تبتكر لنفسها أساليبها الخاصة بها.
هذا. يا حضرة الأستاذ، فيما يتعلق بالمجلة نفسها. أما عن ((آرائكم الصحيحة)) في إنتاج الكتاب الذين تناولتموهم بالنقد، فنحن لا نريد أن ندافع عن أي واحد منهم، لأن في استطاعة كل واحد منهم أن يجيب عن نفسه، ونرجو أن يفعلوا.
على أننا قد نخالفكم في بعض آرائكم في هذا الإنتاج، ولكن بسط ذلك لا يتسع له هذا الباب، وقد تجدون شيئا منه في غير هذا العدد، أو في صفحات أخرى غير هذه، من هذا العدد نفسه.
وأخيرا نكرر شكرنا لكم، ونتمنى لكم اتصال النشاط، وإلى اللقاء معكم في فرصة أخرى.
أخي .....
أعتذر لك أصدق الاعتذار عن تأخري في الرد على هديتك الجميلة وخطابك الرائع، بمرضي، فقد كانت هديتك آية من آيات الرضا، التي تلقيتها في فراشي، فأمتعتني وملأت حياتي، وأعادت أحلامي القديمة الباقية في رؤية هذه الحصون الإسلامية العربية في مغربنا الحبيب، حيث تاريخ الإسلام يرسم بصورة ضخمة عظيمة هذه الأمة ويؤكد قرب ذلك اليوم الذي ننتظره لتجمعها.
وإني لكبير الأمل في أن تعفو عني وتصفح. وأن تبلغ أصدق التحيات للأستاذ الجليل عبد الله كنون، وزملائك في المجلة الأعلام، أمثال: إبراهيم الكتاني، وعبد الوهاب بن منصور، وعبد المجيد بن جلون، وعلي الصقلي. ولقد سمعت حقا بإخراج المجلة وموضوعاتها، وتمنيت لو سمحتم لي بالكتابة فيها.
وإني لأرجو أن تتاح لكم فرصة قريبة فنراكم في القاهرة، أو تروننا في الرباط، بإذن الله، والله يرعاكم ويحفظكم والأخوة العربية.
وإلى اللقاء في خطاب كبير واسع، نتناول فيه شؤون الفكر على نحو أوسع، مستعينا بخبرتكم في تعرف بعض الجوانب التي قد أحتاج إليها في رسالتي.
والسلام عليكم ورحمة الله.
لقد كتب الأستاذ روم لاندو عن القرويين ما قرأه الناس في العدد الماضي من مجلة دعوة الحق، وكان المقال كما علق عليه ((لا يتناول فقط جامعة القرويين وحدها، ولكن يتعداها في كثير من الاستطرادات إلى شؤون أخرى تمس حياة المغرب عامة))، ولست أريد هنا أن أتناول بالتعليق إلا جانبا واحدا من جوانب المقال: ذلك بعض الحقائق التاريخية والمعمارية عن الجامعة.
لقد اعتدنا أن نقرأ للسادة الذين يعنون بشؤون هذه البلاد ((حقائق)) أقل ما يقال عنها أنها صور ((تقريبية)) وأحيانا ((بتراء)) لواقعنا التاريخي. لكنا في أكثر الأوقات كنا نلتمس العذر لأولئك الكتاب، فبعضهم كان يتوفر على معلوماته من مصادر تجهل كل شيء عن شؤوننا، وفيهم من كان يعتمد ((خلق)) الأساطير والروايات ويعتمد ((افتراض)) أرقام معينة لكي يثير رغبة السياح ويوجه انتباههم لما يقول، على أن في أولئك الكتاب من كان في أحاديثه مغرضا يرى الحق ويتعامى عنه، ويعرف الصواب ويحيد عنه، كنا نتلمس العذر لأولئك ولهؤلاء، فقد كانت الأبواب موصدة أو شبيهة بالموصدة في وجود الباحثين، أما اليوم فكل واحد في استطاعته أن يستفسر وأن يستجوب، وخاصة إذا كان ينعم بعطف المواطنين وتقديرهم، وخاصة إذا كان من أمثال المستر روم لاندو الذي عاش مرتبطا بالمغرب والمغاربة سواء في أوقات السراء و الضراء..
لقد اجتمعت بهذا السيد الأستاذ، وقد كان كتب ما كتب عن القرويين، ولكني لم أكن على علم تام بتفاصيل أحاديثه عنها، واليوم وقد أتاح لنا الأستاذ السيد محمد الخطيب، الفرصة، لابد أن تفتح أمام الأستاذ لاندو بعض الصفحات عن تاريخ القرويين:
لقد ذكر الأستاذ أن القرويين أسست في حدود سنة 857، وهي قولة كثيرا ما رددتها كتب المؤرخين الإفرنج، والحقيقة أن القرويين لم يوضع حجرها الأساسي إلا يوم الثلاثين من نونبر 859م (فاتح رمضان سنة 245).
وذكر أن القرويين أصبحت مسجدا جامعا تقام فيه الخطب، وتذكر على منبره أسماء الخلفاء مند سنة 918، ولكن الوثائق التاريخية تؤكد أن ذلك لم يتم إلا سنة 307 أي فيما بين سنة 919 وسنة 920.
والطريف في حديث الأستاذ لاندو عن القرويين هو أنه ذكر أنها تسع مائتي ألف نسمة (200.000) وهو رقم طويل كما ترى، يستدعى أن نرجع إلى معرفة مساحة القرويين:
تقدر الكتب القديمة المسافة بين شرق القرويين وغربها بثلاثمائة وثمانين شبرا، (وما يعادل واحدا وثمانين مترا وسبعين سنتيما)، وبثلاثمائة شبر من الجنوب إلى الشمال أي (ما يعادل أربعة وستين مترا وخمسين سنتيما) فتكون مساحة المسجد خمسة آلاف ومائتين وسبعين مترا مربعا تقريبا، وهو نفس المقياس الذي تعطيه التصميمات الحديثة، فإذا ما أضفنا مساحة الجنائز (200 متر)، وإذا ما دققنا الحساب في الركن الغربي الشمالي (10 أمتار) بلغت المساحة نحوا من خمسة آلاف وخمسمائة متر.
وبعد أن عرفنا المساحة بالأمتار يسهل علينا أن نعرف كم يسع المسجد من المصلين؟ إن البلاط الواحد يسع المسجد من المصلين؟ إن البلاط الواحد يسع أربعة صفوف، في كل صف مائة وستون شخصا على ما يذكره المؤرخون، تلك ستمائة وأربعون، أضفنا إلى مائة وخمسة وعشرين في أساطير البلاط ، تضرب في عدد البلاطات الستة عشر يكون المجموع اثني عشر ألفا ومائتين وأربعين شخصا، فّإذا أسقطت قاعدة الصومعة وبعض الجهات مما لا يمكن أداء الصلاة فيه بقي اعتبار اثني عشر ألف نسمة.
ويرى صاحب القرطاس أن القرويين تسع سبعة عشر ألفا وستمائة وأربعين نسمة، أما إذا أضيف إلى القرويين ما حولها من رحاب وأسواق فإنها ـ كما يقول ـ تسع اثنين وعشرين ألفا تنقص قليلا وتزيد قليلا.
أما صاحب زهرة الآس فيكتفي بثلاثة عشر ألفا، ولعلك وأنت تعرف كم يسعه المتر المربع من بشر، لا تسمح بأن يتجاوز الرقم اثني عشر ألفا على أكثر تقدير، وهذا ما ذهب إليه كثير ممن تحروا الصواب في الحديث عن القرويين، باستثناء الأستاذ مارتي الذي لم يسمح باحتمال القرويين لأكثر من خمسة آلاف شخص، لكن أحدا لم يصل إلى الرقم الذي ذكره المستر روم لاندو، أنه (صفر) أضافته مطبعة مجلة العالم الإسلامي؟
وشيء آخر ذكره الأستاذ لاندو في سياق حديثه عن تاريخ القرويين الفكري، ذلك إدعاؤه أن امتحان الأستاذ للطلبة ((لم يكن معمولا به)) مع أن نظام الإجازة من أبرز ما عرفته هذه القرويين مند عصورها الأولى، ويكفي أن نرجع على سبيل المثال إلى حكاية شاهد (1)عيان عن نظام الإجازة، لا في علم الأصول أو الفقه أو الحديث أو الطب مثلا، ولكن في علوم القرآن، ومن ذلك سنعرف القيمة العظيمة التي كانت للإجازة بالقرويين، إنها دون شك كانت أصعب بكثير مما يتخيل.
لقد كان على المرشح للإجازة أن يمر على سائر آي القرآن ويحفظها كما يحفظ الفاتحة سواء بسواء، وعليه مع ذلك أن يكون على خبرة تامة بجميع الفنون التي يتوقف عليها هذا الحفظ من رسم وضبط وتلاوة، ولا يمكن للمرشح أن يتقدم من أول الأمر إلى ((الأستاذ الكبير)) بل عليه أن ينال رضى أستاذ أقل منه رتبة، وهكذا لا يصل إلى مقام الإجازة إلا بالتدرج من قارئ إلى قارئ فوقه، فإذا أتى إلى الأستاذ المجيز الأول ـ ولابد أن يكون أعلم أهل وقته في هّذا الشأن وأكملهم ـ أمره بادئ ذي بدء يكتب حصة من القرآن من حفظه، ثم رسمها على شكل المصحف، بعد أن يكتب الحصة على ما وصف ويرسمها على الوجه المعلوم المشهور بين العلماء، وبعد أن يضبطها كذلك على قاعدة الضبط المعروف، يأتي إلى الشيخ يعكف رجلا ويقيم أخرى وينصب اللوح الذي كتبه ورسمه وضبطه تجاه الأستاذ، ليشرع في تلاوتها استظهارا بعد التعوذ والبسملة، وهنا يأخذ الأستاذ في توجيه أسئلته العسيرة إلى الطالب الذي يكون عليه ـ ولابد ـ أن يستحضر سائر النصوص في الموضوع، فإذا نال وفاق هذا، انتقل إلى أستاذ آخر يتولى سؤاله بكيفية أكثر عمقا من مختلف وجوه الرسم والضبط وسائر الحروف.. فإذا نجح في هذا كله أمره بالإعراب، فما كان على الأصل أقره عليه، ومالا، نهبه عليه، وهكذا يستمر الشيخ مع طالبه من الفاتحة إلى سورة الناس، فإذا ختم القرآن على هذه الصورة وظهر للأستاذ أن يجيزه، أمر بكتب الإجازة له رافعا له فيها سنده، ويشهد الأستاذ بعد كتب الوثيقة على نفسه أنه أجازه، ثم يضع القاضي خط يده معلما بثبوت الإجازة من الشيخ فلان للأستاذ فلان، الذي درس عليه الكتاب الفلاني لمؤلفه فلان، وأنه يستقصيه تمام الاستقصاء، ويستطيع أن يبلغه كما تلقاه عن شيخه الذي تلقاه بدوره عن شيخه فلان وهكذا ... وما تزال بعض المصادر التاريخية تحتفظ بنص لإجازة شيخ القراء بفاس السيد ابن الفخار لأبي سالم العباسي الذي يرفع فيها السند إلى رب العزة.
وبعد فإن كل ما أرجوه أن لا أتعرض لشعور من الأستاذ لاندو بأنني قد قصدت أن أتهمه بتقصير أو استرواح، بل كان قصدي أولا وأخيرا أن لا يكتفي عند الحديث عنا ببعض المصادر الأجنبية، وله علينا أن نستجيب لأسئلته على موائد يدور فيه الشاي المنعنع الذي يستهويه، ولنا عليه أن يظل دائما ترجمانا لتراثنا في العالم الأنجلوساكسوني .
وبعد، فإنني منذ مدة طويلة وأنا أبحث جد البحث عن نسخة من مقامات بديع الزمان الهمداني، شرح الإمام محمد عبده رحمهما الله، وفي أوائل شهر أكتوبر سنته بالضبط، عثرت على ضالتي المنشودة، وعلى التو شرعت في قراءتها، ومما لفت نظري على وجه الخصوص البيت الأول الذي ورد في المقامة الأذربيجانية وهو:
نزلنا على أن المقام ثلاثة
فطابت لنا حتى أقمنا بها شهرا
وقد شرح الإمام الشيخ محمد عبده البيت المشار إليه أعلاه: (نزل بأذربيجان على أن يقيم بها ثلاثة أيام يستريح فيها من التعب، فطابت له الناحية بما فيها من دواعي الراحة حتى أقام بها شهرا، فكان يومه بعشرة أيام).
ثم عاودت قراءة البيت المذكور مرات عديدة، وأخيرا عن لي أنه سبق لي أن قرأت ذلكم البيت في مجلة (دعوة الحق) فتصفحتها حينئد وطفقت أراجع الأشعار التي جاءت فيها، فاهتديت إلى البيت الأخير من قصيدتكم (تطوان) الذي تقولون فيه:
ذهبنا على أن المقام ثلاثة
فطاب لنا حتى أقمنا بها عشرا
وعندما فرغت من قراءته أخذ مني الدهش مأخذه، لقوة الشبه بين البيتين. مع أن قرونا عديدة تفصل بينهما.
وختاما أبلغكم إعجابي وتقديري والسلام.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى